قوله تعالى : { يومئذ } ، يوم القيامة .
قوله تعالى : { يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } . قرأ أهل المدينة ، وابن عامر { تسوى } بفتح التاء ، وتشديد السين على معنى تتسوى فأدغمت التاء الثانية في السين ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وتخفيف السين ، على حذف تاء التفعل كقوله تعالى : { لا تكلم نفس إلا بإذنه } [ هود :11 ] وقرأ الأخرون : بضم التاء وتخفيف السين على المجهول : أي : لو سويت بهم الأرض ، وصاروا هم والأرض شيئاً واحداً . قال قتادة وأبو عبيدة : يعني لو تخرقت الأرض فساخوا فيها وعادوا إليها كما خرجوا منها ، ثم تسوى بهم أي : عليهم الأرض ، وقيل : ودوا لو أنهم لم يبعثوا لأنهم إنما نقلوا من التراب ، وكانت الأرض مستويةً عليهم . وقال الكلبي : يقول الله عز وجل للبهائم ، والوحوش ، والسباع : كونوا تراباً ، فتسوى بهم الأرض ، فعند ذلك يتمنى الكافر أن لو كان ترابا . ً كما قال الله تعالى : { ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا } [ النبأ :40 ] .
قوله تعالى : { ولا يكتمون الله حديثاً } . قال عطاء : ودوا لو تسوى بهم الأرض ، وأنهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا نعته ، وقال الآخرون : بل هو كلام مستأنف يعني : ولا يكتمون الله حديثاً لأن ما عملوا لا يخفى على الله ولا يقدرون على كتمانه . وقال الكلبي وجماعة : { ولا يكتمون الله حديثاً } لأن جوارحهم تشهد عليهم . قال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما : إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي ، قال : هات ما اختلف عليك ، قال : { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } [ المؤمنون :101 ] { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } [ الطور :25 ] { ولا يكتمون الله حديثاً } وقال { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام :23 ] فقد كتموا ، وقال : { أم السماء بناها } إلى قوله تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها } وذكر خلق السماء قبل الأرض ثم قال : { أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } إلى قوله : { طائعين } . فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل السماء ، وقال : { وكان الله غفوراً رحيماً } { وكان الله عزيزاً حكيماً } فكأنه كان ثم مضى . فقال ابن عباس رضي الله عنهما : ( فلا أنساب ) في النفخة الأولى . قال الله تعالى : { ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله } [ الزمر :68 ] فلا أنساب عند ذلك { ولا يتساءلون } ، ثم في النفخة الآخرة { أقبل بعضهم على بعض يتساءلون } ، وأما قوله : { ما كنا مشركين } { ولا يكتمون الله حديثاً } فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، فيقول المشركون : تعالوا نقل ، لم نكن مشركين ، فيختم على أفواههم ، وتنطق أيديهم ، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثاً ، وعنده { يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } ، وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ، ثم استوى إلى السماء ، فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض ، ودحوها : أن أخرج منها الماء والمرعى . وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين ، ثم دحا الأرض في يومين ، فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلقت السموات في يومين ، { وكان الله غفوراً رحيماً } أي : لم يزل كذلك ، فلا يختلف عليك القرآن فإن كلاهن من عند الله . وقال الحسن : أنها مواطن . ففي موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همساً ، وفي موطن يتكلمون ويكذبون ويقولون : ما كنا مشركين ، وما كنا نعمل من سوء ، وفي موضع يعترفون على أنفسهم وهو قوله : { فاعترفوا بذنبهم } وفي موضع ( لا يتساءلون ) ، وفي موطن يتسألون الرجعة ، وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم ، وتتكلم جوارحهم ، وهو قوله تعالى : { ولا يكتمون الله حديثاً } .
وعندئذ يرتسم المشهد شاخصا . . ساحة العرض الواسعة . وكل أمة حاضرة . وعلى كل أمة شهيد بأعمالها . . وهؤلاء الكافرون المختالون الفخورون الباخلون المبخلون ، الكاتمون لفضل الله ، المراءون الذين لم يبتغوا وجه الله . . هؤلاء هم نكاد نراهم من خلال التعبير ! واقفين في الساحة وقد انتدب الرسول [ ص ] للشهادة ! هؤلاء هم بكل ما أضمروا وأظهروا . بكل ما كفروا وما أنكروا . بكل ما اختالوا وما افتخروا . بكل ما بخلوا وبخلوا . بكل ما راءوا وتظاهروا . . هؤلاء هم في حضرة الخالق الذي كفروا به ، الرازق الذي كتموا فضله وبخلوا بالإنفاق مما أعطاهم . في اليوم الآخر الذي لم يؤمنوا به . في مواجهة الرسول الذي عصوه . . فكيف ؟ ؟ ؟
إنها المهانة والخزي ، والخجل والندامة . . مع الاعتراف حيث لا جدوى من الإنكار . .
والسياق القرآني لا يصف هذا كله من الظاهر . إنما يرسم " صورة نفسية " تتضح بهذا كله ؛ وترتسم حواليها تلك الظلال كلها . ظلال الخزي والمهانة ، والخجل والندامة :
( يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ، ولا يكتمون الله حديثًا ) !
ومن خلال اللمسات المعبرة في الصورة الحية ، نحس بكل تلك المعاني ، وبكل تلك الانفعالات ، وهي تتحرك في هذه النفوس . . نحس بها عميقة حية مؤثرة . كما لا نحس من خلال أي تعبير آخر . . وصفي أو تحليلي . . وتلك طريقة القرآن في مشاهد القيامة ، وفي غيرها من مواضع التعبير بالتصوير .
وقوله { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ } أي : لو انشقت وبلعتهم ، مما يرون من أهوال الموقف ، وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ ، كقوله : { يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ]{[7526]} } وقوله { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } أخبر{[7527]} عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ، ولا يكتمون منه شيئا .
قال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيْد ، حدثنا حكَّام ، حدثنا عمرو ، عن مُطرِّف ، عن الْمِنْهِالِ بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : أتى رجل ابن عباس فقال : سمعتُ الله ، عز وجل ، يقول - يعني إخبارا عن المشركين يوم القيامة أنهم قالوا - : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] وقال في الآية الأخرى : { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } فقال ابنُ العباس : أما قوله : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهلُ الإسلام قالوا : تعالوا فَلْنَجْحَدْ ، فقالوا : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا }
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن رجل عن المِنْهال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : أشياء تختلف علي في القرآن . قال : ما هو ؟ أشك في القرآن ؟ قال : ليس هو بالشك . ولكن{[7528]} اختلاف . قال : فهات ما اختلف عليك من ذلك . قال : أسمع الله يقول : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] وقال { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } ؛ فقد كتموا ! فقال ابن عباس : أما قوله : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام{[7529]} ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا ، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، جحد المشركون ، فقالوا : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ؛ رجاء أن يغفر لهم . فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، فعند ذلك : { يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا }
وقال جُوَيْبِرٌ عن الضَّحَّاك : إن نافِعَ بن الأزْرَقِ أتى ابنَ عباس فقال : يا ابن عباس ، قول الله : { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } وقوله { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ؟ فقال له ابن عباس : إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت ألْقي عَلَى ابن عباس متشابه القرآن . فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد . فيقول المشركون : إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده ، فيقولون : تعالوا نَقُلْ فيسألهم فيقولون : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } قال : فَيُخْتَم على أفواههم ، وتُسْتَنطق{[7530]} جوارحهم ، فتشهد عليهم جوارحُهم أنهم كانوا مشركين . فعند ذلك تَمَنَّوْا لو أن الأرضَ سُوِّيَتْ بِهِم { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } رواه ابن جرير .
{ يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرّسُولَ لَوْ تُسَوّىَ بِهِمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : يوم نجيء من كل أمة بشهيد ، ونجيء بك على أمتك يا محمد شهيدا ، { يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا } يقول : يتمنى الذين جحدوا وحدانية الله وعصوا رسوله ، لو تسوّى بهم الأرض .
واختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز ومكة والمدينة : «لَوْ تَسّوّى بِهِمُ الأرْضُ » بتشديد السين والواو وفتح التاء ، بمعنى : لو تَتَسوّى بهم الأرض ، ثم أدغمت التاء الثانية في السين ، يراد به : أنهم يودّون لو صاروا ترابا ، فكانوا سواء هم والأرض . وقرأ آخرون ذلك : «لَوْ تَسَوّى بِهِمُ الأرْضُ » بفتح التاء وتخفيف السين ، وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة بالمعنى الأوّل ، غير أنهم تركوا تشديد السين ، واعتلوا بأن العرب لا تكاد تجمع بين تشديدين في حرف واحد . وقرأ ذلك آخرون : { لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الأرْضُ } بمعنى : لو سوّاهم الله والأرض ، فصاروا ترابا مثلها بتصييره إياهم ، كما يفعل ذلك بمن ذكر أنه يفعله به من البهائم . وكل هذه القراءات متقاربات المعنى ، وبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب ، لأن من تمنى منهم أن يكون يومئذ ترابا إنما يتمنى أن يكون كذلك بتكوين الله إياه كذلك ، وكذلك من تمنى أن يكون الله جعله كذلك فقد تمنى أن يكون ترابا . على أن الأمر وإن كان كذلك ، فأعجب القراءة إليّ في ذلك : «لَوْ تَسَوّى بِهِمُ الأرْضُ » بفتح التاء وتخفيف السين ، كراهية الجمع بين تشديدين في حرف واحد ، وللتوفيق في المعنى بين ذلك وبين قوله : { وَيَقُولُ الكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابا } فأخبر الله عنهم جلّ ثناؤه أنهم يتمنون أن كانوا ترابا ، ولم يخبر عنهم أنهم قالوا : يا ليتني كنت ترابا ، فكذلك قوله : «لَوْ تَسَوّى بِهِمُ الأرْضُ » فيسوّوا هم ، وهي أعجب إليّ ليوافق ذلك المعنى الذي أخبر عنهم بقوله : { يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابا } .
وأما قوله : { وَلا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } فإن أهل التأويل تأوّلوه ، بمعنى : ولا تكتم الله جوارحهم حديثا وإن جحدت ذلك أفواههم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عمرو عن مطرف ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، قال : أتى رجل ابن عباس ، فقال : سمعت الله يقول : { وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ } وقال في آية أخرى : { وَلا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } . فقال ابن عباس : أما قوله : { وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ } فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا : تعالوا فلنجحد ، فقالوا : والله ربنا ما كنا مشركين ! فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم ، فلا يكتمون الله حديثا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال : أشياء تختلف عليّ في القرآن ؟ فقال : ما هو ؟ أشكّ في القرآن ؟ قال : ليس بالشك ، ولكنه اختلاف . قال : فهات ما اختلف عليك ! قال : أسمع الله يقول : { ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ } وقال : { وَلا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } وقد كتموا ! فقال ابن عباس : أما قوله : { ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ } فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله يغفر لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره جحد المشركون ، فقالوا : والله ربنا ما كنا مشركين ، رجاء أن يغفر لهم ، فختم على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، فعند ذلك { يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الزبير ، عن الضحاك : أن نافع ابن الأزرق أتى ابن عباس فقال : يا ابن عباس ، قول الله تبارك وتعالى : { يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } ، وقوله : { وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ } ؟ فقال له ابن عباس : إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت : ألقى عليّ ابن عباس متشابه القرآن ، فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد ، فيقول المشركون إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحّده ، فيقولون : تعالوا نجحد ! فيسألهم ، فيقولون : والله ربنا ما كنا مشركين ، قال : فيختم على أفواههم ، ويستنطق جوارحهم ، فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين فعند ذلك تمنوا لو أن الأرض سوّيت بهم ، ولا يكتمون الله حديثا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } يعني : أن تُسوّى الأرض بالجبال عليهم .
فتأويل الاَية على هذا القول الذي حكيناه عن ابن عباس : يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهمُ الأرْضُ ولَمْ يَكْتُمُوا اللّهَ حَدِيثا . كأنهم تمنوا أنهم سوّوا مع الأرض ، وأنهم لم يكونوا كتموا الله حديثا .
وقال آخرون : معنى ذلك يومئذ لا يكتمون الله حديثا ، ويودّون لو تسوّى بهم الأرض . وليس بمنكتم عن الله من شيء حديثهم ، لعلمه جلّ ذكره بجميع حديثهم وأمرهم ، فإنهم إن كتموه بألسنتهم فجحدوه ، لا يخفى عليه شيء منه .
{ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } بيان لحالهم حينئذ ، أي يود الذين جمعوا بين الكفر وعصيان الأمر ، أو الكفرة والعصاة في ذلك الوقت أن يدفنوا فتسوى بهم الأرض كالموتى ، أو لم يبعثوا أو لم يخلقوا وكانوا هم والأرض سواء . { ولا يكتمون الله حديثا } ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم . وقيل الواو لحال أي يودون أن تسوى بهم الأرض وحالهم أنهم لا يكتمون من الله حديثا ولا يكذبونه بقولهم { والله ربنا ما كنا مشركين } إذ روي : أنهم إذا قالوا ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم ، فيشتد الأمر عليهم فيتمنون أن تسوى بهم الأرض . وقرأ نافع وابن عامر { تسوى بهم } على أن أصله تتسوى فأدغمت التاء في السين . وقرأ حمزة والكسائي { تسوى } على حذف التاء الثانية يقال سويته فتسوى .
و { يومئذ } ظرف ويصح أن يكون نصب «يوم » في هذا الموضع على الظرف ، على أنه معرب مع الأسماء غير المتمكنة ، ويصح أن يكون نصبه على أنه مبني على النصب مع الأسماء غير المتمكنة ، و «الود » إنما هو في ذلك اليوم .
وقرأ نافع وابن عامر «تسّوّى » بتشديد السين والواو ، على إدغام التاء الثانية من تتسوى ، وقرأ حمزة والكسائي «تسَوّى » بتخفيف السين وتشديد الواو{[4051]} ، على حذف التاء الثانية المذكورة ، وهما بمعنى واحد ، واختلف فيه ، فقالت فرقة : تنشق الأرض فيحصلون فيها ، ثم تتسوى هي في نفسها عليهم وبهم{[4052]} ، وقالت فرقة : معناه لو تستوي هي معهم في أن يكونوا تراباً كآبائهم ، فجاء اللفظ على أن الأرض هي المستوية معهم ، والمعنى إنما هو أنهم يستوون مع الأرض ، ففي اللفظ قلب يخرج على نحو اللغة التي حكاها سيبويه ، أدخلت القلنسوة في رأسي وأدخلت فمي في الحجر ، وما جرى مجراه ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو «تُسوى » على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله ، فيكون الله تعالى يفعل ذلك على حسب المعنيين المتقدمين ، قال أبو علي : إمالة الفتحة إلى الكسرة والألف إلى الياء في «تسوى » حسنة .
قالت طائفة : معنى الآية أن الكفار لما يرونه من الهول وشدة المخاوف يودون أن تسوى بهم الأرض فلا ينالهم ذلك الخوف ، ثم استأنف الكلام فأخبر أنهم { لا يكتمون حديثاً } لنطق جوارحهم بذلك كله ، حين يقول بعضهم : { والله ربنا ما كنا مشركين }{[4053]} فيقول الله : كذبتم ، ثم ينطق جوارحهم فلا تكتم حديثاً ، وهذا قول ابن عباس ، وقال فيه : إن الله إذا جمع الأولين والآخرين ظن بعض الكفار أن الإنكار ينجي ، فقالوا : { والله ربنا ما كنا مشركين } ، فيقول الله : كذبتم ، ثم ينطق جوارحهم فلا تكتم حديثاً ، وهكذا فتح ابن عباس على سائل أشكل عليه الأمر{[4054]} ، وقالت طائفة : مثل القول الأول ، إلا أنها قالت : إنما استأنف الكلام بقوله : { ولا يكتمون الله حديثاً } ليخبر عن أن الكتم لا ينفع ، وإن كتموا ، لأن الله تعالى يعلم جميع أسرارهم وأحاديثهم ، فمعنى ذلك : وليس ذلك المقام الهائل مقاماً ينفع فيه الكتم .
قال القاضي أبو محمد : الفرق بين هذين القولين أن الأول يقتضي أن الكتم لا ينفع بوجه ، والآخر يقتضي أن الكتم لا ينفع وقع أو لم يقع ، كما تقول : هذا مجلس لا يقال فيه باطل ، وأنت تريد لا ينتفع به ولا يستمع إليه ، وقالت طائفة : الكلام كله متصل ، ومعناه : يود الذين كفروا لو تسوى بهم الأرض ، ويودون أن لا يكتموا الله حديثاً ، وودهم لذلك إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا : { والله ربنا ما كنا مشركين } ، وقالت طائفة : هي مواطن وفرق ، وقالت طائفة : معنى الآية : يود الذين كفروا أن تسوى بهم الأرض ، وأنهم لم يكتموا الله حديثاً ، وهذا على جهة الندم على الكذب أيضاً ، كما تقول : وودت أن أعزم كذا ، ولا يكون كذا على جهة الفداء ، أي يفدون كتمانهم بأن تسوى بهم الأرض ، و { الرسول } في هذه الآية : للجنس ، شرف بالذكر وهو مفرد دل على الجمع ، وقرأ أبو السمال ويحيى بن يعمر : «وعصِوا الرسول » بكسر الواو من { عصوا } .