تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256)

الآية 256 [ وقوله تعالى ]{[3215]} : { لا إكراه في الدين } ؛ قيل : { لا إكراه في الدين } أي لا يكره على الدين ، فإن كان التأويل هذا فهو على بعض دون بعض . قال بعضهم : نزل في المجوس وأهل الكتاب من اليهود والنصارى : أنه يقبل منهم الجزية ، ولا يكرهون على الإسلام ، ليس كمشركي العرب ألا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، ولا يقبل منهم الجزية ؛ فإن أسلموا ، وإلا قتلوا . وعلى ذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كتب إلى المنذرين /47- أ/ فلان : ( إما العرب فلا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية ) [ ابن جرير الطبري في تفسيره : 3/16 ] وعلى ذلك نطق به الكتاب : { تقتلونهم أو يسلمون } [ الفتح : 16 ] .

وقال قوم : { لا إكره في الدين } [ يحتمل وجهين :

أحدهما ]{[3216]} : ألا لا دين يقبل بإكراه ، بل ليس ذلك بإيمان .

والثاني : أن الرشد قد تبين من الغي ، ويبن ذلك لكل أحد حتى إذا قبل عن بيان وظهور لا عن إكراه .

وقال آخرون : قوله : { لا إكراه في الدين } أي لا إكراه على هذه الطاعات بعد الإسلام لأن الله تعالى حبب هذه الطاعات في قلوب المؤمنين ، فلا يكرهون على ذلك ، ومعناه : إن في الأمم المتقدمة الشدائد والمشقة ، ورفع الله عز وجلا تلك الشدائد عن هذه الأمة ، وخففها عليهم ؛ دليله قوله تعالى : { ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } [ البقرة : 286 ] ، وقوله تعالى : { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } [ الأعراف : 157 ] ، ومثل ذلك كثيرا ؛ كانت على الأمم السالفة ثقيلة ، وعلى هذه الأمة مخففة ؛ فإذا كانت مخففة عليهم لا يكرهون على ذلك .

وقال آخرون : هو منسوخ بقوله عليه السلام : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : { لا إله إلا الله } فإذا قالوها عصموا عني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ) [ مسلم 21 و 22 والبخاري 25 ] .

وقال قوم : إن قوما من الأنصار كانت ترضع لهم اليهود ، فلما جاء الإسلام أسلم الأنصار ، وبقي من عند اليهود من ولد الأنصار على دينهم ، فأردوا أن يكرهوهم ، فنزلت الآية : { لا إكراه في الدين } .

قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : ويحتمل الإكراه في الدين ما قال في قوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] .

وقوله تعالى : { قد تبين الرشد من الغي } يعني قد تبين الإسلام من الكفر بالله ، فلا تكرهون على ذلك .

وقوله تعالى : { فمن يكفر بالطاغوت } اختلف فيه : قيل : الطاغوت : الشياطين ، وقيل : كل ما يعبد من دون الله فهو طاغوت من الأصنام والأوثان التي [ تعبد من دون ]{[3217]} الله ، وقيل : الطاغوت الكهنة الذين{[3218]} يدعون الناس إلى عبادة غير الله [ يكفر هؤلاء ، ويكذبهم ]{[3219]} .

قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : ومن جملته : من يكفر بالذي يدعو إلى عبادة غير الله ، ويكذبه في ذلك ، ويؤمن بالذي يدعو إلى الله ، ويصدقه أنه داع إلى حق .

وقوله تعالى : { ويؤمن بالله } فيه دلالة أن الإيمان بالله هو إيمان بالأنبياء والرسل والكتب جميعا . إن{[3220]} لم يذكر معه غيره ، والكفر بالذي ذكرت يمنع حقيقة الإيمان بالله ، لأن [ في آخر السورة ذكر : { والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } [ البقرة : 285 ] [ على طريق التفصيل ]{[3221]} من آمن به وبأمره ونهيه وشرائعه ، لكن الذي قال : { لا تفرق بين أحد من رسله } [ البقرة : 285 ] لقول قوم حين قالوا : { نؤمن ببعض ونكفر ببعض } [ النساء : 150 ] ، وإلا [ ما كان ]{[3222]} في الإيمان بالله إيمان بجميع ذلك .

وقوله تعالى : { فقد استمسك بالعورة الوثقى } يحتمل هذا وجهين : [ يحتمل ]{[3223]} فقد عقد لنفسه عقدا وثيقا لا انفصام لذلك العقد ، ولا انقطاع ، ولا تقوم الحجة ببعضه ، ويحتمل : { فقد استمسك بالعورة الوثقى } بنصره إياه بالحجج والبراهين النيرة التي من اعتصم بها لا انفصال عنه ، ولا زوال .

ثم فيه نقض على المعتزلة لأنه أخبر عز وجلا أن من آمن بالله { فقد استمسك } بكذا ، والمعتزلة يقولون : صاحب الكبيرة يخلد في النار ، وهو مؤمن بالله ، فأي عورة أوهي من هذا على قولهم ؟ وأنى{[3224]} له زوال وانقطاع من ثوابه الذي وعد له عز وجلا بإيمانه بالله وتصديقه به ؟ وبالله العصمة .

وقوله تعالى : { والله سميع } لقولهم { عليم } بثوابهم ، أو{ سميع } بإيمانهم { عليم } بجزاء إيمانهم ، والله أعلم .


[3215]:من ط ع.
[3216]:ساقطة من النسخ الثلاث.
[3217]:في الأصل وم: تعبدون. في ط ع: تعبد دون.
[3218]:من ط ع، في الأصل وم: التي.
[3219]:في النسخ الثلاث: يكفر هؤلاء وتكذيبهم.
[3220]:في النسخ الثلاث: إذ.
[3221]:من ط ع.
[3222]:في النسخ الثلاث: لكان.
[3223]:من ط ع.
[3224]:في النسخ الثلاث: وإن.