145- وبينا لموسى في ألواح التوراة كل شيء من المواعظ والأحكام المفضلة التي يحتاج الناس إليها في المعاش والمعاد ، وقلنا له : خذ الألواح بجد وحزم ، وأمر قومك أن يأخذوا بأفضل ما فيها ، كالعفو بدل القصاص ، والإبراء بدل الانتظار ، واليسر بدل العسر . سأريكم يا قوم موسى في أسفاركم دار الخارجين على أوامر اللَّه ، وما صارت إليه من الخراب لتعتبروا ، فلا تخالفوا حتى لا يصيبكم ما أصابهم .
قوله تعالى : { وكتبنا له } ، يعني لموسى .
قوله تعالى : { في الألواح } ، قال ابن عباس : يريد ألواح التوراة ، وفي الحديث ( كانت من سدر الجنة ، طول اللوح اثنا عشر ذراعاً ) . وجاء في الحديث ( خلق الله آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس شجرة طوبى بيده ) . وقال الحسن : كانت الألواح من خشب . قال الكلبي : كانت من زبرجدة خضراء . وقال سعيد بن جبير : كانت من ياقوت أحمر ، وقال الربيع بن أنس : كانت الألواح من برد . وقال ابن جريج : كانت من زمرد ، أمر الله جبريل حتى جاء بها من عدن ، وكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر ، واستمد من نهر النور ، قال وهب : أمره الله بقطع الألواح من صخرة صماء ، لينها الله له ، فقطعها بيده ، ثم شققها بيده ، وسمع موسى صرير القلم بالكلمات العشر ، وكان ذلك في أول يوم من ذي القعدة ، وكانت الألواح عشرة أذرع على طول موسى ، وقال مقاتل ووهب : { وكتبنا له في الألواح } ، كنقش الخاتم . وقال الربيع بن أنس : نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير ، يقرأ الجزء منه في سنة ، لم يقرأه إلا أربعة نفر ، موسى ، ويوشع ، وعزير ، وعيسى . وقال الحسن : هذه الآية في التوراة ألف آية ، يعني : { وكتبنا له في الألواح } .
قوله تعالى : { من كل شيء } ، مما أمروا به ونهوا عنه .
قوله تعالى : { موعظة } نهياً عن الجهل ، وحقيقة لموعظة التذكير والتحذير بما يخاف عاقبته .
قوله تعالى : { وتفصيلاً لكل شيء } ، أي : تبييناً لكل شيء من الأمر والنهي ، والحلال والحرام ، والحدود والأحكام .
قوله تعالى : { فخذها بقوة } ، أي : بجد واجتهاد ، وقيل : بقوة القلب وصحة العزيمة ، لأنه إذا أخذه بضعف النية أداه إلى الفتور .
قوله تعالى : { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } ، قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : يحلوا حلالها ، ويحرموا حرامها ، ويتدبروا أمثالها ، ويعملوا بمحكمها ، ويقفوا عند متشابهها ، وكان موسى عليه السلام أشد عبادة من قومه ، فأمر بما لم يؤمروا به . قال قطرب : ( بأحسنها ) أي بحسنها ، وكلها حسن ، وقيل : أحسنها الفرائض والنوافل ، وهي ما يستحق عليها الثواب ، وما دونها المباح ، لأنه لا يستحق عليه الثواب ، وقيل : بأحسنها بأحسن الأمرين في كل شيء ، كالعفو أحسن من القصاص ، والصبر أحسن من الانتصار .
قوله تعالى : { سأريكم دار الفاسقين } ، قال مجاهد : مصيرها في الآخرة ، قال الحسن وعطاء : يعني جهنم ، يحذركم أن تكونوا مثلهم ، وقال قتادة وغيره : سأدخلكم الشام ، فأريكم منازل القرون الماضية الذين خالفوا أمر الله لتعتبروا بها ، قال عطية العوفي : أراد دار فرعون وقومه وهي مصر ، يدل عليه قراءة قسامة بن زهير : ( سأورثكم دار الفاسقين ) ، وقال السدي : دار الفاسقين مصارع الكفار . وقال الكلبي : ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد ، وثمود ، والقرون الذين أهلكوا .
ثم يبين السياق ماذا كان مضمون الرسالة ، وكيف أوتيها موسى :
( وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء ) . .
وتختلف الروايات والمفسرون في شأن هذه الألواح ؛ ويصفها بعضهم أوصافاً مفصلة - نحسب أنها منقولة عن الإسرائيليات التي تسربت إلى التفسير - ولا نجد في هذا كله شيئاً عن رسول الله [ ص ] فنكتفي بالوقوف عند النص القرآني الصادق لا نتعداه . وما تزيد تلك الأوصاف شيئاً أو تنقص من حقيقة هذه الألواح . أما ما هي وكيف كتبت فلا يعنينا هذا في شيء بما أنه لم يرد عنها من النصوص الصحيحة شيء . والمهم هو ما في هذه الألواح . إن فيها من كل شيء يختص بموضوع الرسالة وغايتها من بيان الله وشريعته والتوجيهات المطلوبة لإصلاح حال هذه الأمة وطبيعتها التي أفسدها الذل وطول الأمد سواء !
( فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ) . .
والأمر الإلهي الجليل لموسى - عليه السلام - أن يأخذ الألواح بقوة وعزم وأن يأمر قومة أن يأخذوا بما فيها من التكاليف الشاقة بوصفه الأحسن لهم والأصلح لحالهم . . هذا الأمر على هذا النحو فضلاً على أنه يشي بضرورة هذا الأسلوب في أخذ هذه الطبيعة الإسرائيلية ، التي أفسدها الذل وطول الأمد ، بالعزم والجد ، لتحمل تكاليف الرسالة والخلافة ، فإنه - كذلك - يوحي بالمنهج الواجب في أخذ كل أمة لكل عقيدة تأتيها . .
إن العقيدة أمر هائل عند الله - سبحانه - وأمر هائل في حساب هذا الكون ، وقدر الله الذي يصرفه ، وأمر هائل في تاريخ " الإنسان " وحياته في هذه الأرض وفي الدار الآخرة كذلك . . والمنهج الذي تشرعه العقيدة في وحدانية الله - سبحانه - وعبودية البشر لربوبيته وحده ، منهج يغير أسلوب الحياة البشرية بجملتها ، ويقيم هذه الحياة على أسلوب آخر غير الذي تجري عليه في الجاهلية ، حيث تقوم ربوبية غير ربوبية الله سبحانه ، ذات منهج للحياة كلها غير منهج الله الذي ينبثق من تلك العقيدة . .
وأمر له هذه الخطورة عند الله ، وفي حساب الكون ، وفي طبيعة الحياة وفي تاريخ " الإنسان " . . يجب أن يؤخذ بقوة ، وأن تكون له جديته في النفس ، وصراحته وحسمه . ولا ينبغي أن يؤخذ في رخاوة ، ولا في تميع ، و لا في ترخص ، ذلك أنه أمر هائل في ذاته ، فضلاً على أن تكاليفه باهظة لا يصبر عليها من طبيعته الرخاوة والتميع والترخص ، أو من يأخذ الأمر بمثل هذه المشاعر . .
وليس معنى هذا - بطبيعة الحال - هو التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض ! فهذا ليس من طبيعة دين الله . . ولكن معناه الجد والهمة والحسم والصراحة . . وهي صفات أخرى ومشاعر أخرى غير مشاعر التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض !
ولقد كانت طبيعة بني إسرائيل - بصفة خاصة - بعدما أفسدها طول الذل والعبودية في مصر ، تحتاج إلى هذا التوجيه . لذلك نلحظ أن كل الأوامر لبني إسرائيل كانت مصحوبة بمثل هذا التشديد وهذا التوكيد ، تربية لهذه الطبيعة الرخوة الملتوية المنحرفة الخاوية ، على الاستقامة والجد والوضوح والصراحة . .
ومثل طبيعة بني إسرائيل كل طبيعة تعرضت لمثل ما تعرضوا له من طول العبودية والذل ، والخضوعللإرهاب والتعبد للطواغيت ، فبدت عليها أعراض الالتواء والاحتيال ، والأخذ بالأسهل تجنباً للمشقة . . كما هو الملحوظ في واقع كثير من الجماعات البشرية التي نطالعها في زماننا هذا ، والتي تهرب من العقيدة لتهرب من تكاليفها ، وتسير مع القطيع ؛ لأن السير مع القطيع لا يكلفها شيئاً !
وفي مقابل أخذ هذا الأمر بقوة يعد الله موسى وقومه أن يمكن لهم في الأرض ، ويورثهم دار الفاسقين عن دينه :
والأقرب أنها إشارة إلى الأرض المقدسة التي كانت - في ذلك الزمان - في قبضة الوثنيين ، وأنها بشارة لهم بدخولها . . وإن كان بنو إسرائيل لم يدخلوها في عهد موسى - عليه السلام - لأن تربيتهم لم تكن قد استكملت ، وطبيعتهم تلك لم تكن قد قوّمت ، فوقفوا أمام الأرض المقدسة يقولون لنبيهم : ( يا موسى إن فيها قوماً جبارين . وإنا لن ندخلها ً حتى يخرجوا منها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ! ) . . ثم لما ألح عليهم الرجلان المؤمنان فيهم اللذان يخافان الله ، في الدخول والاقتحام ! أجابوا موسى بتوقح الجبان - كالدابة التي ترفس سائقها ! - : إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها ، فاذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا هاهنا قاعدون ! . . مما يصور تلك الطبيعة الخائرة المفككة الملتوية التي كانت تعالجها العقيدة والشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام ، وأمر هذا الأمر الألهي الجليل أن يأخذها بقوة ، وأن يأمر قومه بحمل تكاليفها الشاقة . .
ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء ، قيل : كانت الألواح من جوهر ، وأن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاما مفصلة مبينة للحلال والحرام ، وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة التي قال الله [ تعالى ]{[12129]} فيها : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } [ القصص : 43 ]
وقيل : الألواح أعطيها موسى قبل التوراة ، فالله أعلم . وعلى كل تقدير كانت{[12130]} كالتعويض له عما سأل من الرؤية ومنع منه ، والله أعلم .
وقوله : { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } أي : بعزم على الطاعة { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } قال سفيان بن عيينة : حدثنا أبو سعد{[12131]} عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : أمر موسى - عليه السلام - أن يأخذ بأشد ما أمر قومه .
وقوله : { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } أي : سترون{[12132]} عاقبة من خالف أمري ، وخرج عن طاعتي ، كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب ؟
قال ابن جرير : وإنما قال : { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } كما يقول القائل لمن يخاطبه : " سأريك غدا إلام يصير إليه حال من خالف أمري " ، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره .
ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد ، والحسن البصري .
وقيل : معناه { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } أي : من أهل الشام ، وأعطيكم إياها . وقيل : منازل قوم فرعون ، والأول أولى ، والله أعلم ؛ لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر ، وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه ، والله أعلم .