قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } : كقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة :2 ] وقد تقدَّم . وأل في " الدِّين " للعهد ، وقيل : عوضٌ من الإضافة أي " في دِينِ اللهِ " لقوله تعالى : { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [ النازعات :41 ] ، أي : تأوي .
والجمهور على إدغام دال " قَد " في تاء " تَبَيَّن " ؛ لأنها من مخرجها .
والرُّشد : مصدر رشد بفتح العين يرشد بضمِّها ، ومعناه في اللُّغة ، إصابة الخير . وقرأ{[4263]} الحسنُ " الرُّشُد " بضمتين كالعنق ، فيجوز أن يكون هذا أصله ، ويجوز أن يكون إتباعاً ، وهي مسألة خلاف أعني ضمَّ عين الفعل . وقرأ{[4264]} أبو عبد الرحمن الرَّشد بفتح الفاء والعين ، وهو مصدر رشد بكسر العين يرشد بفتحها ، وروي عن أبي عبد الرَّحمن أيضاً : " الرَّشَادُ " بالألف .
ومعنى الإكراه نسبتهم إلى كراهة الإسلام . قال الزَّجَّاج : " لاَ تَنْسُبوا إلى الكَرَاهَةِ مَنْ أَسْلَمَ مُكْرِهاً " ، يقال : " أَكْفَرَهُ " نسبه إلى الكفر ؛ قال : [ الطويل ]
وَطَائِفَةٌ قَدْ أَكْفَرُوني بِحُبِّهِمْ *** وَطَائِفَةٌ قَالُوا مُسِيٌ وَمُذنِبُ{[4265]}
قوله : " مِنَ الْغَيِّ " متعلِّقٌ بتبيَّن ، و " مِنْ " للفصل ، والتمييز كقولك : ميَّزت هذا من ذاك . وقال أبو البقاء{[4266]} : " في موضع نَصْبٍ على أنَّه مفعولٌ " وليس بظاهرٍ ؛ لأنَّ معنى كونه مفعولاً به غير لائقٍ بهذا المحلِّ . ولا محلِّ لهذه الجملة من الإعراب ؛ لأنَّها استئنافٌ جارٍ مجرى التّعليل لعدم الإكراه في الدين .
والتّبيين : الظهور والوضوح ، بان الشَّيء ، واستبان ، وتبيَّين : إذا ظهر ووضح ومنه المثل : تَبَيَّنَ الصُّبح لذي عينين .
قال ابن الخطيب : وعندي أنَّ الإيضاح ، والتعريف ، إنَّما سمِّي بياناً ؛ لأنَّه يوقع الفصلة ، والبينونة بين المقصود وغيره .
والغيُّ : مصدر غوى بفتح العين قال : { فَغَوَى } [ طه :121 ] ، ويقال : " غَوَى الفَصِيلُ " إذا بَشِمَ ، وإذا جاع أيضاً ، فهو من الأضداد . وأصل الغيّ : " غَوْيٌ " فاجتمعت الياء والواو ، فأُدغمت نحو : ميّت وبابه .
والغيُّ : نقيض الرُّشد : يقال : غَوَى يَغْوِي ، غيّاً ، وغَوَايَةٌ إذا سلك خلاف طريق الرُّشد .
فصل في معنى " الدِّين " في الآية
قال القرطبيُّ{[4267]} : المراد " بالدِّينِ " في هذه الآية الكريمة المعتقد ، والملة بدليل قوله { قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } .
قال سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة ، لا يعيش لها ولد ، فكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنَّه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهوديَّة . فلمَّا جاء الإسلام ، وفيهم منهم ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عددٌ من أولاد الأنصار ، فأرادت الأنصار استردادهم ، وقالوا : أبناؤنا وإخواننا ، فنزلت : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قَدْ خَيَّرَ اللهُ أَصْحَابَكُمْ ، فإن اخْتَارُوكم فهم منكم ، وإن اخْتَارُوهم ، فأجلوهم مَعَهمْ{[4268]} " .
وقال مجاهد : كان ناسٌ مسترضعين في اليهود من الأوس ، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النّضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم : لنذهبنّ معهم ولندينن بدينهم ، فمنهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام فنزلت { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ . . . }{[4269]} .
وقال مسروقٌ : كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان متنصّران قبل مبعث النَّبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة في نفر من النَّصارى يحملون الطَّعام فلزمهما أبوهما ، وقال لا أدعكما حتى تسلما فأبيا أن يسلما فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يَا رَسُولَ الله أَيَدْخُلُ بعضي النَّار وأنا أَنْظُرُ ، فأنزل الله تعالى { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ، فخلى سبيلهما{[4270]} .
وقال قتادة وعطاء : نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية ، وذلك أنَّ العرب كانت أُمَّة أمّية لم يكن لهم كتاب ، فلم يقبل منهم إلاَّ الإسلام ، فلما أسلموا طوعاً ، أو كرهاً ؛ أنزل الله تعالى { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ؛ فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا ، أو يقرُّوا بالجزية ، فمن أعطى منهم الجزية ، لم يكره على الإسلام{[4271]} .
وقال ابن مسعود كان هذا في ابتداء الإسلام ، قبل أن يؤمر بالقتال ، فصارت منسوخة بآية السَّيف{[4272]} . ومعنى { تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } ، أي : تميَّز الحقّ من الباطل ، والإيمان من الكفر ، والهدى من الضّلالة بالحجج والآيات الظَّاهرة .
قوله : " بِالطَّاغُوتِ " متعلِّقٌ ب " يَكْفر " ، والطاغوت بناء مبالغةٍ كالجبروت والملكوت . واختلف فيه ، فقيل : هو مصدرٌ في الأصل ، ولذلك يوحَّد ويذكَّر ، كسائر المصادر الواقعة على الأعيان ، وهذا مذهب الفارسيّ ، وقيل : هو اسم جنس مفردٍ ، فلذلك لزم الإفراد والتَّذكير ، وهذا مذهب سيبويه{[4273]} رحمه الله . وقيل هو جمعٌ ، وهذا مذهب المبرّد ، وهو مؤنّث لقوله تعالى { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ } [ البقرة :257 ] قال أبو علي الفارسي : وليس الأمر كذلك ، لأن " الطَّاغُوتَ " مصدر كالرّغبوت ، والرَّهبوت ، والملكوت ، فكما أنَّ هذه الأسماء آحاد ، كذلك هذا الاسم مفردٌ ، وليس بجمع ومما يدلّ على أنَّه مصدر مفرد وليس بجمع قوله تبارك وتعالى : { أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ } ، فأفرد في موضع الجمع ، كما يقال هم رضاً ، وهم عدل{[4274]} انتهى . وهو مؤنَّث لقوله تعالى { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } [ الزمر :17 ] .
وأجاب من ادَّعى التّذكير عن هذا الاستدلال بأنَّه إنما أنَّث هنا ؛ لإرادة الآلهة وقال آخرون{[4275]} : ويكون مذكراً ، ومؤنثاً ، وواحداً وجمعاً قال تعالى في المذكر والواحد : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } [ النساء :60 ] وقال في المؤنث : { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } [ الزمر :17 ] وقال في الجمع : { يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } [ البقرة :257 ] . واشتقاقه من طغَى يَطْغَى ، أو من طَغَا يَطْغُو ، على حسب ما تقدَّم أول السورة ، هل هو من ذوات الواو أو من ذوات الياء ؟ وعلى كلا التّقديرين ، فأصله طَغَيُوت ، أو طَغَوُوت لقولهم : " طُغْيان " في معناه ، فقلبت الكلمة بأن قدِّمت اللاّم وأُخِّرت العين ، فتحرَّك حرف العلَّة ، وانفتح ما قبله فقلب ألفاً ، فوزنه الآن فلعوت ، وقيل : تاؤه ليست زائدةً ، وإنَّما هي بدلٌ من لام الكلمة ، ووزنه فاعول من الطُّغيان كقولهم " حانوت " ، و " تابوت " ، والتاء فيهما مبدلة من " هَا " التأنيث .
قال مكي{[4276]} " وقد يجُوز أن يكون أصلُ لامه واواً ، فيكون أصله طغووتاً ؛ لأنه يقال : طَغَى يَطْغى ويَطْغو ، وطَغَيْتُ وطَغَوْتُ ، ومثله في القلب والاعتلال ، والوزن : حانوت ؛ لأَنَّه من حَنا يحنو وأصله حَنَووت ، ثم قُلِب وأُعِلَّ ، ولا يجوزُ أن يكونَ من : حانَ يَحِين لقولهم في الجمعِ حَوانيت " انتهى قال شهاب الدين : كأنَّه لمَّا رأى أنَّ الواوَ قد تُبْدَل تاءً كما في تُجاه ، وتُخَمَة ، وتُراث ، وتُكَأة ، ادَّعى قَلْبَ الواوِ التي هي لامٌ تاءً ، وهذا ليس بشيءٍ .
وقدَّم ذِكْرَ الكفر بالطَّاغوت على ذِكْرِ الإِيمان باللهِ تعالى اهتماماً بوجوبِ الكفرِ بالطَّاغوتِ ، وناسبَهَ اتصالُهُ بلفظ " الغَيّ " .
واختلف في الطَّاغوت فقال عمر ، ومجاهدٌ ، وقتادة : هو الشَّيطان{[4277]} .
وقال سعيد بن جبير : هو الكاهن{[4278]} . وقال أبو العالية : هو الساحر{[4279]} . وقال بعضهم : الأَصنام{[4280]} .
وقيل مردة الجنّ والإنس{[4281]} ، وكلُّ ما يطغى الإِنسان{[4282]} .
وقيل : الطَّاغُوتُ هو كلّ ما عُبِدَ مِنْ دون الله ، وكان راضياً بكونه معبُوداً ، فعلى هذا يكُونُ الشَّيطان والكهنة ، والسَّحرة ، وفرعون والنمروذ كلُّ واحد منهم طاغوتاً ؛ لأنهم راضون بكونهم معبودين وتكونُ الملائكة ، وعزير ، وعيسى ليسوا بطواغيت ، لأنهم لم يرضوا بأن يكونوا معبودين .
قوله : " وَيْؤْمِنُ بِاللهِ " عطف على الشَّرط وقوله { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } جواب الشَّرط ، وفيه دليل على أنَّهُ لا بدّ للكافر من أن يتوب أوَّلاً عن الكفر ، ثم يؤمنُ بعد ذلك .
وفيه دليل على أَنَّ درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح{[4283]} ؛ لأنَّهُ قدّم الكُفر بالطَّاغوت [ على الإيمان باللهِ اهتماماً به فإن قيل الإيمان باللهِ مستلزم لِلْكُفر بالطَّاغُوت .
قلنا : لا نسلم ، قد يكفر بالطَّاغوت ]{[4284]} ولا يؤمن بالله واستمسك أي : استمسك واعتصم " بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى " أي العقد الوثيق المحكم في الدِّين .
و " العُرْوَة " : موضعُ شَدِّ الأَيدي ، وأصلُ المادّةِ يَدُلُّ على التَّعلُّق ، ومنه : عَرَوْتُه : أَلْمَمْتُ به متعلِّقاً ، وَاعتراه الهَمُّ : تعلَّق به ، و " الوُثْقى " : فُعْلى للتفضيل تأنيث الأوثق ، كفُضْلى تأنيث الأفضل ، وجمعُها على وُثَق نحو : كُبْرى وكُبَر ، فأمَّا " وُثُق " بضمّتين فجمع وَثيق . وهذا استعارة المحسُوس للمعقول ؛ لأَنّ من أراد إمساك هذا الدِّين تعلّق بالدلائل وأوضحها الدّالة عليه ، ولما كانت دلائِلُ الإِسلام أقوى الدَّلائل وأوضحها وصفها الله تبارك وتعالى بأَنَّها العروة الوثقى .
قال مجاهِدٌ : " العُرْوَةُ الوثقى " الإيمان{[4285]} .
وقال السُّدِّي : الإِسلام{[4286]} .
وقال ابن عباسٍ ، وسعيد بن جبير والضحاك : لا إِله إلاَّ الله{[4287]} .
قوله : " لاَ انفِصَامَ لَهَا " كقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة :2 ] والجملةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أن تكونَ استئنافاً ، فلا مَحَلَّ لها حينئذٍ .
والثاني : أنها حالٌ من العُرْوة ، والعاملُ فيها " اسْتَمْسَكَ " .
والثالث : أنها حالٌ من الضميرِ المستترِ في " الوُثْقَى " . و " لها " في موضعِ الخبرِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائنٌ لها . والانفصامُ بالفَاءِ القَطْعُ من غير بَيْنُونة ، والقصمُ بالقافِ قَطْعُ بينونةٍ ، وقد يُستعمل ما بالفاءِ مكانَ ما بالقافِ .
والمقصودُ من هذا اللَّفظ المُبالغةُ ؛ لأَنَّهُ إذا لم يكن لها انفِصَام ، فأن لا يكون لها انقطاع أولى ، ومعنى الآية : بالعُرْوَة الوثقى التي لا انفصام لها ، والعرب تُضْمِرُ " الَّتي " و " الذي " و " مَن " وتكتفي بصلاتها منها .
قال سلامة بن جندل : [ البسيط ]
وَالعَادِيَاتُ أَسَالِيُّ الدِّمَاءِ بِهَا *** كَأَنَّ أَعْنَاقَهَا أَنْصَابُ تَرْجِيبِ{[4288]}
يريد والعاديات التي قال تعالى : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات :164 ] أي من له .
قوله : { وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فيه قولان :
أحدهما : أنَّهُ تعالى يسمع قول من يتكلم بالشَّهادتين ، وقول من يتكلَّم بالكُفْر ، ويعلمُ ما في قلب المؤمِنِ من الاعتقاد الطاهر ، وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث .
الثاني : روى عطاء عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب إسلام أهل الكِتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة ، وكان يَسْأَلُ الله ذلك سِرّاً ، وعلانية ، فمعنى قوله { وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يريدُ لدعائك يا محمَّد عليم بحرصك واجتهادك{[4289]} .