وحيث قوى قلب المؤمنين بالتخصيص المذكور سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله { اتل ما أوحي إليك من الكتاب } لتعلم أن نوحاً ولوطاً وغيرهما بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة ، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة ، ولهذا قال { اتل } ولم يقل " اتل عليهم " لأن التلاوة بعد اليأس منهم ما كانت إلا لتسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلم . أو نقول : إن الكاتب الإلهي قانون كلي فيه شفاء للصدور فيجب تلاوته مرة بعد أخرى ليبلغ إلى حد التواتر وينقله قرن إلى قرن ويأخذه قوم من قوم إلى يوم النشور . وأيضاً فيه من العبر والمواعظ ما يهش لها الأسماع وتطمئن إليها القلوب كالمسك يفوح لحظة فلحظة ، وكالروض يستلذه النظر ساعة فساعة . وفي الجمع بين الأمرين التلاوة وإقامة الصلاة معنيان : أحدهما زيادة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قيل له : إذا تلوت ولم يقبل منك فأقبل على الصلاة لأنك وساطة بين الطرفين ، فإن لم يتصل الطرف الأول وهو من الخالق إلى المخلوق ، فليتصل الطرف الآخر وهو من المخلوق إلى الخالق . والثاني أن العبادات إما اعتقادية وهي لا تتكرر بل تبقى مستمراً عليها . وإما لسانية ، وإما بدنية خارجية وأفضلها الصلاة ، فأمر بتكرار الذكر والصلاة حيازة للفضيلتين ثم علل الأمر بإقامة الصلاة فقال { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } فقال بعض المفسرين : أراد بالصلاة القرآن وفيه النهي عنهما وهو بعيد وقيل : أراد نفس الصلاة وإنما تنهى عنهما ما دام العبد في الصلاة ، وضعف بأنه ليس مدحاً كاملاً لأن غيرها من الأعمال الفاضلة والمباحة قد يكون كذلك كالنوم وغيره . والذي عليه المحققون أن للصلاة لطفاً في ترك المعاصي فكأنها ناهية عنها وذلك إذا كانت الشروط من الخشوع وغيره مرعية . فقد روي عن ابن عباس : " من لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً " . " وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : إن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل . فقال : إن صلاته لتردعه " " وروي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلاة ثم يرتكب الفواحش ، فوصف ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن صلاته ستنهاه ، فلم يلبث أن تاب " وعلى كل حال فالمراعي لأوقات الصلاة لا بد أن يكون أبعد من القبائح . واللفظ لا يقتضي إلا هذا القدر وكيف لا تنهى ونحن نرى أن من لبس ثوباً فاخراً فإنه يتجنب مباشرة القاذورات ، فمن لبس لباس التقوى كيف لا يتجنب الفواحش . وأيضا الصلاة توجب القرب من الله تعالى كما قال { واسجد واقترب } [ العلق : 19 ] ومقرِّب الملك المجازي يجل منصبه أن يتعاطى الشغال الخسيسة فكيف يكون مقرب الملك الحقيقي ؟ وأيضاً من دخل في خدمة الملك فأعطاه منصباً له مقام خاص مرتفع فإذا دخل وجلس في صف النعال لم يتركه الملك هنالك ، فإذا صار العبد برعاية شروط الصلاة وحقوقها من أصحاب اليمين فكيف يتركه الله الكريم في أصحاب الشمال ؟ وتفسير الفحشاء والمنكر مذكور مراراً ، وقال أهل التحقيق : الفحشاء التعطيل وهو إنكار وجود الصانع ، والمنكر الإشراك به وهو إثبات إله غير الله وذلك أن وجود الواجب الواحد أظهر من الشمس وإنكار الظاهر منكر ظاهر . واعلم أن الصلاة لها هيئة فأولها وقوف بين يدي الله كوقوف العبد بين يدي السلطان ، وآخرها جثو بين يدي الله كما يجثو أهل الإخلاص بين يدي السلطان . وإذا جثا في الدنيا هكذا لم يجث في الآخرة كما قال { ونذر الظالمين فيها جثياً } [ مريم : 72 ] فالمصلي إذا قال " الله " نفى التعطيل وإذا قال " أكبر " نفى الشرك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك ، وإذا قال { بسم الله } نفى التعطيل ، وإذا قال { الرحمن الرحيم } نفى الإشراك لأن الرحمن هو المعطي للوجود بالخلق والرحيم هو المفيض للبقاء بالرزق ، وهكذا { الحمد لله } خلاف التعطيل ، وقوله { رب العالمين } خلاف التشريك وفي قوله { إياك نعبد } نفي التعطيل والإشراك من حيث إفادة التقديم الاختصاص بالعبادة ، وكذا قوله { وإياك نستعين } وفي قوله { اهدنا الصراط } نفى التعطيل لأن المعطل لا مقصد له . وفي قوله { المستقيم } نفى الإشراك لأن المستقيم أقرب الطرق وهو أحد ، والمشرك يزيد في الطريق بتحصيل الوسائط . وعلى هذا إلى آخر الصلاة وهو قوله في التشهد " أشهد أن لا إله إلا الله " نفى التعطيل والإشراك ، فأول الصلاة " الله " وآخرها " الله " . ثم إن الله سبحانه كأنه قال للعبد : أنت إنما وصلت إلى هذه المنزلة الرفيعة بهداية محمد صلى الله عليه وسلم ، فقل بعد ذكري : أشهد أن محمدا رسول الله ، واذكر إحسانه بالصلاة عليه . ثم إذا رجعت من معراجك وانتهيت إلى إخوانك فسلم عليهم وبلغه سلامي كما هو دأب المسافرين { ولذكر الله } أي الصلاة { أكبر } من غيرها من الطاعات . وفي تسمية الصلاة بالذكر إشارة إلى أن شرف الصلاة بالذكر . وجوز في الكشاف أن يراد ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة . وعن ابن عباس : ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بالطاعة . { والله يعلم ما تصنعون } من الأعمال فيثيبكم أو يعاقبكم على حسب ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.