محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256)

{ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ فمن يكفر بالطّاغوت ويؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها واللّه سميع عليم 256 } .

{ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ } قال ابن كثير : أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام فإنه بيّن واضح جليّ دلائله وبراهينه . لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه . بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونوّر بصيرته دخل فيه على بيّنة . ومن عمي قلبه فإنه لا يفيده الدخول فيه مكرها مقسوراً : فالنفي بمعنى النهي . / وهو ما ذهب إليه في تأويل الآية كثير . وذهب آخرون إلى أنه خبر محض . أي أنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر وإنما بناه على التمكين والاختيار . قال القفال موضحا له لما بين تعالى دلائل التوحيد بيانا شافيا قاطعا للعذر ، أخبر بعد ذلك أنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر . إلا أن يُقسر على الإيمان ويجبر عليه . وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء . إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } {[1408]} . وقوله تعالى : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } {[1409]} . وقوله تعالى : { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزّل عليهم من السماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين } {[1410]} .

تنبيه :

علم من هذه الآية أن سيف الجهاد المشروع في الإسلام والذي لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر لم يستعمل للإكراه على الدخول في الدين . ولكن لحماية الدعوة إلى الدين والإذعان لسلطانه وحكمه العدل .

{ فمن يكفر بالطاغوت } أي بالشيطان . أي بما يدعو إليه من عبادة الأوثان { ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } أي فقد تمسك من الدين بأقوى سبب ، وشبّه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم . هي في نفسها محكمة مبرمة قوية . وربطها قويّ / شديد . وجملة { لا انفصام لها } إما استئناف مقرر لما قبلها ، وإما حال من ( العروة ) والعامل { استمسك } أو من الضمير المستتر في { الوثقى } وإما صلة لموصول محذوف أي ( التي ) ، نقله الرازيّ .

وقد روى الشيخان عن عبد الله بن سلام قال : ( رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . رأيت كأني في روضة خضراء وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء . في أعلاه عروة . فقيل لي : اصعد عليه . فقلت : لا أستطيع . فجاءني منصف ( أي وصيف ) فرفع ثيابي من خلفي ، فقال : اصعد فصعدت حتى أخذت بالعروة . فقال : استمسك بالعروة ، فاستيقظت وإنها لفي يدي . فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه . فقال : أما الروضة فروضة الإسلام . وأما العمود فعمود الإسلام . وأما العروة فهي العروة الوثقى . أنت على الإسلام حتى تموت ) { والله سميع عليم } اعتراض تذييليّ حامل على الإيمان ، رادع عن الكفر والنفاق ، بما فيه من الوعد والوعيد .


[1408]:[18/ الكهف/ 29] ونصها: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشّراب وساءت مرتفقا 29}.
[1409]:[10/ يونس/ 99].
[1410]:[26/ الشعراء/ 3 و4].