الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256)

قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } : كقولِهِ : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] وقد تقدَّم . والجمهور على إدغام دالِ " قد " في تاءِ " تَبَيَّن " لأنها من مَخْرَجِها . ومعنى الإِكراه نسبتُهم إلى كراهةِ الإِسلام . قال الزجاجُ : " لا تَنْسُبوا إلى الكراهةِ مَنْ أسلم مُكْرَهاً " . يقال : " أَكْفَره " نَسَبَه إلى الكفرِ ، قال :

وطائفةٌ قد أَكْفروني بحبِّهم *** وطائفةٌ قالوا مسيءٌ ومُذْنِبُ

[ وأل في " الدين " للعهدِ ، وقيل : عِوَضٌ من الإِضافة أي " في دين الله " ] .

والرُّشْدُ : مصدرُ رَشَدَ بفتح العين يَرْشُد بضمها . وقرأ الحسن " الرُّشُد " [ بضمتين كالعُنُق ، فيجوز أن يكونَ هذا أصلَه ، ويجوزُ أَنْ يكونَ إتباعاً ، وهي مسألةُ خلافٍ أعني ضَمَّ عينِ الفعلِ . وقرأ أبو عبد الرحمن ] الرَّشَد بفتح الفاء والعينِ ، وهو مصدرُ رشِد بكسرِ العينِ يَرْشَد بفتحها ، ورُوي عن أبي عبد الرحمن أيضاً : " الرَّشادُ " بالألف .

/قوله { مِنَ الْغَيِّ } متعلِّقٌ بتبيَّن ، و " مِنْ " للفصلِ والتمييزِ كقولك : مَيَّزتُ هذا من ذاك . وقال أبو البقاء : " في موضعِ نصبٍ على أنه مفعولٌ " وليس بظاهرٍ لأنَّ معنى كونِهِ مفعولاً به غيرُ لائقٍ بهذا المحلِّ . ولا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعرابِ ، لأنها استئنافٌ جارٍ مجرى التعليلِ لعدَمِ الإِكراه في الدين . والغَيُّ : مصدرُ غَوَى بفتح العين قال : { فَغَوَى } [ طه : 121 ] ، ويقال : " غَوَى الفصيلُ " إذا بَشِمَ وإذا جاع أيضاً ، فهو من الأضداد . وأصلُ الغَيّ : " غَوْيٌ " فاجتمعت الياء والواو ، فَأُدْغِمَتْ نحو : مَيّت وبابِهِ .

قوله : { بِالطَّاغُوتِ } متعلِّقٌ ب " يكْفر " ، والطاغوتُ بناء مبالغةٍ كالجَبَروت والملَكوت . واختُلِفَ واختُلِفَ فيه ، فقيل : هو مصدرٌ في الأصلِ ولذلك يُوَحَّد ويُذَكَّر ، كسائرِ المصادرِ الواقعةِ على الأَعْيَان ، وهذا مذهبُ الفارسي ، وقيل : هو اسمُ جنسٍ مفردٍ ، فلذلك لَزِمَ الإِفرادَ والتذكيرَ ، وهذا مذهبُ سيبويه . وقيل هو جمعٌ ، وهذا مذهبُ المبردِ ، وهو مؤنثٌ بدليلِ قوله تعالى : { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } [ الزمر : 17 ] . واشتقاقُه من طغَى يَطْغَى ، أو من طَغَا يَطْغُو ، على حَسَبِ ما تقدَّم أولَ السورة ؟ هل هو من ذواتِ الواوِ أو من ذواتِ الياء ؟ وعلى كِلا التقديرين فأصلُه طَغَيُوت أو طَغَوُوت لقولِهم " طُغْيان " في معناه ، فَقُلِبَت الكلمةُ بأَنْ قُدِّمَتْ اللامُ وأُخِّرت العينُ ، فتحرَّك حرفُ العلةِ وانفَتَحَ ما قبلَه فَقُلِبَ ألفاً ، فوزنه الآن فَلَعُوت ، وقيل : تاؤُه ليسَتْ زائدةً ، وإنما هي بدلٌ من لامِ الكلمة ، ووزنُه فاعول . قال مكي : " وقد يَجُوز أن يكونَ أصلُ لامِهِ واواً فيكونُ أصلُه طَغَووتاً لأنه يقال : طَغَى يَطْغى ويَطْغو ، وطَغَيْتُ وطَغَوْتُ ، ومثلُه في القلب والاعتلال والوزن : حانوت ، لأنه من حَنا يَحْنو وأصله حَنَوُوت ، ثم قُلِب وأُعِلَّ ، ولا يجوزُ أن يكونَ من : حانَ يَحِين لقولِهم في الجمع حَوانيت " انتهى .

كأنَّه لمَّا رأى أَنَّ الواوَ قد تُبْدَل تاءً كما في تُجاه وتُخَمَة وتُراث وتُكَأة ، ادَّعى قَلْبَ الواوِ التي هي لامٌ تاءً ، وهذا ليسَ بشيءٍ .

وقَدَّم ذِكْرَ الكفر بالطاغوتِ على ذِكْرِ الإِيمانِ باللَّهِ اهتماماً بوجوبِ الكفرِ بالطاغوتِ ، وناسَبَه اتصالُهُ بلفظٍ " الغَيّ " .

والعُرْوَة : موضعُ شَدِّ الأيدي ، وأصلُ المادةِ يَدُلُّ على التعلُّق ، ومنه : عَرَوْتُه : أَلْمَمْتُ به متعلِّقاً ، واعتراه الهَمُّ : تعلَّق به . والوُثْقى : فُعْلى للتفضيل تأنيثَ الأوثق ، كفُضْلى تأنيثَ الأفضل ، وجَمْعُها على وُثَق نحو : كُبْرى وكُبَر ، فأمَّا " وُثُق " بضمتين فجمع وَثِيق .

قوله : { لاَ انفِصَامَ لَهَا } كقولِهِ : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] والجملةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُهما : أن تكونَ استئنافاً فلا محلَّ لها حينئذٍ . والثاني : أنها حالٌ من العُرْوة ، والعاملُ فيها " استمسَكَ " . والثالث : أنها حالٌ من الضميرِ المستترِ في " الوُثْقى " . و " لها " في موضِعِ الخبرِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : كائنٌ لها . والانفصامُ - بالفاء - القَطْعُ من غير بَيْنُونة ، والقصمُ بالقافِ قَطْعٌ ببينونةٍ ، وقد يُستعمل ما بالفاءِ مكانَ ما بالقافِ .