غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256)

255

وقوله سبحانه : { لا إكراه في الدين } الآية : لما بيَّن دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً للأعذار ذكر بعد ذلك . أنه لم يبق للكافر علة في إقامته على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه ؛ وذلك لا يجوز في دار الدنيا التي هي مقام الابتلاء والاختبار ، وينافيه الإكراه والإجبار . ومما يؤكد ذلك قوله : { قد تبين الرشد من الغي } يقال بَانَ الشيء واستبان وتبيَّن وبيّن أيضا إذا وضح وظهر ومنه المثل : قد تبين الصبح لذي عينين . والرشد إصابة الخير ، والغي نقيضه . أي : تميز الحق من الباطل ، والإيمان من الكفر ، والهدى من الضلال ، بكثرة الحجج والبينات ووفور الدلائل والآيات . { فمن يكفر بالطاغوت } قال النحويون : وزنه " فعلوت " نحو جبروت وأصله من " طغى " ، إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين ثم صيرت ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها . وذكر الفارسي أنه مصدر كالرغبوت والرهبوت ، والدليل على ذلك أنه يفرد في موضع الجمع كما يقال : هم رضا وعدل . ولهذا قال تعالى :{ أولياؤهم الطاغوت }[ البقرة : 257 ] والأصل فيه التذكير . قال تعالى :{ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به }[ النساء : 60 ] فأما قوله تعالى :{ والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها }[ الزمر : 17 ] فالتأنيث لإرادة الآلهة . وأما معنى " الطاغوت " فعن عمر ومجاهد وقتادة : هو الشيطان . وعن سعيد بن جبير : الكاهن . وقال أبو العالية : الساحر . وعن بعضهم : الأصنام . وقيل : مردة الجن والإنس وكل ما يطغى ، وإنما جعلت هذه الأشياء أسباباً للطغيان لحصول الطغيان عند الاتصال بها كقوله { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس }[ إبراهيم : 36 ] ويعلم من قوله { فمن يكفر بالطاغوت } ثم من قوله : { ومن يؤمن بالله } ، أن الكافر لا بد أن يتوب أوّلاً ، ثم يؤمن بعد ذلك ، { فقد استمسك بالعروة الوثقى } استمسك وتمسك بمعنى ، والعروة واحدة عرى : الدلو والكوز ونحوهما مما يتعلق به . والوثقى تأنيث الأوثق ، وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول ، لأن الإسلام أقوى ما يتشبث به للنجاة فمثل المعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس وهو الحبل الوثيق المحكم حتى يتصور السامع كأنه ينظر إليه بعينه فتزول شبهته بالكلية . والفصم كسر الشيء من غير أن يبيّن فصَمْتُه فانفصم . والمقصود من قوله { لا انفصام لها } هو المبالغة لأنه إذا لم يكن لها انفصام ، فأن لا يكون لها انقطاع أولى قيل إن الموصول ههنا محذوف أي التي لا انفصام لها كقوله { وما منا إلا له مقام معلوم }[ الصافات : 164 ] أي مَن له . وقيل : معنى قوله { لا إكراه في الدين } لا تكرهوا في الدين على أنه إخبار في معنى النهي والإكراه إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً يحمله عليه .

ثم قال بعضهم : إنه منسوخ بقوله { جاهد الكفار والمنافقين }[ التحريم : 9 ] وقال بعضهم : هو في أهل الكتاب خاصة ، لأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم وحُكْم المجوس حُكْمهم . وأما الكفار الذين تهوّدوا أو تنصروا فقيل إنهم لا يقرُّون على ذلك ويكرهون على الإسلام . وقيل يقرُّون على ما انتقلوا إليه ولا يكرهون . روي أنه كان لأنصاريٍّ من بني سالم بن عوق ابنان فتنصَّرا قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما . فأبيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر فنزلت فخلاهما . وقيل معنى قوله { لا إكراه } أي : لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب أنه دخل مكرهاً لأنه إذا رضي بعد الحرب وصحَّ إسْلامه فليس بمكره ، ومعناه لا تنسبوه إلى الإكراه فيكون كقوله { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً }[ النساء : 94 ] .

{ والله سميع عليم } يسمع قول من يتكلم بالشهادة وقول من يتكلم بالكفر ، يعلم ما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطيب وما في قلب الكافر من العقد الخبيث . وعن عطاء عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة وكان يسأل الله ذلك سراً وعلانية فقيل له : والله سميع لدعائك يا محمد عليم بحرصك واجتهادك .

/خ257