الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256)

قوله تعالى : { لا إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي }[ البقرة :256 ] . الدِّينُ ، في هذه الآية : هو المُعْتَقَدُ ، والمِلَّة ، ومقتضى قولِ زَيْدِ بن أسْلَمَ أن هذه الآية مكِّيَّة ، وأنها من آيات الموادَعَة الَّتي نسخَتْها آية السَّيْف ، وقال قتادةُ والضَّحَّاك بنُ مُزَاحِمٍ : هذه الآية مُحْكَمَةٌ خاصَّة في أهل الكتاب الذينَ يبذُلُون الجزْيَة ، وقوله تعالى : { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } : معناه : بنصب الأدلَّة ، ووجودِ الرسُول صلى الله عليه وسلم الدَّاعِي إِلى اللَّه ، والآياتِ المُنيرة ، و( الرُّشْدُ ) مصْدَر من قولك : رَشِدَ ، بكسر الشين ، وضَمِّها ، يَرْشُدُ رُشْداً ، ورَشَداً ، ورَشَاداً ، و( الغيُّ ) مصدر من : غَوِيَ يغوي ، إِذا ضلَّ في معتقد ، أو رأْيٍ ، ولا يُقَال : الغيُّ في الضلال على الإِطلاق ، و{ الطَّاغُوتَ } بنَاءُ مبالغةٍ من : طغى يطغى ، واختلف في مَعْنى الطَّاغوت ، فقال عُمَر بْنُ الخَطَّاب وغيره : هو الشَّيْطَان ، وقيل : هو السَّاحِر ، وقيل : الكَاهِنُ ، وقيل : الأصْنَام ، وقال بعضُ العلماء : كُلُّ ما عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فهُوَ طَاغُوتٌ .

( ع ) وهذه تسميةٌ صحيحة في كلِّ معبودٍ يرضى ذلك ، كفرعَوْنَ ونُمْرُوذ ، وأما مَنْ لا يرضى ذلك ، فسمي طاغوتاً في حقِّ العَبَدَةِ ، قال مجاهد : ( العروةُ الوثقَى ) : الإِيمانُ ، وقال السُّدِّيُّ : الإِسلام ، وقال ابن جُبَيْر وغيره : لا إِله إِلا الله .

قال : ( ع ) وهذه عباراتٌ تَرْجِعُ إِلى معنًى واحدٍ ، و( الاِنْفِصَامُ ) : الاِنكسارُ من غَيْر بَيْنُونَةٍ ، وقد يجيءُ بمعنى البَيْنُونة ، والقَصْم : كسر بالبينونة .

( ت ) وفي «الموطَّأ » عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، أنَّهُ قَالَ : ( إِنَّ الوَحْيَ يَأْتِينِي أَحْيَاناً فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ ، فَيَفْصِمُ عَنِّي ، وَقَدْ وَعَيْتُ ) قال أبو عُمَر في «التمهيد » : قوله : ( فَيَفْصِمُ عَنِّي ) : معناه : ينفرجُ عنِّي ، ويذهب ، كما تفصمُ الخلخال ، إِذا فتحته ، لتخرجَهُ من الرِّجْل ، وكلُّ عُقدْة حلَلْتَهَا ، فقد فَصَمْتَها ، قال اللَّه عز وجلَّ : { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا } ، وانفصامُ العروةِ أنْ تنفَكَّ عن موضعها ، وأصْلُ الفَصْم عند العرب : أنْ تفكَّ الخلخال ، ولا يبين كَسْره ، فإِذا كسرته ، فقد قَصَمْتَهُ بالقافِ ، انتهى .

ولما كان الإِيمان ممَّا ينطقُ به اللِّسان ، ويعتقده القلبُ ، حَسُن في الصفاتِ ، { سَمِيعٌ } : من أجْل النُّطْق ، و{ عَلِيمٌ } من أجْل المعتقَدِ .