قوله تعالى : { اتل ما أوحي إليك من الكتاب } يعني القرآن ، { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } الفحشاء : ما قبح من الأعمال ، والمنكر : ما لا يعرف في الشرع . قال ابن مسعود ، وابن عباس : في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله ، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ، ولم تنهه عن المنكر ، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً . وقال الحسن ، وقتادة : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه . وروي عن أنس قال : " كان فتىً من الأنصار يصلي الصلوات الخمس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه ، فوصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاله فقال : إن صلاته تنهاه يوماً ، فلم يلبث أن تاب وحسن حاله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم أل كم إن لاته تنهاه يوما " ؟ وقال ابن عون : معنى الآية : إن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها . وقيل : أراد بالصلاة القرآن ، كما قال تعالى : { ولا تجهر بصلاتك } أي : بقراءتك ، وقيل أراد أنه يقرأ القرآن في الصلاة ، فالقرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم البغوي ، أنبأنا علي بن الجعد ، أنبأنا قيس بن الربيع ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : " إن رجلاً يقرأ القرآن الليل كله فإذا أصبح سرق ، قال : ستنهاه قراءته " . وفي رواية قيل : " يا رسول الله إن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل ، فقال : إن صلاته لتردعه " . قوله عز وجل : { ولذكر الله أكبر } أي : ذكر الله أفضل الطاعات .
أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري ، أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ببغداد ، أنبأنا أبو علي الحسين بن صفوان البردعي ، أنبأنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا ، أنبأنا هارون بن معروف ، أنبأنا أبو علي الضرير ، أنبأنا أنس بن عياض ، حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عباس ، عن أبي مخرمة ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ، وخير لمن من أن تلقوا عدوكم ، فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى قال ذكر الله " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أنبأنا حميد بن زنجويه ، أنبأنا أبو الأسود ، أنبأنا ابن لهيعة عن دراج ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العباد أفضل درجةً عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات قيل : يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر و يختضب دماً ، لكان الذاكر لله كثيراً أفضل منه درجة " . وروينا " أن أعرابياً قال : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنبأنا مسلم بن الحجاج القشيري ، أنبأنا أمية بن بسطام العبسي ، أنبأنا يزيد بن زريع ، أنبأنا روح بن القاسم ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان ، فقال : جيروا ، هذا جمدان ، سبق المفردون ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات " .
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا خلاد بن أسلم ، حدثنا النضر ، أنبأنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت الأغر قال أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده " . وقال قوم معنى قوله : ( ولذكر الله أكبر ) أي : ذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه . ويروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ويروى ذلك مرفوعاً عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عطاء في قوله : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ، قال : ولذكر الله أكبر من أن تبقى معه معصية . { والله يعلم ما تصنعون } قال عطاء : يريد لا يخفى عليه شيء .
وفي نهاية الشوط يربط الكتاب الذي أنزل على محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ويربط الصلاة وذكر الله ، بالحق الذي في السماوات والأرض ، وبسلسلة الدعوة إلى الله من لدن نوح عليه السلام :
( اتل ما أوحي إليك من الكتاب ، وأقم الصلاة ، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ) . .
اتل ما أوحي إليك من الكتاب فهو وسيلتك للدعوة ، والآية الربانية المصاحبة لها ، والحق المرتبط بالحق الكامن في خلق السماوات والأرض .
وأقم الصلاة إن الصلاة - حين تقام - تنهى عن الفحشاء والمنكر . فهي اتصال بالله يخجل صاحبه ويستحيي أن يصطحب معه كبائر الذنوب وفواحشها ليلقى الله بها ، وهي تطهر وتجرد لا يتسق معها دنس الفحشاء والمنكر وثقلتهما . " من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا " . وما أقام الصلاة كما هي إنما أداها أداء ولم يقمها . . وفرق كبير بينهما . . فهي حين تقام ذكر لله . ( ولذكر الله أكبر ) . أكبر إطلاقا أكبر من كل اندفاع ومن كل نزوع . وأكبر من كل تعبد وخشوع .
فلا يخفى عليه شيء ، ولا يلتبس عليه أمر . وأنتم إليه راجعون . فمجازيكم بما تصنعون . .
ثم قال تعالى آمرا رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن ، وهو قراءته وإبلاغه للناس : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } يعني : أن الصلاة تشتمل على شيئين : على ترك الفواحش والمنكرات ، أي : إن مواظبتها تحمل على ترك ذلك . وقد جاء في الحديث من رواية عمران ، وابن عباس مرفوعا : " مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، لم تزده من الله إلا بعدا " {[22599]} .
[ ذكر الآثار الواردة في ذلك ]{[22600]} :
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن هارون المخرمي الفلاس ، حدثنا عبد الرحمن بن نافع أبو زياد ، حدثنا عمر بن أبي عثمان ، حدثنا الحسن ، عن عمران بن حصين قال : سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } قال : " مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فلا صلاة له " {[22601]} .
وحدثنا علي بن الحسين ، حدثنا يحيى بن أبي طلحة اليربوعي حدثنا أبو معاوية ، عن ليث ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، لم يزدد بها من الله إلا بعدا " . ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية{[22602]} .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن العلاء بن المسيب ، عمن ذكره ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } قال : فَمَنْ لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر ، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا . فهذا موقوف{[22603]} .
قال ابن جرير : وحدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا علي بن هاشم بن{[22604]} البريد ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا صلاة لِمَنْ لم يطع الصلاة ، وطاعة الصلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر " . قال : وقال سفيان : { قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ } [ هود : 87 ] قال : فقال سفيان : أي والله ، تأمره وتنهاه . {[22605]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال أبو خالد مَرَّة : عن عبد الله - : " لا صلاة لِمَنْ لم يطع الصلاة ، وطاعة الصلاة تنهاه{[22606]} عن الفحشاء والمنكر " {[22607]} .
والموقوف أصح ، كما رواه الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن يزيد قال : قيل لعبد الله : إن فلانا يطيل الصلاة ؟ قال : إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها{[22608]} .
وقال ابن جرير : قال علي : حدثنا إسماعيل بن مسلم{[22609]} ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر ، لم يزدد بها من الله إلا بُعْدا " {[22610]} .
والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن وقتادة ، والأعمش وغيرهم ، والله أعلم .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا جرير - يعني ابن عبد الحميد - عن الأعمش ، عن أبي صالح قال : أراه عن جابر - شك الأعمش - قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن فلانا يصلي فإذا أصبح سرق ، قال : " سينهاه{[22611]} ما يقول " {[22612]} .
وحدثنا محمد بن موسى الحَرشي{[22613]} حدثنا زياد بن عبد الله ، عن الأعمش عن أبي صالح ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه - ولم يشك{[22614]} - ثم قال : وهذا الحديث قد رواه غير واحد عن الأعمش واختلفوا في إسناده ، فرواه غير واحد عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أو غيره ، وقال قيس عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، وقال جرير وزياد : عن عبد الله ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن جابر .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش قال : أنبأنا أبو صالح{[22615]} عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق ؟ فقال : " إنه سينهاه ما يقول{[22616]}-{[22617]} " .
وتشتمل الصلاة أيضا على ذكر الله تعالى ، وهو المطلوب الأكبر ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } أي : أعظم من الأول ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } أي : يعلم جميع أقوالكم وأعمالكم .
وقال أبو العالية في قوله : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } ، قال : إن الصلاة فيها ثلاث خصال{[22618]} فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة : الإخلاص ، والخشية ، وذكر الله . فالإخلاص يأمره بالمعروف ، والخشية تنهاه عن المنكر ، وذكر القرآن يأمره وينهاه .
وقال ابن عَوْن الأنصاري : إذا كنت في صلاة فأنت في معروف ، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر ، والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر .
وقال حماد بن أبي سليمان : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } يعني : ما دمت فيها .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } ، يقول : ولذكر الله لعباده أكبر ، إذا ذكروه من ذكرهم إياه .
وكذا روى غير واحد عن ابن عباس . وبه قال مجاهد ، وغيره .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن داود بن أبي هند ، عن رجل ، عن ابن عباس : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } قال : ذكر الله عند طعامك وعند منامك . قلت : فإن صاحبًا لي في المنزل يقول غير الذي تقول : قال : وأي شيء يقول ؟ قلت : قال : يقول الله : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] ، فلذكر الله إيانا أكبر من ذكرنا إياه . قال : صدق .
قال : وحدثنا أبي ، حدثنا النفيلي ، حدثنا إسماعيل ، عن خالد ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } قال : لها وجهان ، قال : ذكر الله عندما حرمه ، قال : وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدَّثنا هُشَيْم ، أخبرنا عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن ربيعة قال : قال لي ابن عباس : هل تدري ما قوله تعالى : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } ؟ قال : قلت : نعم . قال : فما هو ؟ قلت : التسبيح والتحميد والتكبير في الصلاة ، وقراءة القرآن ، ونحو ذلك . قال : لقد قلت قولا عجبًا ، وما هو كذلك ، ولكنه إنما يقول : ذكر الله إياكم عندما أمر به أو نهى عنه إذا ذكرتموه ، أكبر من ذكركم إياه{[22619]}
. وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس . وروي أيضا عن ابن مسعود ، وأبي الدرداء ، وسلمان الفارسي ، وغيرهم . واختاره ابن جرير .
القول في تأويل قوله تعالى : { اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصّلاَةَ إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم اتْلُ يعني اقرأ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الكِتابِ يعني ما أنزل إليك من هذا القرآن وأقِمِ الصّلاة يعني : وأدّ الصلاة التي فرضها الله عليك بحدودها إنّ الصّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ وَالمُنْكَر .
اختلف أهل التأويل في معنى الصلاة التي ذكرت في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عنى بها القرآن الذي يقرأ في موضع الصلاة ، أو في الصلاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أبي الوفاء ، عن أبيه ، عن ابن عمر إنّ الصّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ وَالمُنْكَرِ قال : القرآن الذي يقرأ في المساجد .
وقال آخرون : بل عنى بها الصلاة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله إنّ الصّلاة تَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ وَالمُنْكَرِ يقول : في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن العلاء بن المسيب ، عمن ذكره ، عن ابن عباس ، في قول الله إنّ الصّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ وَالمُنْكَرِ من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بصلاته إلاّ بُعْدا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا خالد ، قال : قال العلاء بن المسيب ، عن سمرة بن عطية ، قال : قيل لابن مسعود ، إن فلانا كثير الصلاة ، قال : فإنها لا تنفع إلاّ من أطاعها .
قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن ابن مسعود ، قال : من لم تأمره صلاته بالمعروف ، وتنهه عن المنكر ، لم يزدد بها من الله إلاّ بعدا .
قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا عليّ بن هاشم بن البريد ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك ، عن ابن مسعود ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعِ الصّلاةَ ، وَطاعَةُ الصّلاةِ أنْ تَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ وَالمُنْكَرِ » قال : قال سفيان قالُوا يا شُعَيْبُ أصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ قال : فقال سفيان : إي والله تأمره وتنهاه .
قال علي : وحدثنا إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ صَلى صَلاةً لَمْ تَنْهَهُ عَنِ الفَحْشاءِ وَالمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِها مِنَ اللّهِ إلاّ بُعْدا » .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : الصلاة إذا لم تنهه عن الفحشاء والمنكر ، قال : من تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، لم يزدد من الله إلاّ بعدا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة والحسن ، قالا : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فإنه لا يزداد من الله بذلك إلاّ بعدا .
والصواب من القول في ذلك أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، كما قال ابن عباس وابن مسعود .
فإن قال قائل : وكيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر إن لم يكن معنيا بها ما يتلى فيها ؟ قيل : تنهى من كان فيها ، فتحول بينه وبين إتيان الفواحش ، لأن شغله بها يقطعه عن الشغل بالمنكر ، ولذلك قال ابن مسعود : من لم يطع صلاته لم يزدد من الله إلاّ بعدا . وذلك أن طاعته لها إقامته إياها بحدودها ، وفي طاعته لها مزدجر عن الفحشاء والمنكر .
حدثنا أبو حميد الحمصي ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد العطار ، قال : حدثنا أرطاة ، عن ابن عون ، في قول الله إنّ الصّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ قال : إذا كنت في صلاة ، فأنت في معروف ، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر ، والفحشاء : هو الزنا . والمنكر : معاصي الله . ومن أتى فاحشة أو عَصَى الله في صلاته بما يفسد صلاته ، فلا شكّ أنه لا صلاة له .
وقوله : وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : ولذكر الله إياكم أفضل من ذكركم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن ربيعة ، قال : قال لي ابن عباس : هل تدري ما قوله وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَر قال : قلت : نعم ، قال : فما هو ؟ قال : قلت : التسبيح والتحميد والتكبير في الصلاة ، وقراءة القرآن ونحو ذلك ، قال : لقد قلت قولاً عجبا وما هو كذلك ، ولكنه إنما يقول : ذكر الله إياكم عندما أمر به أو نهى عنه إذا ذكرتموه أكبر من ذكركم إياه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن ابن ربيعة ، عن ابن عباس قال : ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن عبد الله بن ربيعة ، قال : سألني ابن عباس ، عن قول الله وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ فقلت : ذكره بالتسبيح والتكبير والقرآن حسن ، وذكره عند المحارم فيحتجز عنها ، فقال : لقد قلت قولاً عجيبا وما هو كما قلت ، ولكن ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن ربيعة ، عن ابن عباس وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ قال : ذكر الله للعبد أفضل من ذكره إياه .
حدثنا محمد بن المثنى وابن وكيع ، قال ابن المثنى : ثني عبد الأعلى ، وقال ابن وكيع : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن محمد بن أبي موسى ، قال : كنت قاعدا عند ابن عباس ، فجاءه رجل ، فسأل ابن عباس عن ذكر الله أكبر ، فقال ابن عباس : الصلاة والصوم قال : ذاك ذكر الله ، قال رجل : إني تركت رجلاً في رحلي يقول غير هذا ، قال : وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ قال : ذكر الله العباد أكبر من ذكر العباد إياه ، فقال ابن عباس : صدق والله صاحبك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبَير ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال : حدثني عن قول الله وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ قال : ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن داود ، عن عكرمة وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ قال : ذكر الله للعبد أفضل من ذكره إياه .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا ابن فضيل ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ قال : هو قوله : فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ وذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وَلَذِكْرُ اللّهِ لعباده إذا ذكروه أكْبَرُ من ذكركم إياه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ قال : ذكر الله عبده أكبر من ذكر العبد ربه في الصلاة أو غيرها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، عن داود بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى ، عن ابن عباس ، قال : ذكر الله إياكم إذا ذكرتموه أكبر من ذكركم إياه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تُمَيْلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عامر ، عن أبي قرة ، عن سلمان ، مثله .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : ثني عبد الحميد بن جعفر ، عن صالح بن أبي عَريب ، عن كثير بن مرّة الحضرميّ ، قال : سمعت أبا الدرداء ، يقول : «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأحبها إلى مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير من أن تغزوا عدوّكم ، فتضربوا أعناقهم ، وخير من إعطاء الدنانير والدراهم ؟ قالوا : ما هو ؟ قال : ذكركم ربكم ، وذكر الله أكبر » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن عامر ، عن أبي قرّة ، عن سلمان وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ قال : قال ذكر الله إياك أكبر من ذكركم إياه .
قال : ثني أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، قال : سألت أبا قرة ، عن قوله وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ قال : ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه .
قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة قالا : ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه .
قال : ثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن عطية ، عن ابن عباس ، قال : هو كقوله : فاذْكُرُونِي أذْكرْكُمْ فذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه .
قال : ثنا حسن بن عليّ ، عن زائدة ، عن عاصم ، عن شقيق ، عن عبد الله ولَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ قال : ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لربه .
قال : ثنا أبو يزيد الرازي ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن شعبة ، قال : ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولذكركم الله أفضل من كلّ شيء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا عمر بن أبي زائدة ، عن العيزار بن حريث ، عن رجل ، عن سلمان ، أنه سئل : أيّ العمل أفضل ؟ قال : أما تقرأ القرآن وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ : لا شيء أفضل من ذكر الله .
حدثنا ابن حميد أحمد بن المغيرة الحمصي ، قال : حدثنا علي بن عياش ، قال : حدثنا الليث ، قال : ثني معاوية ، عن ربيعة بن يزيد ، عن إسماعيل بن عبيد الله ، عن أمّ الدرداء ، أنها قالت : وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ فإن صليت فهو من ذكر الله ، وإن صمت فهو من ذكر الله ، وكلّ خير تعمله فهو من ذكر الله وكل شرّ تجتنبه فهو من ذكر الله ، وأفضل ذلك تسبيحُ الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ قال : لا شيء أكبر من ذكر الله ، قال : أكبر الأشياء كلها ، وقرأ أقِمِ الصّلاةَ لِذِكْرِي قال : لذكر الله : وإنه لم يصفه عند القتال إلاّ أنه أكبر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن أبي إسحاق ، قال : قال رجل لسلمان : أيّ العمل أفضل ، قال : ذكر الله .
وقال آخرون : هو محتمل للوجهين جميعا ، يعنون القول الأوّل الذي ذكرناه والثاني . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن خالد ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، في قوله وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ قال : لها وجهان : ذكر الله أكبر مما سواه ، وذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : حدثنا خالد الحذّاء ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس في : وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ قال : لها وجهان : ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه ، وذكر الله عند ما حُرم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لذكر الله العبد في الصلاة أكبر من الصلاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السّدّي عن أبي مالك ، في قوله وَلَذِكْرُ اللّهِ أكْبَرُ قال : ذكر الله العبد في الصلاة ، أكبر من الصلاة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وللصلاة التي أتيت أنت بها ، وذكرك الله فيها أكبر مما نهتك الصلاة من الفحشاء والمنكر .
حدثني أحمد بن المغيرة الحمصي ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد العطار ، قال : حدثنا أرطاة ، عن ابن عون ، في قول الله إنّ الصّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ وَالمُنْكَرِ والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر .
قال أبو جعفر : وأشبه هذه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل قول من قال : ولذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه .
وقوله : وَاللّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ يقول : والله يعلم ما تصنعون أيها الناس في صلاتكم من إقامة حدودها ، وترك ذلك وغيره من أموركم ، وهو مجازيكم على ذلك ، يقول : فاتقوا أن تضيعوا شيئا من حدودها ، والله أعلم .
{ اتل ما أوحي إليك من الكتاب } تقربا إلى الله تعالى بقراءته وتحفظا لألفاظه واستكشافا لمعانيه ، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف به بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه . { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } بأن تكون سببا للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها وغيرها من حيث إنها تذكر الله وتورث النفس خشية منه . روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ارتكبه ، فوصف له عليه السلام فقال : " إن صلاته ستنهاه " فلم يلبث أن تاب . { ولذكر الله اكبر } وللصلاة اكبر من سائر الطاعات ، وانما عبر عنها به للتعليل بأن اشتمالها على ذكره هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات ، أو لذكر الله إياكم برحمته اكبر من ذكركم إياه بطاعته . { والله يعلم ما تصنعون } منه ومن سائر الطاعات فيجازيكم به أحسن المجازاة .
ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالنفوذ لأمره وتلاوة القرآن الذي أوحي إليه ، وإقامة الصلاة أي إدامتها والقيام بحدودها ثم أخبر حكماً منه { إن الصلاة تنهى } صاحبها وممتثلها { عن الفحشاء والمنكر } .
قال الفقيه الإمام القاضي : وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات وتذكر الله تعلى وتوهم الوقوف بين يدي العظمة ، وأن قلبه وإخلاصه مطلع عليه مرقو ب صلحت لذلك نفسه وتذللت وخامرها ارتقاب الله تعالى فاطرد ذلك في أقواله وأعماله وانتهى عن الفحشاء والمنكر ، ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حاله ، فهذا معنى هذا الإخبار لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون ، وقد روي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر لونه فكلم في ذلك فقال : إني أقف بين يدي الله تعالى وحق لي هذا مع ملوك النيا فكيف مع ملك الملوك .
قال الفقيه الإمام القاضي : فهذه صلاة تنهى ولا بد الفحشاء والمنكر ، ومن كانت صلاته دائرة حول الإجزاء لا خشوع فيها ولا تذكر ولا فضائل فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان ، فإن كان على طريقة معاص تبعده من الله تركته الصلاة يتمادى على بعده وعلى هذا يخرج الحديث المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن والأعمش قولهم «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعداً »{[9256]} وقد روي أن الحسن أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك غير صحيح السند ، سمعت أبي رضي الله عنه يقوله فإذا قررناه ونظرنا معناه فغير جائز أن نقول إن نفس صلاة العاصي تبعده من الله حتى كأنها معصية ، وإنما يتخرج ذلك على أنها لا تؤثر في تقريبه من الله تعالى بل تتركه في حاله ومعاصيه من الفحشاء والمنكر تبعده ، فلم تزده الصلاة إلا تقرير ذلك البعد الذي كان بسبيله ، فكأنها بعدته حين لم تكف بعده عن الله تعالى ، وقيل لابن مسعود إن فلاناً كثير الصلاة ، فقال : إنها لا تنفع إلا من أطاعها ، وقرأ الربيع بن أنس «إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر » ، وقال ابن عمر { الصلاة } ها هنا القرآن ، وقال حماد بن أبي سليمان وابن جريج والكلبي : إن الصلاة تنهى ما دمت فيها .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذه عجمة وأنى هذا مما روى أنس بن مالك قال : كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدع شيئاً من الفواحش والسرقة إلا ركبه ، فقيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال «إن صلاته ستنهاه » فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألم أقل لكم » ؟ وقوله تعالى : { ولذكر الله أكبر } قال ابن عباس وأبو الدرداء وسلمان وابن مسعود وأبو قرة : معناه ، { ولذكر الله } إياكم { أكبر } من ذكركم إياه{[9257]} ، وقيل معناه { ولذكر الله أكبر } مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر ، قال ابن زيد وقتادة معناه { ولذكر الله أكبر } من كل شيء ، وقيل لسلمان أي الأعمال أفضل ؟ فقال : أما تقرأ القرآن { ولذكر الله أكبر } . ومنه حديث الموطأ عن أبي الدرداء «ألا أخبركم بخير أعمالكم ؟ » الحديث ، وقيل معناه { ولذكر الله } كبير كأنه يحض عليه في هذين التأويلين الأخيرين .
قال الفقيه الإمام القاضي : وعندي أن المعنى { ولذكر الله أكبر } على الإطلاق أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر .
فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك وكذلك يفعل في غير الصلاة لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر مراقب ، وثواب ذلك الذكر أن يذكره الله تعالى كما في الحديث «ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه »{[9258]} ، والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في نهي ، والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله تعالى ، وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى ، وذكر الله تعالى العبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه ، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه ، قال الله عز وجل { فاذكروني أذكركم }{[9259]} [ البقرة : 152 ] وباقي الآية ضرب من التوعد والحث على المراقبة .