غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ} (45)

42

وحيث قوى قلب المؤمنين بالتخصيص المذكور سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله { اتل ما أوحي إليك من الكتاب } لتعلم أن نوحاً ولوطاً وغيرهما بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة ، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة ، ولهذا قال { اتل } ولم يقل " اتل عليهم " لأن التلاوة بعد اليأس منهم ما كانت إلا لتسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلم . أو نقول : إن الكاتب الإلهي قانون كلي فيه شفاء للصدور فيجب تلاوته مرة بعد أخرى ليبلغ إلى حد التواتر وينقله قرن إلى قرن ويأخذه قوم من قوم إلى يوم النشور . وأيضاً فيه من العبر والمواعظ ما يهش لها الأسماع وتطمئن إليها القلوب كالمسك يفوح لحظة فلحظة ، وكالروض يستلذه النظر ساعة فساعة . وفي الجمع بين الأمرين التلاوة وإقامة الصلاة معنيان : أحدهما زيادة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قيل له : إذا تلوت ولم يقبل منك فأقبل على الصلاة لأنك وساطة بين الطرفين ، فإن لم يتصل الطرف الأول وهو من الخالق إلى المخلوق ، فليتصل الطرف الآخر وهو من المخلوق إلى الخالق . والثاني أن العبادات إما اعتقادية وهي لا تتكرر بل تبقى مستمراً عليها . وإما لسانية ، وإما بدنية خارجية وأفضلها الصلاة ، فأمر بتكرار الذكر والصلاة حيازة للفضيلتين ثم علل الأمر بإقامة الصلاة فقال { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } فقال بعض المفسرين : أراد بالصلاة القرآن وفيه النهي عنهما وهو بعيد وقيل : أراد نفس الصلاة وإنما تنهى عنهما ما دام العبد في الصلاة ، وضعف بأنه ليس مدحاً كاملاً لأن غيرها من الأعمال الفاضلة والمباحة قد يكون كذلك كالنوم وغيره . والذي عليه المحققون أن للصلاة لطفاً في ترك المعاصي فكأنها ناهية عنها وذلك إذا كانت الشروط من الخشوع وغيره مرعية . فقد روي عن ابن عباس : " من لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً " . " وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : إن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل . فقال : إن صلاته لتردعه " " وروي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلاة ثم يرتكب الفواحش ، فوصف ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن صلاته ستنهاه ، فلم يلبث أن تاب " وعلى كل حال فالمراعي لأوقات الصلاة لا بد أن يكون أبعد من القبائح . واللفظ لا يقتضي إلا هذا القدر وكيف لا تنهى ونحن نرى أن من لبس ثوباً فاخراً فإنه يتجنب مباشرة القاذورات ، فمن لبس لباس التقوى كيف لا يتجنب الفواحش . وأيضا الصلاة توجب القرب من الله تعالى كما قال { واسجد واقترب } [ العلق : 19 ] ومقرِّب الملك المجازي يجل منصبه أن يتعاطى الشغال الخسيسة فكيف يكون مقرب الملك الحقيقي ؟ وأيضاً من دخل في خدمة الملك فأعطاه منصباً له مقام خاص مرتفع فإذا دخل وجلس في صف النعال لم يتركه الملك هنالك ، فإذا صار العبد برعاية شروط الصلاة وحقوقها من أصحاب اليمين فكيف يتركه الله الكريم في أصحاب الشمال ؟ وتفسير الفحشاء والمنكر مذكور مراراً ، وقال أهل التحقيق : الفحشاء التعطيل وهو إنكار وجود الصانع ، والمنكر الإشراك به وهو إثبات إله غير الله وذلك أن وجود الواجب الواحد أظهر من الشمس وإنكار الظاهر منكر ظاهر . واعلم أن الصلاة لها هيئة فأولها وقوف بين يدي الله كوقوف العبد بين يدي السلطان ، وآخرها جثو بين يدي الله كما يجثو أهل الإخلاص بين يدي السلطان . وإذا جثا في الدنيا هكذا لم يجث في الآخرة كما قال { ونذر الظالمين فيها جثياً } [ مريم : 72 ] فالمصلي إذا قال " الله " نفى التعطيل وإذا قال " أكبر " نفى الشرك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك ، وإذا قال { بسم الله } نفى التعطيل ، وإذا قال { الرحمن الرحيم } نفى الإشراك لأن الرحمن هو المعطي للوجود بالخلق والرحيم هو المفيض للبقاء بالرزق ، وهكذا { الحمد لله } خلاف التعطيل ، وقوله { رب العالمين } خلاف التشريك وفي قوله { إياك نعبد } نفي التعطيل والإشراك من حيث إفادة التقديم الاختصاص بالعبادة ، وكذا قوله { وإياك نستعين } وفي قوله { اهدنا الصراط } نفى التعطيل لأن المعطل لا مقصد له . وفي قوله { المستقيم } نفى الإشراك لأن المستقيم أقرب الطرق وهو أحد ، والمشرك يزيد في الطريق بتحصيل الوسائط . وعلى هذا إلى آخر الصلاة وهو قوله في التشهد " أشهد أن لا إله إلا الله " نفى التعطيل والإشراك ، فأول الصلاة " الله " وآخرها " الله " . ثم إن الله سبحانه كأنه قال للعبد : أنت إنما وصلت إلى هذه المنزلة الرفيعة بهداية محمد صلى الله عليه وسلم ، فقل بعد ذكري : أشهد أن محمدا رسول الله ، واذكر إحسانه بالصلاة عليه . ثم إذا رجعت من معراجك وانتهيت إلى إخوانك فسلم عليهم وبلغه سلامي كما هو دأب المسافرين { ولذكر الله } أي الصلاة { أكبر } من غيرها من الطاعات . وفي تسمية الصلاة بالذكر إشارة إلى أن شرف الصلاة بالذكر . وجوز في الكشاف أن يراد ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة . وعن ابن عباس : ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بالطاعة . { والله يعلم ما تصنعون } من الأعمال فيثيبكم أو يعاقبكم على حسب ذلك .

/خ69