256- لا إجبار لأحد على الدخول في الدين ، وقد وضح بالآيات الباهرة طريق الحق ، وطريق الضلال ، فمن اهتدى إلى الإيمان وكفر بكل ما يطغى على العقل ، ويصرفه عن الحق ، فقد استمسك بأوثق سبب يمنعه من التردي في الضلال ، كمن تمسك بعروة متينة محكمة الرباط تمنعه من التردي في هوة ، والله سميع لما تقولون ، عليم بما تفعلون ومجازيكم على أفعالكم{[24]} .
قوله تعالى : { لا إكراه في الدين } . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة ، والمقلاة من النساء لا يعيش لها ولد ، وكانت تنذر : لئن عاش لها ولد لتهودنه ، فإذا عاش ولدها جعلته في اليهود ، فجاء الإسلام وفيهم منهم ، فلما أجلبت بنو النضير كان فيهم عدد من أولاد الأنصار ، فأرادت الأنصار استردادهم وقالوا : هم أبناؤنا وإخواننا فنزلت هذه الآية : ( لا إكراه في الدين ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خير أصحابكم ، فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فأجلوهم معهم . وقال مجاهد : كان ناس مسترضعين في اليهود من الأوس ، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير قال : الذين كانوا مسترضعين فيهم : لنذهبن معهم ولندينن بدينهم ، فمنهم أهلوهم ، فنزلت ( لا إكراه في الدين ) . وقال مسروق : كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام فلزمهما أبوهما وقال : لا أدعكما حتى تسلما ، فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر ؟ فأنزل الله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) . فخلى سبيلهما . وقال قتادة وعطاء : نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية ، وذلك أن العرب كانت أمة أمية لم يكن لهم كتاب فلم يقبل منهم إلا الإسلام ، فلما أسلموا طوعاً أو كرهاً أنزل الله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يقروا بالجزية فمن أعطى منهم الجزية لم يكره على الإسلام ، وقيل : كان هذا في الابتداء قبل أن يؤمر بالقتال فصارت منسوخة بآية السيف ، وهو قول ابن مسعود رضي الله عنهما .
قوله تعالى : { قد تبين الرشد من الغي } . أي الإيمان من الكفر والحق من الباطل .
قوله تعالى : { فمن يكفر بالطاغوت } . يعني الشيطان ، وقيل : كل ما عبد من دون الله تعالى فهو طاغوت ، وقيل : كل ما يطغي الإنسان ، فاعول من الطغيان ، زيدت التاء فيه بدلاً من لام الفعل ، كقولهم : حانوت وتابوت ، فالتاء فيها مبدلة من هاء التأنيث .
قوله تعالى : { ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } . أي تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين ، والوثقى تأنيث الأوثق وقيل : العروة الوثقى السبب الذي يوصل إلى رضا الله تعالى .
قوله تعالى : { لا انفصام لها } . لا انقطاع لها .
وعندما يصل السياق بهذه الآية إلى إيضاح قواعد التصور الإيماني في أدق جوانبها ، وبيان صفة الله وعلاقة الخلق به هذا البيان المنير . . ينتقل إلى إيضاح طريق المؤمنين وهم يحملون هذا التصور ؛ ويقومون بهذه الدعوة ؛ وينهضون بواجب القيادة للبشرية الضالة الضائعة :
( لا إكراه في الدين . قد تبين الرشد من الغي . فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها . والله سميع عليم . الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ؛ والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات . أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . .
إن قضية العقيدة - كما جاء بها هذا الدين - قضية اقتناع بعد البيان والإدراك ؛ وليست قضية إكراه وغصب وإجبار . ولقد جاء هذا الدين يخاطب الإدراك البشري بكل قواه وطاقاته . يخاطب العقل المفكر ، والبداهة الناطقة ، ويخاطب الوجدان المنفعل ، كما يخاطب الفطرة المستكنة . يخاطب الكيان البشري كله ، والإدراك البشري بكل جوانبه ؛ في غير قهر حتى بالخارقة المادية التي قد تلجيء مشاهدها الجاء إلى الإذعان ، ولكن وعيه لا يتدبرها وإدراكه لا يتعقلها لأنها فوق الوعي والإدراك .
وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحس البشري بالخارقة المادية القاهرة ، فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع .
وكانت المسيحية - آخر الديانات قبل الإسلام - قد فرضت فرضا بالحديد والنار ووسائل التعذيب والقمع التي زاولتها الدولة الرومانية بمجرد دخول الإمبراطور قسطنطين في المسيحية . بنفس الوحشية والقسوة التي زاولتها الدولة الرومانية من قبل ضد المسيحيين القلائل من رعاياها الذين اعتنقوا المسيحية اقتناعا وحبا ! ولم تقتصر وسائل القمع والقهر على الذين لم يدخلوا في المسيحية ؛ بل إنها ظلت تتناول في ضراوة المسيحيين أنفسهم الذين لم يدخلوا في مذهب الدولة ؛ وخالفوها في بعض الاعتقاد بطبيعة المسيح !
فلما جاء الإسلام عقب ذلك جاء يعلن - في أول ما يعلن - هذا المبدأ العظيم الكبير :
( لا إكراه في الدين . قد تبين الرشد من الغي ) . .
وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان ؛ واحترام إرادته وفكره ومشاعره ؛ وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه . . وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني . . التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب معتسفة ونظم مذلة ؛ لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه الله - باختياره لعقيدته - أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية ، وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها ؛ فإما أن يعتنق مذهب الدولة هذا - وهو يحرمه من الإيمان باله للكون يصرف هذا الكون - وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والأسباب !
إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق " الإنسان " التي يثبت له بها وصف " إنسان " . فالذي يسلب إنسانا حرية الاعتقاد ، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء . . ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة ، والأمن من الأذى والفتنة . . وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة .
والإسلام - وهو أرقى تصور للوجود وللحياة ، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء - هو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين ؛ وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين . . فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة المعتسفة وهي تفرض فرضا بسلطان الدولة ؛ ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة ؟ !
والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق : ( لا إكراه في الدين ) . . نفي الجنس كما يقول النحويون . . أي نفي جنس الإكراه . نفي كونه ابتداء . فهو يستبعده من عالم الوجود والوقوع . وليس مجرد نهي عن مزاولته . والنهي في صورة النفي - والنفي للجنس - أعمق إيقاعا وآكد دلالة .
ولا يزيد السياق على أن يلمس الضمير البشري لمسة توقظه ، وتشوقه إلى الهدى ، وتهديه إلى الطريق ، وتبين حقيقة الإيمان التي اعلن أنها أصبحت واضحة وهو يقول :
فالإيمان هو الرشد الذي ينبغي للإنسان أن يتوخاه ويحرص عليه . والكفر هو الغي الذي ينبغي للإنسان أن ينفر منه ويتقي أن يوصم به .
والأمر كذلك فعلا . فما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان ، وما تمنحه للإدراك البشري من تصور ناصع واضح ، ، وما تمنحه للقلب البشري من طمأنينة وسلام ، وما تثيره في النفس البشرية من اهتمامات رفيعة ومشاعر نظيفة ، وما تحققه في المجتمع الإنساني من نظام سليم قويم دافع إلى تنمية الحياة وترقية الحياة . . ما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان على هذا النحو حتى يجد فيها الرشد الذي لا يرفضه إلا سفيه ، يترك الرشد إلى الغي ، ويدع الهدى إلى الضلال ، ويؤثر التخبط والقلق والهبوط والضآلة على الطمأنينة والسلام والرفعة والاستعلاء !
ثم يزيد حقيقة الإيمان إيضاحا وتحديدا وبيانا :
( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ) . .
إن الكفر ينبغي أن يوجه إلى ما يستحق الكفر ، وهو( الطاغوت ) . وإن الإيمان يجب أن يتجه إلى من يجدر الإيمان به وهو( الله ) .
والطاغوت صيغة من الطغيان ، تفيد كل ما يطغى على الوعي ، ويجور على الحق ، ويتجاوز الحدود التي رسمها الله للعباد ، ولا يكون له ضابط من العقيدة في الله ، ومن الشريعة التي يسنها الله ، ومنه كل منهج غير مستمد من الله ، وكل تصور أو وضع أو أدب أو تقليد لا يستمد من الله . فمن يكفر بهذا كله في كل صورة من صوره ويؤمن بالله وحده ويستمد من الله وحده فقد نجا . . وتتمثل نجاته في استمساكه بالعروة الوثقى لا انفصام لها .
وهنا نجدنا أمام صورة حسية لحقيقة شعورية ، ولحقيقة معنوية . . إن الإيمان بالله عروة وثيقة لا تنفصم أبدا . . إنها متينة لا تنقطع . . ولا يضل الممسك بها طريق النجاة . . إنها موصولة بمالك الهلاك والنجاة . . والإيمان في حقيقته اهتداء إلى الحقيقة الأولى التي تقوم بها سائر الحقائق في هذا الوجود . . حقيقة الله . . واهتداء إلى حقيقة الناموس الذي سنه الله لهذا الوجود ، وقام به هذا الوجود . والذي يمسك بعروته يمضي على هدى إلى ربه ؛ فلا يرتطم ولا يتخلف ولا تتفرق به السبل ولا يذهب به الشرود والضلال .
يسمع منطق الألسنة ، ويعلم مكنون القلوب . فالمؤمن الموصول به لا يبخس ولا يظلم ولا يخيب .
وقبل أن ننتقل من هذا الدرس يحسن أن نقول كلمة عن قاعدة : ( لا إكراه في الدين ) إلى جوار فرضية الجهاد في الإسلام ، والمواقع التي خاضها الإسلام . وقوله تعالى في آية سابقة : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) . .
إن بعض المغرضين من أعداء الإسلام يرمونه بالتناقض ؛ فيزعمون أنه فرض بالسيف ، في الوقت الذي قرر فيه : أن لا إكراه في الدين . . أما بعضهم الآخر فيتظاهر بأنه يدفع عن الإسلام هذه التهمة ؛ وهو يحاول في خبث أن يخمد في حس المسلم روح الجهاد ؛ ويهون من شأن هذه الأداة في تاريخ الإسلام وفي قيامه وانتشاره . ويوحي إلى المسلمين - بطريق ملتوية ناعمة ماكرة - أن لا ضرورة اليوم أو غدا للاستعانة بهذه الأداة ! وذلك كله في صورة من يدفع التهمة الجارحة عن الإسلام ! . .
وهؤلاء وهؤلاء كلاهما من المستشرقين الذين يعملون في حقل واحد في حرب الإسلام ، وتحريف منهجه ، وقتل إيحاءاته الموحية في حس المسلمين ، كي يأمنوا انبعاث هذا الروح ، الذي لم يقفوا له مرة في ميدان ! والذي آمنوا واطمأنوا منذ أن خدروه وكبلوه بشتى الوسائل ، وكالوا له الضربات الساحقة الوحشية في كل مكان ! وألقوا في خلد المسلمين أن الحرب بين الاستعمار وبين وطنهم ليست حرب عقيدة أبدا تقتضي الجهاد ! إنما هي فقط حرب أسواق وخامات ومراكز وقواعد . . ومن ثم فلا داعي للجهاد !
لقد انتضى الإسلام السيف ، وناضل وجاهد في تاريخه الطويل . لا ليكره أحدا على الإسلام ولكن ليكفل عدة أهداف كلها تقتضي الجهاد .
جاهد الإسلام أولا ليدفع عن المؤمنين الأذى والفتنة التي كانوا يسامونها ؛ وليكفل لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم وعقيدتهم . وقرر ذلك المبدأ العظيم الذي سلف تقريره في هذه السورة - في الجزء الثاني - ( والفتنة أشد من القتل ) . . فاعتبر الاعتداء على العقيدة والإيذاء بسببها ، وفتنة أهلها عنها أشد من الاعتداء على الحياة ذاتها . فالعقيدة أعظم قيمة من الحياة وفق هذا المبدأ العظيم . وإذا كان المؤمن مأذونا في القتال ليدفع عن حياته وعن ماله ، فهو من باب أولى مأذون في القتال ليدفع عن عقيدته ودينه . . وقد كان المسلمون يسامون الفتنة عن عقيدتهم ويؤذون ، ولم يكن لهم بد أن يدفعوا هذه الفتنة عن أعز ما يملكون . يسامون الفتنة عن عقيدتهم ، ويؤذون فيها في مواطن من الأرض شتى . وقد شهدت الأندلس من بشاعة التعذيب الوحشي والتقتيل الجماعي لفتنة المسلمين عن دينهم ، وفتنة أصحاب المذاهب المسيحية الأخرى ليرتدوا إلى الكثلكة ، ما ترك أسبانيا اليوم ولا ظل فيها للإسلام ! ولا للمذاهب المسيحية الأخرى ذاتها ! كما شهد بيت المقدس وما حوله بشاعة الهجمات الصليبية التي لم تكن موجهة إلا للعقيدة والإجهاز عليها ؛ والتي خاضها المسلمون في هذه المنطقة تحت لواء العقيدة وحدها فانتصروا فيها ؛ وحموا هذه البقعة من مصير الأندلس الأليم . . وما يزال المسلمون يسامون الفتنة في أرجاء المناطق الشيوعية والوثنية والصهيونية والمسيحية في أنحاء من الأرض شتى . . وما يزال الجهاد مفروضا عليهم لرد الفتنة إن كانوا حقا مسلمين !
وجاهد الإسلام ثانيا لتقرير حرية الدعوة - بعد تقرير حرية العقيدة - فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود والحياة ، وبأرقى نظام لتطوير الحياة . جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها ؛ ويبلغه إلى أسماعها وإلى قلوبها . فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر . ولا إكراه في الدين . ولكن ينبغي قبل ذلك أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة ؛ كما جاء من عند الله للناس كافة . وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا وأن يقتنعوا وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا . ومن هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الأرض تصد الناس عن الاستماع إلى الهدى وتفتن المهتدين أيضا . فجاهد الإسلام ليحطم هذه النظم الطاغية ؛ وليقيم مكانها نظاما عادلا يكفل حرية الدعوة إلى الحق في كل مكان وحرية الدعاة . . وما يزال هذا الهدف قائما ، وما يزال الجهاد مفروضا على المسلمين ليبلغوه إن كانوا مسلمين !
وجاهد الإسلام ثالثا ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه . . وهو وحده النظام الذي يحقق حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان ؛ حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال ؛ ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها . فليس هنالك فرد ولا طبقة ولا أمة تشرع الأحكام للناس ، وتستذلهم عن طريق التشريع . إنما هنالك رب واحد للناس جميعا هو الذي يشرع لهم على السواء ، وإليه وحده يتجهون بالطاعة والخضوع ، كما يتجهون إليه وحده بالإيمان والعبادة سواء . فلا طاعة في هذا النظام لبشر إلا أن يكون منفذا لشريعة الله ، موكلا عن الجماعة للقيام بهذا التنفيذ . حيث لا يملك أن يشرع هو ابتداء ، لأن التشريع من شأن الألوهية وحدها ، وهو مظهر الألوهية في حياة البشر ، فلا يجوز أن يزاوله إنسان فيدعي لنفسه مقام الألوهية وهو واحد من العبيد !
هذه هي قاعدة النظام الرباني الذي جاء به الإسلام . وعلى هذه القاعدة يقوم نظام أخلاقي نظيف تكفل فيه الحرية لكل إنسان ، حتى لمن لا يعتنق عقيدة الإسلام ، وتصان فيه حرمات كل أحد حتى الذين لا يعتنقون الإسلام ، وتحفظ فيه حقوق كل مواطن في الوطن الإسلامي أيا كانت عقيدته . ولا يكره فيه أحد على اعتناق عقيدة الإسلام ، ولا إكراه فيه على الدين إنما هو البلاغ .
جاهد الإسلام ليقيم هذا النظام الرفيع في الأرض ويقرره ويحميه . وكان من حقه أن يجاهد ليحطم النظم الباغية التي تقوم على عبودية البشر للبشر ، والتي يدعي فيها العبيد مقام الألوهية ويزاولون فيها وظيفة الألوهية - بغير حق - ولم يكن بد أن تقاومه تلك النظم الباغية في الأرض كلها وتناصبه العداء . ولم يكن بد كذلك أن يسحقها الإسلام سحقا ليعلن نظامه الرفيع في الأرض . . ثم يدع الناس في ظله أحرارا في عقائدهم الخاصة . لا يلزمهم إلا بالطاعة لشرائعه الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والدولية . أما عقيدة القلب فهم فيها أحرار . وأما أحوالهم الشخصية فهم فيها أحرار ، يزاولونها وفق عقائدهم ؛ والإسلام يقوم عليهم يحميهم ويحمي حريتهم في العقيدة ويكفل لهم حقوقهم ، ويصون لهم حرماتهم ، في حدود ذلك النظام .
وما يزال هذا الجهاد لإقامة هذا النظام الرفيع مفروضا على المسلمين : ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) . . فلا تكون هناك ألوهة للعبيد في الأرض ، ولا دينونة لغير الله . .
لم يحمل الإسلام السيف إذن ليكره الناس على اعتناقه عقيدة ؛ ولم ينتشر السيف على هذا المعنى كما يريد بعض أعدائه أن يتهموه ! إنما جاهد ليقيم نظاما آمنا يأمن في ظله أصحاب العقائد جميعا ، ويعيشون في إطاره خاضعين له وإن لم يعتنقوا عقيدته .
وكانت قوة الإسلام ضرورية لوجوده وانتشاره واطمئنان أهله على عقيدتهم ، واطمئنان من يريدون اعتناقه على أنفسهم . وإقامة هذا النظام الصالح وحمايته . ولم يكن الجهاد أداة قليلة الأهمية ، ولا معدومة الضرورة في حاضره ومستقبله كما يريد أخبث أعدائه أن يوحوا للمسلمين ! . .
لا بد للإسلام من نظام ولا بد للإسلام من قوة ، ولا بد للإسلام من جهاد . فهذه طبيعته التي لا يقوم بدونها إسلام يعيش ويقود .
( لا إكراه في الدين ) . . نعم ولكن : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم . وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) . .
وهذا هو قوام الأمر في نظر الإسلام . . . وهكذا ينبغي أن يعرف المسلمون حقيقة دينهم ، وحقيقة تاريخهم ؛ فلا يقفوا بدينهم موقف المتهم الذي يحاول الدفاع ؛ إنما يقفون به دائما موقف المطمئن الواثق المستعلي على تصورات الأرض جميعا ، وعلى نظم الأرض جميعا ، وعلى مذاهب الأرض جميعا . . ولا ينخدعوا بمن يتظاهر بالدفاع عن دينهم بتجريده في حسهم من حقه في الجهاد لتأمين أهله ؛ والجهاد لكسر شوكة الباطل المعتدي ؛ والجهاد لتمتيع البشرية كلها بالخير الذي جاء به ؛ والذي لا يجني أحد على البشرية جناية من يحرمها منه ، ويحول بينها وبينه . فهذا هو أعدى أعداء البشرية ، الذي ينبغي أن تطارده البشرية لو رشدت وعقلت . وإلى أن ترشد البشرية وتعقل ، يجب أن يطارده المؤمنون ، الذين اختارهم الله وحباهم بنعمة الإيمان ، فذلك واجبهم لأنفسهم وللبشرية كلها ، وهم مطالبون بهذا الواجب أمام الله . .
يقول تعالى : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين } أي : لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة ، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا . وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار ، وإن كان حكمها عامًّا .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانت المرأة تكون مِقْلاتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز وجل : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ }
وقد رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بُنْدَار به{[4360]} ومن وجوه أخر عن شعبة به نحوه . وقد رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به{[4361]} ، وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم : أنها نزلت في ذلك .
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد الجرشي عن{[4362]} زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد [ بن جبير ]{[4363]} عن ابن عباس قوله : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } قال : نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له : الحصيني كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو رجلا مسلمًا فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله فيه ذلك .
رواه ابن جرير وروى السدي نحو ذلك وزاد : وكانا قد تنصرا على يدي تجار قدموا من الشام يحملون زيتًا فلما عزما على الذهاب معهم أراد أبوهما أن يستكرههما ، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث في آثارهما ، فنزلت هذه الآية .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا شريك عن أبي هلال عن أُسَق قال : كنت في دينهم مملوكًا نصرانيًا لعمر بن الخطاب فكان يعرض علي الإسلام فآبى فيقول : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ويقول : يا أُسَق لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين .
وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية . وقال آخرون : بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له أو يبذل الجزية ، قوتل حتى يقتل . وهذا معنى الإكراه قال الله تعالى : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُون } [ الفتح : 16 ] وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [ التحريم : 9 ] وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [ التوبة : 123 ] وفي الصحيح : " عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل " {[4364]} يعني : الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن حميد عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل : " أسلم " قال : إني أجدني كارها . قال : " وإن كنت كارها " {[4365]} فإنه ثلاثي صحيح ، ولكن ليس من هذا القبيل فإنه لم يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام بل دعاه إليه فأخبر أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة فقال له : " أسلم وإن كنت كارهًا فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص " .
وقوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : من خلع الأنداد والأوثان{[4366]} وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله ، ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي : فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم .
قال أبو القاسم البغوي : حدثنا أبو روح البلدي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن أبي إسحاق عن حسان - هو ابن فائد العبسي - قال : قال عمر رضي الله عنه : إن الجِبت : السحر والطاغوت : الشيطان ، وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ويفر الجبان من{[4367]} أمه ، وإن كرم الرجل دينه ، وحسبه خلقه ، وإن كان فارسيًّا أو نبطيا . وهكذا رواه ابن جرير{[4368]} وابن أبي حاتم من حديث الثوري عن أبي إسحاق عن حسان بن فائد العبسي عن عمر فذكره .
ومعنى قوله في الطاغوت : إنه الشيطان قوي جدًّا فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية ، من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها .
وقوله : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا } أي : فقد استمسك من الدين بأقوى سبب ، وشبه ذلك بالعروة الوثقى التي لا تنفصم فهي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد ولهذا قال : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
قال مجاهد : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } يعني : الإيمان . وقال السدي : هو الإسلام وقال سعيد بن جبير والضحاك : يعني لا إله إلا الله . وعن أنس{[4369]} بن مالك : { بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } : القرآن . وعن سالم بن أبي الجعد قال : هو الحب في الله والبغض في الله .
وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها .
وقال معاذ بن جبل في قوله : { لا انْفِصَامَ لَهَا } أي : لا انقطاع لها دون دخول الجنة .
وقال مجاهد وسعيد بن جبير : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا } ثم قرأ : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد : 11 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف حدثنا ابن عون عن محمد عن قيس بن عباد قال : كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع ، فدخل فصلى ركعتين أوجز فيهما فقال القوم : هذا رجل من أهل الجنة . فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته فلما استأنس{[4370]} قلت له : إن القوم لما دخلت قبل المسجد قالوا كذا وكذا . قال : سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم وسأحدثك لم : إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه : رأيت كأني في روضة خضراء - قال ابن عون : فذكر من خضرتها وسعتها - وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة ، فقيل لي : اصعد عليه فقلت : لا أستطيع . فجاءني مِنْصَف - قال ابن عون : هو الوصيف{[4371]} - فرفع ثيابي من خلفي ، فقال : اصعد . فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال : استمسك بالعروة . فاستيقظت وإنها لفي يدي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه . فقال : " أما الروضة فروضة الإسلام وأما العمود فعمود الإسلام وأما العروة فهي العروة الوثقى ، أنت على الإسلام حتى تموت " {[4372]} .
قال : وهو عبد الله بن سلام أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عون{[4373]} وأخرجه البخاري من وجه آخر ، عن محمد بن سيرين به{[4374]} .
طريق أخرى وسياق آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى وعفان قالا حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة عن المسيب بن رافع عن خرشة بن الحُرِّ قال : قدمت المدينة فجلست إلى مشيخة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم . فجاء شيخ يتوكأ على عصًا له فقال القوم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا . فقام خلف سارية فصلى ركعتين فقمت إليه ، فقلت له : قال بعض القوم : كذا وكذا . فقال : الجنة لله يُدخلها{[4375]} من يشاء وإني رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا ، رأيت كأن رجلا أتاني فقال : انطلق . فذهبت معه فسلك بي منهجًا عظيمًا فعرضت لي طريق عن يساري ، فأردت أن أسلكها . فقال : إنك لست من أهلها . ثم عرضت لي طريق عن يميني فسلكتها حتى انتهت إلى جبل زلق فأخذ بيدي فزجل{[4376]} فإذا أنا على ذروته ، فلم أتقار ولم أتماسك فإذا عمود حديد في ذروته حلقة من ذهب فأخذ بيدي فزجل{[4377]} حتى أخذت بالعروة فقال : استمسك . فقلت : نعم . فضرب العمود برجله فاستمسكت بالعروة ، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " رأيت خيرًا أما المنهج العظيم فالمحشر{[4378]} ، وأما الطريق التي عرضت عن يسارك فطريق أهل النار ، ولست من أهلها ، وأما الطريق التي عرضت عن يمينك فطريق أهل الجنة ، وأما الجبل الزلق فمنزل الشهداء ، وأما العروة التي استمسكت بها فعروة الإسلام فاستمسك بها حتى تموت " . قال : فإنما أرجو أن أكون من أهل الجنة . قال : وإذا هو عبد الله بن سلام{[4379]} .
وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن عفان ، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن الحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن حماد بن سلمة به نحوه{[4380]} . وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن سليمان بن مُسْهِر عن خرشة بن الحُرّ الفزاري به{[4381]} .