إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256)

{ لا إِكْرَاهَ فِي الدين } جملةٌ مستأنفة جِيء بها إثرَ بيانِ تفرُّدِه سبحانه وتعالى بالشؤون الجليلةِ الموجبةِ للإيمان به وحده إيذاناً بأن مِنْ حق العاقلِ ألا يحتاجَ إلى التكليف والإلزام بل يختارُ الدينَ الحقَّ من غير ترددٍ وتلعثم وقيل : هو خبرٌ في معنى النهي أي لا تُكرِهوا في الدين فقيل : منسوخٌ بقوله تعالى : { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 73 ، التحريم : 9 ] وقيل : خاصٌّ بأهل الكتاب حيث حصَّنوا أنفسَهم بأداءِ الجزية ورُوي أنه كان لأنصاريَ من بني سالم بن عوفٍ ابنان قد تنصّرا قبل مبعثه عليه السلام ثم قدِما المدينة فلزِمهما أبوهما وقال : والله لا أدَعُكما حتى تُسلما فأَبَيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فخلاّهما { قَد تَبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } استئنافٌ تعليلي صُدّر بكلمة التحقيقِ لزيادة تقريرِ مضمونِه كما في قوله عز وجل : { قَدْ بَلَغْتَ مِن لَدُني عُذْراً } [ الكهف ، الآية : 76 ] أي إذ قد تبين بما ذُكر من نعوته تعالى التي يمتنع توهُّمُ اشتراك غيرِه في شيء منها الإيمانُ الذي هو الرشدُ الموصل إلى السعادة الأبدية من الكفر الذي هو الغيُّ المؤدي إلى الشقاوة السرمدية { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت } هو بناءُ مبالغة من الطغيان كالمَلَكوت والجَبَروت قُلب مكانُ عينه ولامِه فقيل : هو في الأصل مصدر وإليه ذهب الفارسيُّ وقيل : اسمُ جنسٍ مُفرَدٍ مذكر ، وإنما الجمعُ والتأنيثُ لإرادة الآلهةِ وهو رأيُ سيبويه ، وقيل : هو جمعٌ وهو مذهبُ المبرِّد وقيل : يستوي فيه المُفرَد والجمعُ والتذكيرُ والتأنيثُ أي فمن يعملْ إثرَ ما تميز الحقُّ من الباطل بموجب الحُججِ الواضحةِ والآياتِ البينة ويكفرْ بالشيطان أو بالأصنام أو بكل ما عُبد من دون الله تعالى أو صَدَّ عن عبادته سبحانه تعالى لِما تبيّن له كونُه بمعزل من استحقاق العبادة { وَيُؤْمِن بالله } وحدَه لِما شاهد من نعوتِه الجليلةِ المقتضيةِ لاختصاص الألوهيةِ به عز وجل الموجبةِ للإيمان والتوحيدِ ، وتقديمُ الكفرِ بالطاغوت على الإيمان به تعالى لتوقفه عليه فإن التخليةَ متقدّمةٌ على التحلية { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } أي بالغَ في التمسُّك بها كأنه وهو ملتبسٌ به يطلُبُ من نفسه الزيادةَ فيه والثباتَ عليه { لاَ انفصام لَهَا } الفصْم الكسرُ بغير صوت كما أن القَصْم هو الكسرُ بصوت ، ونفيُ الأول يدل على انتفاءِ الثاني بالأولوية ، والجملةُ إما استئنافٌ مقرِّر لما قبلها من وَثاقة العُروة وإما حالٌ من العروة والعاملُ استمسك أو من الضمير المستتر في الوثقى ولها في حيز الخبر ، أي كائن لها والكلامُ تمثيلٌ مبنيٌّ على تشبيه الهيئة العقليةِ المنتزَعةِ من ملازمة الاعتقادِ الحقِّ الذي لا يحتمل النقيضَ أصلاً لثبوته بالبراهين النيِّرة القطعية بالهيئة الحِسّية المنتزَعه من التمسُّك بالحبل المُحْكَم المأمونِ انقطاعُه فلا استعارةَ في المفردات ويجوز أن تكونَ العُروةُ الوثقى مستعارةً للاعتقاد الحقِّ الذي هو الإيمانُ والتوحيدُ لا للنظر الصحيح المؤدّي إليه كما قيل فإنه غيرُ مذكورٍ في حيز الشرط ، والاستمساكُ بها مستعاراً لِما ذكر من الملازمة أو ترشيحاً للاستعارة الأولى { والله سَمِيعٌ } بالأقوال { عَلِيمٌ } بالعزائم والعقائدِ ، والجملةُ اعتراضٌ تذييلي حاملٌ على الإيمان رادِعٌ عن الكفر والنفاق بما فيه من الوعد والوعيد .