الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ} (45)

{ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ * اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ } قال ابن عمر : تغني . الفراء : أن تنهي عن الفحشاء والمنكر ودليل هذا التأويل قوله :

{ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } [ الإسراء : 110 ] أي بقراءتك . وقال آخرون : هي الصلاة التي فيها الركوع والسجود .

قال ابن مسعود وابن عباس : يقول : في الصلاة : منتهى ومزدجر عن معاصي الله سبحانه وتعالى ، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهاه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلاّ بعداً . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة لمن لم يطع الصلاة ، وإطاعة الصلاة أن تنهي عن الفحشاء والمنكر " .

وروى أبو سفيان عن جابر قال : " قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل ، فقال : " إنّ صلاته لتردعه " " .

وقال أنس بن مالك : " كان فتى من الأنصار يصلي الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يدع شيئاً من الفواحش إلاّ ركبه ، فوصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاله ، فقال : " إنّ صلاته تنهاه يوماً ما " ، فلم يلبث أن تاب وحسن حاله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألم أقل لكم إنّ صلاته تنهاه يوماً ما " " .

وقال ابن عون : معناه أنّ الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها ، وقال أهل المعاني : ينبغي أن تنهاه صلاته كقوله :

{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] .

{ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } اختلفوا في تأويله ، فقال قوم : معناه { وَلَذِكْرُ اللَّهِ } إياكم أفضل من ذكركم إياه ، وهو قول عبد الله وسلمان ومجاهد وعطية وعكرمة وسعيد بن جبير ، ورواية عبد الله بن ربيعة عن ابن عباس ، وقد روى ذلك مرفوعاً :

أخبرناه الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني ، قال : حدثني أحمد بن علي بن الحسين ، قال : حدثنا إبراهيم بن أبي داود البزكي ، قال : حدثنا الحسين اللهبني ، قال : حدثنا صالح بن عبد الله بن أبي فروة ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، عن عمّه موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قول الله سبحانه : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } قال : " ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه " .

قالت الحكماء : لأنّ ذكر الله سبحانه للعبد على حدّ الاستغناء ، وذكر العبد إياه على حدّ الافتقار ، ولأنّ ذكره دائم ، وذكر العبد مؤقت ، ولأنّ ذكر العبد بحد رفع أو دفع ضر ، وذكر الله سبحانه إياه للفضل والكرم . وقال ذو النون : لأنّك ذكرته بعد أن ذكرك ، وقال ابن عطاء : لأنّ ذكره لك بلا علة ، وذكرك مشوب بالعلل . أبو بكر الوراق : لأنّ ذكره تعالى للعبد أطلق لسانه بذكره له ، ولأنّ ذكر العبد مخلوق وذكره غير مخلوق . وقال أبو الدرداء وابن زيد وقتادة : معناه ولذكر الله أكبر مما سواه وهو أفضل من كل شيء .

أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن محمد الثقفي الحافظ قال : حدثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال : حدثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي ، قال : حدثنا عيسى بن يونس قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، عن جويبر عن الضحاك ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } قال : " ذكر الله على كل حال أحسن وأفضل ، والذكر أن نذكره عند ما حرم ، فندع ما حرم ونذكره عند ما أحل فنأخذ ما أحل " .

وأخبرني الحسين بن محمد قال : حدثنا ابن شنبه قال : حدثنا جعفر بن محمد الفرباني قال : حدثنا إسحاق بن راهويه قال : أخبرنا إسحاق بن سليمان الرازي قال : سمعت موسى بن عبيدة الزيدي يحدث أبي عبد الله القراظ ، عن معاذ بن جبل قال : بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسير بالدف من حمدان إذ استنبه ، فقال : " يا معاذ إن السابقين الذين يستهترون بذكر الله ، من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله سبحانه " .

قال إسحاق بن سليمان : سمعت حريز بن عثمان يحدث ، عن أبي بحرية ، عن معاذ بن جبل ، قال : ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله سبحانه ، قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : لا ولو ضرب بسيفه ، قال الله سبحانه : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } . وأخبرني الحسين بن محمد ، قال : حدثنا ابن شنبه ، قال : حدثنا جعفر بن محمد الفرباني ، قال : حدثنا يحيى بن عمار المصيصي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن صالح بن أبي غريب ، عن كثير بن مرة الحضرمي ، قال : سمعت أبا الدرداء يقول : ألا أخبركم بخير أعمالكم لكم وأحبها إلى مليككم وأتمها في درجاتكم ، وخير من أن تغزوا عدوكم فتضرب رقابكم وتضربون رقابهم ، وخير من إعطاء الدنانير والدراهم ، قالوا : وما هو يا أبا الدرداء ؟ قال : ذكر الله ، قال الله سبحانه : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } .

وقيل لسلمان : أي العمل أفضل ؟ قال : أما تقرأ القرآن { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } لا شيء أفضل من ذكر الله سبحانه .

وأنبأني عبد الله بن حامد ، قال : أخبرنا محمد بن يعقوب ، قال : حدثنا حميد بن داود ، قال : حدثني يزيد بن خالد قال : حدثنا عبد الرحمن بن ثابت ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن جبير ابن هبير ، عن مالك بن عامر ، عن معاذ بن جبل قال : " سألت رسول الله " : أي الأعمال أحب إلى الله تعالى ؟

قال صلى الله عليه وسلم : " أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله " " .

وأنبأني عبد الله بن حامد ، قال : أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : حدثنا سلمة بن محمد ابن أحمد بن مجاشع الباهلي ، قال : حدثنا خالد بن يزيد العمري ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن عطاء بن قرة ، عن عبد الله بن ضمرة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها ، إلاّ ذكر الله عز وجل وما والاه أو عالم أو متعلم " .

قالت الحكماء : وإنّما كان الذكر أفضل الأشياء لأنّ ثواب الذكر الذكر ، قال الله تعالى : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } ويؤيد هذا ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكي بن عبدان ، قال : حدثنا عبد الله بن هشام ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً ، وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة " .

وأخبرنا عبد الله ، قال : أخبرنا علي ، قال : أخبرنا عبد الله بن هاشم ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الأعز أبي مسلم ، قال : أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد إنّهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّه قال : " ما جلس قوم يذكرون الله سبحانه إلاّ حفّت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم فيمن عنده " .

وأخبرني ابن فنجويه ، قال : حدثنا ابن شيبة ، قال : حدثنا الفرباني ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شنبه ، قال : حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } قال : ذكر الله العبد في الصلاة أكبر من الصلاة . ابن عون : معناه : الصلاة التي أنت فيها وذكرك الله فيها أكبر مما نهتك عنه الصلاة من الفحشاء والمنكر ، وقال ابن عطاء : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } من أن تبقى معه بالمعصية .

{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } .