السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ} (45)

ثم خاطب تعالى رأس أهل الإيمان بقوله تعالى : { اتل ما أوحي إليك من الكتاب } أي : القرآن الجامع لكل خير لتعلم أن نوحاً ولوطاً وغيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة ، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة ، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم .

ولما أرشد تعالى إلى مفتاح العلم دلّ على قانون العمل بقوله تعالى : { وأقم الصلاة } أي : التي هي أحق العبادات ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : { إنّ الصلاة تنهى } أي : توجد النهي وتجدّده للمواظب على إقامتها بجميع حدودها { عن الفحشاء } أي : عن الخصال التي بلغ قبحها { والمنكر } وهو ما لا يعرف في الشرع ، فإن قيل : كم من مصلّ يرتكب الفحشاء ؟ أجيب : بأنّ المراد الصلاة التي هي الصلاة عند الله تعالى المستحق بها الثواب بأن يدخل فيها مقدّماً للتوبة النصوح متقياً لقوله تعالى : { إنما يتقبل الله من المتقين } ( المائدة ، 27 ) ويصليها خاشعاً بالقلب والجوارح ، فقد روي عن حاتم : كأنّ رجليّ على الصراط والجنة عن يميني والنار عن شمالي وملك الموت من فوقي وأصلي بين الخوف والرجاء ، ثم يحوطها بعد أن يصليها ولا يحبطها فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وقال ابن مسعود وابن عباس : إن الصلاة تنهى وتزجر عن معاصي الله عز وجل فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله تعالى إلا بعداً ، وقال الحسن وقتادة : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه ، وقيل من كان مراعياً للصلاة جره ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يوماً ما ، فقد روي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل فقال : «إن صلاته لتردعه » .

وروي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلوات ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه فوصف له فقال : إنّ صلاته ستنهاه فلم يلبث أن تاب ، وقال ابن عوف : معنى الآية إن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها ، وعلى كل حال فإنّ المراعي للصلاة لا بدّ أن يكون أبعد من الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها ، وأيضاً فكم من مصلين تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر ، واللفظ لا يقتضي أن لا يخرج واحد من المصلين عن قضيتها كما تقول : إن زيداً ينهى عن المنكر فليس غرضك أنه ينهى عن جميع المناكر وإنما تريد أن هذه الخصلة موجودة فيه وحاصلة منه من غير اقتضاء للعموم ، وقيل : المراد بالصلاة القرآن كما قال تعالى : { ولا تجهر بصلاتك } ( الإسراء : 110 ) أي : بقراءتك وأراد به من يقرأ القرآن في الصلاة فالقرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر ، روي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن رجلاً يقرأ القرآن الليل كله ويصبح سارقاً قال : «ستنهاه قراءته » .

ولما كان الناهي في الحقيقة إنما هو ذكر الله أتبع ذلك بقوله تعالى : { ولذكر الله أكبر } أي : لأنّ ذكر المستحق لكل صفات كمال أكبر من كل شيء فذكر الله تعالى أفضل الطاعات ، قال صلى الله عليه وسلم : «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا : وما ذاك يا رسول الله قال : ذكر الله » وسئل صلى الله عليه وسلم أي : العبادة أفضل عند الله درجة يوم القيامة قال : «الذاكرون الله كثيراً ، قالوا يا رسول الله ومن الغازين في سبيل الله فقال : لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكر الله كثيراً أفضل منه درجة » .

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على جبل في طريق مكة يقال له جمدان فقال : «سيروا هذا جمدان سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيراً والذاكرات » أو والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات وسماها بذكر الله كما قال تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله } ( الجمعة : 9 ) وإنما قال ولذكر الله أكبر ليستقلّ بالتعليل كأنه قال والصلاة أكبر لأنها ذكر الله ، وعن ابن عباس : ولذكر الله تعالى إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته ، وقال عطاء : ولذكر الله أكبر من أن يتقى معه معصية .

{ والله } أي : المحيط علماً وقدرة { يعلم } أي : في كل وقت { ما تصنعون } من الخير والشرّ فيجازيكم على ذلك .