قوله تعالى : { فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين* وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون*الله الذي خلقكم من ضعف } قرئ بضم الصاد وفتحها ، فالضم لغة قريش ، والفتح لغة تميم ، ومعنى من ضعف ، أي : من نطفة ، يريد من ذي ضعف ، أي : من ماء ذي ضعف كما قال تعالى : { ألم نخلقكم من ماء مهين } { ثم جعل من بعد ضعف قوة }أي : من بعد ضعف الطفولة شباباً ، وهو وقت القوة ، { ثم جعل من بعد قوة ضعفاً } هرماً ، { وشيبةً يخلق ما يشاء } من الضعف والقوة والشباب والشيبة ، { وهو العليم } بتدبير خلقه ، { القدير } على ما يشاء .
بعد ذلك يعود السياق ليجول بهم جولة جديدة ، لا في مشاهد الكون من حولهم ، ولكن في ذوات أنفسهم ، وفي أطوار نشأتهم على هذه الأرض ؛ ويمتد بالجولة إلى نهايتها هنالك في الحياة الأخرى . في ترابط بين الحياتين وثيق :
الله الذي خلقكم من ضعف ، ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة - يخلق ما يشاء - وهو العليم القدير . ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة . كذلك كانوا يؤفكون . وقال الذين أوتوا العلم والإيمان : لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث ، فهذا يوم البعث ، ولكنكم كنتم لا تعلمون . فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون . .
إنها جولة مديدة ، يرون أوائلها في مشهود حياتهم ؛ ويرون أواخرها مصورة تصويرا مؤثرا كأنها حاضرة أمامهم . وهي جولة موحية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
( الله الذي خلقكم من ضعف ) . . ولم يقل خلقكم ضعافا أو في حالة ضعف إنما قال : ( خلقكم من ضعف )كأن الضعف مادتهم الأولى التي صيغ منها كيانهم . . والضعف الذي تشير الآية إليه ذو معان ومظاهر شتى في تكوين هذا الإنسان .
إنه ضعف البنية الجسدية الممثل في تلك الخلية الصغيرة الدقيقة التي ينشأ منها الجنين . ثم في الجنين وأطواره وهو فيها كلها واهن ضعيف . ثم في الطفل والصبي حتى يصل إلى سن الفتوة وضلاعة التكوين .
ثم هو ضعف المادة التي ذرأ منها الإنسان . الطين . الذي لولا نفخة من روح الله لظل في صورته المادية أو في صورته الحيوانية ، وهي بالقياس إلى الخلقة الإنسانية ضعيفة ضعيفة .
ثم هو ضعف الكيان النفسي أمام النوازع والدفعات ، والميول والشهوات ، التي لولا النفخة العلوية وما خلقت في تلك البنية من عزائم واستعدادات ، لكان هذا الكائن أضعف من الحيوان المحكوم بالإلهام .
( الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ) . . قوة بكل تلك المعاني التي جاءت في الحديث عن الضعف . قوة في الكيان الجسدي ، وفي البناء الإنساني ، وفي التكوين النفسي والعقلي .
( ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة ) . . ضعفا في الكيان الإنساني كله . فالشيخوخة انحدار إلى الطفولةبكل ظواهرها . وقد يصاحبها انحدار نفسي ناشئ من ضعف الإرادة حتى ليهفو الشيخ أحيانا كما يهفو الطفل ، ولا يجد من إرادته عاصما . ومع الشيخوخة الشيب ، يذكر تجسيما وتشخيصا لهيئة الشيخوخة ومنظرها .
وإن هذه الأطوار التي لا يفلت منها أحد من أبناء الفناء ، والتي لا تتخلف مرة فيمن يمد له في العمر ، ولا تبطئ مرة فلا تجيء في موعدها المضروب . إن هذه الأطوار التي تتعاور تلك الخليقة البشرية لتشهد بأنها في قبضة مدبرة ، تخلق ما تشاء ، وتقدر ما تشاء ، وترسم لكل مخلوق أجله وأحواله وأطواره ، وفق علم وثيق وتقدير دقيق : ( يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { اللّهُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ثُمّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوّةٍ ثُمّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } .
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المكذّبين بالبعث من مشركي قريش ، محتجا عليهم بأنه القادر على ذلك وعلى ما يشاء : اللّهُ الّذِي خَلَقَكُمْ أيها الناس مِنْ ضَعْفٍ يقول : من نُطْفة وماء مَهِين ، فأنشأكم بَشَرا سويّا ثُمّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوّةً يقول : ثم جعل لكم قوّة على التصرّف ، من بعد خلقه إياكم من ضعف ، ومن بعد ضعفكم ، بالصغر والطفولة ثُمّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ ضَعْفا وَشَيْبَةً يقول : ثم أحدث لكم الضعف بالهرم والكبر عما كنتم عليه أقوياء في شبابكم وشيبة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي من نطفة ثُمّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوّةً ، ثُمّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ ضَعْفا الهرم وَشَيْبَةً الشّمَط .
وقوله : يَخْلُقُ ما يَشاءُ يقول تعالى ذكره : يخلق ما يشاء من ضعف وقوّة وشباب وشيب وَهُوَ العَلِيمُ بتدبير خلقه القَدِيرُ على ما يشاء ، لا يمتنع عليه شيء أراده ، فكما فعل هذه الأشياء ، فكذلك يميت خلقه ويحييهم إذا شاء . يقول : واعلموا أن الذي فعل هذه الأفعال بقدرته يحيي الموتى إذا شاء .
وهذه أيضاً عبر بين فيها أن الأوثان لا مدخل لها فيها .
وقرأ جمهور القراء والناس بضم الضاد في «ضُعف » ، وقرأ عاصم وحمزة بفتحها وهي قراءة ابن مسعود وأبي رجاء ، والضم أصوب ، وروي عن ابن عمر أنه قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح فردها عليه بالضم{[9335]} ، وقال كثير من اللغويين : ضم الضاد في البدن وفتحها في العقل ، وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري والضحاك أنهم ضموا الضاد في الأول والثاني وفتحوا «ضَعفاً »{[9336]} ، وقرأ عيسى بن عمر «من ضُعُف » بضمتين ، وهذه الآية إنما يراد بها حال الإنسان ، و «الضعف » الأول هو كون الإنسان من ماء مهين ، و «القوة » بعد ذلك الشبيبة ، وقوة الأسر ، و «الضعف » الثاني الهرم والشيخ هذا قول قتادة وغيره .