فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ} (45)

{ اتل ما أوحي إليك من الكتاب } أي القرآن فيه الأمر بالتلاوة للقرآن ، والمحافظة على قراءته تقربا إليه مع التدبر لآياته ، والتفكر في معانيه من الأوامر والنواهي .

{ وأقم الصلاة } أي دم على إقامتها وجملة { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } تعليل لما قبلها ، كأنه قيل : كأنه قيل : صل بهم إن الصلاة الخ والفحشاء ما قبح من العمل ، كالزنا مثلا ؛ والمنكر ما لا يعرف في الشريعة أي تمنعه عن معاصي الله ، وتبعده منها ، ومعنى نهيها عن ذلك أن فعلها يكون سببا للانتهاء عنهما ، والمراد هنا الصلوات المفروضة المكتوبة ، المؤداة بالجماعة قال ابن عباس وابن مسعود : في الصلاة منتهى ومزدجر عن المعاصي .

أخرج ابن مردويه ، وابن أبي حاتم عن عمران بن حصين قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله هذا فقال : " من لن تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له " .

وأخرج الطبراني ، وغيره عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا " .

وعن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له " . أخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي ، وأخرج الخطيب عن ابن عمر مرفوعا نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وغيره عن ابن مسعود مرفوعا نحوه . قال السيوطي : وسنده ضعيف . قال ابن كثير في تفسيره : والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والأعمش ، وغيرهم .

وقيل : من داوم على الصلاة جره ذلك إلى ترك المعاصي والسيئات كما روي عن أنس قال : كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم يدع من الفواحش شيئا إلا ركبه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن صلاته ستنهاه يوما ، فلم يلبث أن تاب وحسنت حاله " .

وقيل : معنى الآية أنه ما دام في صلاته فإنها تنهاه عن الفحشاء والمنكر ، ومنه قوله : إن الصلاة لشغلا ، وقيل : تنهى عنهما مطلقا في سائر الأوقات لأن الصلاة تشغل جميع بدن المصلي ، فإذا دخل المحراب خشع ، وأخبت لربه ، وتذكر أنه واقف بين يدي مولاه ، وأنه تعالى مطلع عليه ، وأنه يراه فصلحت لذلك نفسه ، وتذللت ، وخامرها ارتقاب الله تعالى ، وظهرت على جوارحه هيئتها بعد خروجه منها ، ولم يكد يفتر عن ذلك حتى تظله صلاة أخرى ، يرجع بها إلى أفضل حاله ، فهذا معنى هذه الآية ، لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون .

لا سيما وإن أشعر نفسه أن هذا ربما يكون آخر عمله ، فهو أبلغ في المقصود ، وأنتم في المراد ، فإن الموت ليس له سن محدود ، ولا زمن مخصوص ، ولا مرد معلوم ، وهذا مما لا خلاف فيه . روي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر لونه ، فكلم في ذلك فقال : إني واقف بين يدي الله ، وحق لي هذا مع ملوك الدنيا ، فكيف مع ملك الملوك ، فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر ، ومن صلاته قاصرة على الإجزاء ، أي إسقاط الطلب عن المكلف ، ولا خشوع فيها ، ولا تذكر ، ولا فضائل كصلاتنا ، فتلك تنزل صاحبها من منزلته حيث كان .

فإن كان مرتكبا للمعاصي قد بعد من الله بسببها ، فتلك الصلاة تتركه يتمادى على بعده . وقيل لابن مسعود : إن فلانا كثير الصلاة ، فقال : إنها لا تنفع إلا من أطاعها ، ذكره القرطبي . وقيل : أراد بالصلاة القرآن ، وفيه ضعف ، لتقدم ذكر القرآن ، والأول أولى ، وعلى كل حال فإن المراعي للصلاة لا بد وأن يكون أبعد عن الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها .

{ ولذكر الله } بسائر أنواعه من تحميد ، وتهليل ، وتسبيح ، وغير ذلك { أكبر } من كل شيء أي : أفضل من العبادات كلها بغير ذكر ، وقد نقل القرطبي هذا التقييد عن ابن زيد وقتادة ؟ قال ابن عطية : وعندي أن المعنى ولذكر الله أكبر على الإطلاق ، أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ، فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك ، وكذلك يفعل ما لم يكن منه في الصلاة لأن الانتهاء لا يكون إلا ممن ذكر الله مراقبا له وقيل : ذكر الله أكبر من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر ، مع المداومة عليه ، قال الفراء وابن قتيبة : المراد بالذكر هنا الصلاة ، والصلاة أكبر من سائر الطاعات وعبر عنها بالذكر كما في قوله فاسعوا إلى ذكر الله للدلالة على أن ما فيها من الذكر هو العمدة في تفضيلها على سائر الطاعات ، وكونها ناهية عن السيئات وقيل : عبر عنها بالذكر ليستقل بالتعليل كأنه قال : والصلاة أكبر لأنها ذكر الله .

وقيل : المعنى ولذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم منه أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم ، واختار هذا ابن جرير ، ويؤيده حديث من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم . وقال ابن عباس : يقول ولذكر الله لعباده إذ ذكروه أكبر من ذكرهم إياه .

وعن عبد الله بن ربيعة قال : سألني ابن عباس عن قول الله ولذكر الله أكبر فقلت : ذكر الله بالتسبيح ، والتهليل ، والتكبير ، قال : ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه ، ثم قال اذكروني أذكركم .

وعن ابن مسعود قال : ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لله ، وعن ابن عمر نحوه ، وعن ابن عباس أيضا قال لها وجهان ذكر الله أكبر مما سواه ، ( وفي لفظ ذكر الله عندما حرمه ) ، وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه .

وعن معاذ بن جبل قال : ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله ، قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال لا ، إلا أن يضرب بسفيه حتى ينقطع لأن الله يقول في كتابه العزيز { ولذكر الله أكبر } .

وعن عنترة قال : قلت لابن عباس أي العمل أفضل ؟ قال ذكر الله .

وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ؟ وأرفعها في درجاتكم ؟ وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ، وخير لكم من أن تقتلوا أعداءكم ، فتضربوا أعناقكم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : ذكر الله " أخرجه الترمذي .

وله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا ، قالوا : يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله ؟ فقال : لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر ، ويختضب دما لكان الذاكرون الله كثيرا أفضل منه درجة " .

وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبق المفردون ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " . وأخرج البخاري عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يقعد قوم يذكرون الله ، إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده .

وروي أن أعرابيا قال : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : " تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر الله " وفي الباب أحاديث كثيرة لا نطول بذكرها . قال ابن عطاء : أكبر أي أن تبقى معه معصية ، وقيل : ذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته . وقيل : لأن ذكره بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني ، ولأن ذكره لا يفنى وذكركم لا يبقى أو ذكره أكبر من أن تحويه أفهامكم وعقولكم ، والذكر النافع هو الذي يكون مع العلم ، وإقبال القلب وتفرغه مما سوى الله تعالى ، وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى .

{ والله يعلم ما تصنعون } من الذكر ومن سائر الطاعات لا يخفى عليه من ذلك خافية فهو مجازيكم بالخير خيرا وبالشر شرا ، ثم شرع سبحانه في بيان إرشاد أهل الكتاب بعد بيان إرشاد أهل الشرك فقال :