الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ} (45)

ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالنفوذ لأمره وتلاوة القرآن الذي أُوحِيَ إليه وإقامة الصلاة ، أي : إدامتها والقيام بحدودها . ثم أخبر سبحانه حُكْماً منه أن الصلاة تنهى صاحبَها وممتثلَها عن الفحشاء والمنكر .

قال ( ع ) : وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجبِ من الخشوعِ ، والإخبات وتذكرِ اللّه ، وَتَوَهِّمِ الوقوف بين يديه ، وأنَ قلبه وإخلاصه مُطّلَعٌ عليه مَرْقُوبٌ صَلُحَتْ لذلك نَفْسُهُ ، وتذلَّلَتْ ، وخَامَرَها ارتقابُ اللّه تعالى فاطَّرَدَ ذلك في أقواله ، وأفعاله ، وانتهَى عن الفحشاء والمنكر ، ولم يكَدْ يَفْتُرُ من ذلك حتى تظله صلاةٌ أخْرى يرجع بها إلى أفضل حاله فهذا معنى هذا الإخبار لأن صلاةَ المؤمن هكذا ينبغي أن تكون ، وقد رُوِيَ عن بعض السلف : أنه كان إذا أقام الصلاة ارتعد ، واصفر لونُه ، فكُلِّم في ذلك ، فقال : إني أقف بين يدي اللّه تعالى .

قال ( ع ) : فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر ، وأما من كانت صلاته دائرةً حول الأجزاء ، بلا تذكر ولا خشوع ، ولا فضائل فتلك تترك صاحبَها من منزلته حيثُ كانَ .

وقوله تعالى : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } [ العنكبوت : 45 ] .

قال ابن عباس وأبو الدرداء وسلمان وابن مسعود وأبو قرة : معناه : ولذكر اللّه إياكم أكبر من ذكركم إياه ، وقيل : معناه : ولذكر اللّه أكبر مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر ، وقال ابن زيد وغيره : معناه : ولذكر اللّه أكبر من كل شيء . وقيل لسلمان : أيُّ الأعمالِ أفضل ؟ فقال : أَمَا تَقْرَأُ { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } والأحاديثُ في فَضْلِ الذّكْر كثيرةٌ لا تنحصر ، وقال ابن العربي في «أحكامه » : قوله : و{ لَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } فيه أربعة أقوال :

الأول : ذكر اللّه لكم أفضلُ من ذكرِكم له أضاف المصدر إلى الفاعل .

الثاني : ذكر اللّه أفضل من كل شيء .

الثالث : ذكر اللّه في الصلاة أفضل من ذكره في غيرها يعني : لأنهما عبادتان .

الرابع : ذكر اللّه في الصلاة أكبر من الصلاة .

وهذه الثلاثة الأخيرة من إضافة المصدر إلى المفعول ، وهذه كلها صحيحةٌ ، وإن للصلاةِ بركةً عظيمةً ، انتهى .

قال ( ع ) : وعندي ، أن المعنى : ولذكر اللّه أكبر على الإطلاق ، أي : هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ، فالجُزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك ، وكذلك يفعل في غير الصلاة ، لأنَّ الانتهاءَ لا يكونُ إلا من ذَاكِرٍ للَّهِ تعالى ، مراقب له ، وثوابُ ذلك الذكر أن يذكُرَه اللّه تعالى ، كما في الحديث الصحيح :

( وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ) والحركاتُ التي في الصلاة ؛ لا تأثيرَ لها في نهي ، والذكرُ النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرُّغه إلا من اللّه تعالى . وأما ما لا يتجاوز اللسانَ ففي رتبة أخرى ، وذكر اللّه تعالى للعبد هو إفاضةُ الهدى ونور العلم عليه وذلك ثمرة ذكر العبدِ ربَّه قال اللّه عز وجل : { فاذكروني أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] .

وعبارة الشيخ ابن أبي جمرة : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } معناه : ذكره لك في الأزل أن جعلك من الذاكرينَ له أكبرٌ من ذكرِك أنت الآن له انتهى .

قال القُشَيْريُّ في «رسالته » ( الذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه وهو العمدة في هذا الطريق ولا يصل أحد إلى اللّه سبحانه إلا بدوام الذكر ، ثم الذكرُ على ضربين : باللسان ، وذكرٌ بالقلب ، فذكر اللسان : به يصل العبد إلى استدامة ذكر القلب ، والتأثيرُ لذكر القلب ، فإذا كان العبد ذاكراً بلسانه ، وقلبه فهو الكامل في وصفه ، سمعتُ أبا علي الدقاق يقول : ( الذكر : منشورُ الولاية ، فمن وُفِّقَ للذكر ؛ فقد وُفِّقَ للمنشور ، ومن سُلِبَ الذكرَ فقد عُزِلَ والذكر بالقلب مستدام في عموم الحالات ) . وأسند القشيريُّ عن المظفر الجصاص ، قال : ( كنت أنا ونصرَ الخراط ليلةً في موضع فتذاكرنا شَيْئاً من العلم ، فقال الخراط : الذاكر للَّه تعالى فائدته في أول ذكره : أنْ يعلمَ أنَّ اللّه ذكَره فبذكر اللّه له ذِكرُه ، قال : فخالفته فقال : لو كان الخضرُ ها هنا لشهد لصحته ، قال فإذا نحن بشيخٍ يجيء بين السماء والأرض ، حتى بلغ إلينا ، وقال صدق الذاكر للَّه بفضل اللّه ، وذكره له ذكرَه ، فعلمنا أنه الخضر عَليه السلام ) انتهى .

وباقي الآيةِ ضَرْبٌ من التَوعُّدِ وحثٌّ على المراقبةِ ، قال البَاجِيُّ في «سنن الصالحين » : قال بعض العلماء : إن اللّه عز وجل يقول : ( أَيُّمَا عَبْدٍ اطلعت عَلَى قَلْبِهِ فَرَأَيْتُ الغَالِبَ عَلَيْهِ التَّمَسُّكَ بِذِكْرِي تَوَلَّيْتُ سِيَاسَتَهُ وَكُنْتُ جَلِيسَهُ وَمُحَادِثَهُ وَأَنِيسَهُ ) انتهى .