قوله تعالى : { ومن أعرض عن ذكري } يعني : القرآن ، فلم يؤمن به ولم يتبعه ، { فإن له معيشة ضنكاً } ، ضيقاً .
روي عن ابن مسعود ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري أنهم قالوا : هو عذاب القبر . قال أبو سعيد : يضغط حتى تختلف أضلاعه . وفي بعض المسانيد مرفوعاً يلتئم عليه القبر ، حتى تختلف أضلاعه ، فلا يزال يعذب حتى يبعث .
وقال الحسن : هو الزقوم والضريع والغسلين في النار . وقال عكرمة : هو الحرام . وقال الضحاك : هو الكسب الخبيث . وعن ابن عباس قال : الشقاء . وروى عنه أنه قال : كل مال أعطى العبد قل أم كثر فلم يتق فيه فلا خير فيه ، وهو : الضنك في المعيشة ، وإن أقواماً أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين ، فكانت معيشتهم ضنكاً ، وذلك أنهم يرون أن الله ليس بمخلف عليهم فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم بالله . قال سعيد بن جبير : يسلبه القناعة حتى لا يشبع . { ونحشره يوم القيامة أعمى } قال ابن عباس : أعمى البصر . وقال مجاهد أعمى عن الحجة .
( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا )والحياة المقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة ، ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع . إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه . ضنك الحيرة والقلق والشك . ضنك الحرص والحذر : الحرص على ما في اليد والحذر من الفوت . ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت . وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الله . وما يحس راحة الثقة إلا وهو مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها . . إن طمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا وسعة ، والحرمان منه شقوة لا تعدلها شقوة الفقر والحرمان .
( ومن أعرض عن ذكري )وانقطع عن الاتصال بي ( فإن له معيشة ضنكا ) . .
( ونحشره يوم القيامة أعمى ) . . وذلك ضلال من نوع ضلاله في الدنيا . وذلك جزاء على إعراضه عن الذكر في الأولى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ * قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِيَ أَعْمَىَ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىَ } .
يقول تعالى ذكره : وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْري الذي أذكره به فتولى عنه ولم يقبله ولم يستجب له ، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمر ربه فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا يقول : فإن له معيشة ضيقة . والضنك من المنازل والأماكن والمعايش : الشديد يقال : هذا منزل ضنك : إذا كان ضيقا ، وعيش ضنك : الذكر والأنثى والواحد والاثنان والجمع بلفظ واحد ومنه قول عنترة :
*** وإنْ نَزَلُوا بضَنْكٍ أنْزلِ ***
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا " يقول : الشقاء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ضَنْكا قال : ضيقة .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : " فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا " قال : الضنك : الضيق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله : " فإنّ لَهُ مَعَيشَةً ضَنْكا " يقول : ضيقة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
واختلف أهل التأويل في الموضع الذي جعل الله لهؤلاء المعرضين عن ذكره العيشة الضنك ، والحال التي جعلهم فيها ، فقال بعضهم : جعل ذلك لهم في الاَخرة في جهنم ، وذلك أنهم جعل طعامهم فيها الضريع والزقوم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو بن عليّ بن مقدم ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عوفُ ، عن الحسن ، في قوله : " فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا " قال : في جهنم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا " فقرأ حتى بلغ : " ولَمْ يُؤْمِنْ بآياتِ رَبّهِ " قال : هؤلاء أهل الكفر . قال : ومعيشة ضنكا في النار شوك من نار وزقوم وغسلين ، والضريع : شوك من نار ، وليس في القبر ولا في الدنيا معيشة ، ما المعيشة والحياة إلا في الاَخرة ، وقرأ قول الله عزّ وجلّ : " يا لَيْتَنِي قَدّمْتُ لِحَياتِي " قال : لمعيشتي قال : والغسلين والزقوم : شيء لا يعرفه أهل الدنيا .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة " فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا " قال : في النار .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : فإن له معيشة في الدنيا حراما . قال : ووصف الله جلّ وعزّ معيشتهم بالضنك ، لأن الحرام وإن اتسع فهو ضنك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرِمة في قوله : " مَعِيشَةً ضَنْكا " قال : هي المعيشة التي أوسع الله عليه من الحرام .
حدثني داود بن سليمان بن يزيد المكتب من أهل البصرة ، قال : حدثنا عمرو بن جرير البجلي ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم في قول الله : مَعِيشَةً ضَنْكا قال : رزقا في معصيته .
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، قال : حدثنا أبو بسطام ، عن الضحاك " فإنّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكا " قال : الكسب الخبيث .
حدثني محمد بن إسماعيل الصراري ، قال : حدثنا محمد بن سوار ، قال : حدثنا أبو اليقظان عمار بن محمد ، عن هارون بن محمد التيمي ، عن الضحاك ، في قوله : " فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا " قال : العمل الخبيث ، والرزق السيىء .
وقال آخرون ممن قال عنى أن لهؤلاء القوم المعيشة الضنك في الدنيا ، إنما قيل لها ضنك وإن كانت واسعة ، لأنهم ينفقون ما ينفقون من أموالهم على تكذيب منهم بالخلف من الله ، وإياس من فضل الله ، وسوء ظنّ منهم بربهم ، فتشتدّ لذلك عليهم معيشتهم وتضيق ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا " يقول : كلّ مال أعطيته عبدا من عبادي قلّ أو كثر ، لا يتقيني فيه ، لا خير فيه ، وهو الضنك في المعيشة . ويقال : إن قوما ضُلاّلاً أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين ، فكانت معيشتهم ضنكا ، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله عزّ وجلّ ليس بمخلف لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله ، والتكذيب به ، فإذا كان العبد يكذّب بالله ، ويسيء الظنّ به ، اشتدّت عليه معيشته ، فذلك الضنك .
وقال آخرون : بل عني بذلك : أن ذلك لهم في البرزخ ، وهو عذاب القبر . ذكر من قال ذلك :
حدثني يزيد بن مخلد الواسطي ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي حازم عن النعمان بن أبي عياش ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال في قول الله : " مَعِيشَةً ضَنْكا " قال : عذاب القبر .
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا بِشر بن المفضل ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي حازم ، عن النعمان بن أبي عياش ، عن أبي سعيد الخُدريّ ، قال : إن المعيشة الضنك ، التي قال الله : عذاب القبر .
حدثني حوثرة بن محمد المنقري ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حازم ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد الخُدريّ " فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا " قال : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث ، قال : حدثنا خالد بن زيد ، عن ابن أبي هلال ، عن أبي حازم ، عن أبي سعيد ، أنه كان يقول : المعيشة الضنك : عذاب القبر ، إنه يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنّينا تنهشه وتخدش لحمه حتى يُبعث . وكان يقال : لو أن تنّينا منها نفخ الأرض لم تنبت زرعا .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : يطبق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، وهي المعيشة الضنك التي قال الله : " مَعِيشَةً ضَنْكا ونحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمَى " .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح والسديّ في قوله : مَعِيشَةً ضَنْكا قال : عذاب القبر .
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله : فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا قال : عذاب القبر .
حدثني عبد الرحمن بن الأسود ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، قال : حدثنا أبو عُمَيس ، عن عبد الله بن مخارق عن أبيه ، عن عبد الله ، في قوله : مَعِيشَةً ضَنْكا قال : عذاب القبر .
حدثني عبد الرحيم البرقيّ ، قال : حدثنا ابن أبي مَريم ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وابن أبي حازم ، قالا : حدثنا أبو حازم ، عن النعمان بن أبي عياش ، عن أبي سعيد الخدريّ مَعِيشَةً ضَنْكا قال : عذاب القبر .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : هو عذاب القبر الذي :
حدثنا به أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : حدثنا عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن درّاج ، عن ابن حُجَيرة عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «أتَدْرُونَ فِيمَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ : فإنّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكا وَنحْشُرُهُ يَوْمَ القيامَةِ أعْمَى ، أتَدْرُونَ ما المَعِيشَةً الضّنْكُ ؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : «عَذَابُ الكافرِ في قَبْرِهِ ، والّذِي نَفْسي بيَدِهِ ، إنّه لَيُسَلّطُ عَلَيْهِ تَسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنّينا ، أتَدْرُونَ ما التّنِينُ : تسْعَةٌ وَتسْعُونَ حَيّة ، لكلّ حَيّة سَبْعَةُ رُؤُوسٍ ، يَنْفُخُونَ في جِسْمِهِ وَيَلْسَعُونَهُ ويَخْدِشُونَهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ » . وإن الله تبارك وتعالى أتبع ذلك بقوله : " وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أشَدّ وأبْقَى " فكان معلوما بذلك أن المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم قبل عذاب الاَخرة ، لأن ذلك لو كان في الاَخرة لم يكن لقوله " وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أشَدّ وأبْقَى " معنى مفهوم ، لأن ذلك إن لم يكن تقدّمه عذاب لهم قبل الاَخرة ، حتى يكون الذي في الاَخرة أشدّ منه ، بطل معنى قوله وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أشَدّ وأبْقَى . فإذ كان ذلك كذلك ، فلا تخلو تلك المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم من أن تكون لهم في حياتهم الدنيا ، أو في قبورهم قبل البعث ، إذ كان لأوجه لأن تكون في الاَخرة لما قد بيّنا ، فإن كانت لهم في حياتهم الدنيا ، فقد يجب أن يكون كلّ من أعرض عن ذكر الله من الكفار ، فإن معيشته فيها ضنك ، وفي وجودنا كثيرا منهم أوسع معيشة من كثير من المقبلين على ذكر الله تبارك وتعالى ، القائلين له المؤمنين في ذلك ، ما يدلّ على أن ذلك ليس كذلك ، وإذ خلا القول في ذلك من هذين الوجهين صحّ الوجه الثالث ، وهو أن ذلك في البرزخ .
وقوله : " ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمَى " اختلف أهل التأويل في صفة العمى الذي ذكر الله في هذه الاَية ، أنه يبعث هؤلاء الكفار يوم القيامة به ، فقال بعضهم : ذلك عمى عن الحجة ، لا عمى عن البصر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله : " ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمَى " قال : ليس له حجة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمَى " قال : عن الحجة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله ، وقيل : يحشر أعمى البصر .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قال الله تعالى ذكره ، وهو أنه يحشر أعمى عن الحجة ورؤية الشيء كما أخبر جلّ ثناؤه ، فعمّ ولم يخصص .
{ ومن أعرض عن ذكري } عن الهدى الذاكر لي والداعي إلى عبادتي { فإن له معيشة ضنكا } ضيقا مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وقرىء " ضنكى " كسكرى ، وذلك لأن مجامع همته ومطامح نظره تكون إلى أعراض الدنيا متهالكا على ازديادها خائفا على انقصاها ، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة مع أنه تعالى قد يضيق بشؤم الكفر ويوسع ببركة الإيمان كما قال { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقو } الآيات ، وقيل هو الضريع والزقوم في النار ، وقيل عذاب القبر { ونحشره } قرىء بسكون الهاء على لفظ الوقف وبالجزم عطفا على محل { فإن له معيشة ضنكا } لأنه جواب الشرط . يوم القيامة أعمى البصر أو القلب ويؤيد الأول .
ويدل لهذا مقابلة ضده في قوله { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى } ، إذ رتب على الإعراض عن هدي الله اختلال حَاله في الدنيا والآخرة ، فالمعيشة مراد بها مدة المعيشة ، أي مدّة الحياة .
والضنك : مصدر ضَنُك ، من باب كَرُم ضناكة وضنكاً ، ولكونه مصدراً لم يتغيّر لفظه باختلاف موصوفه ، فوصف به هنا { معيشة وهي مؤنث . والضنك : الضيق ، يقال : مكان ضنك ، أي ضيق . ويستعمل مجازاً في عسر الأمور في الحياة ، قال عنترة :
إن يلحقوا أكرُر وإن يستلحموا *** أشدد وإن نَزلوا بضَنْك أنْزِلِ
أي بمنزل ضنك ، أي فيه عسر على نازله . وهو هنا بمعنى عسر الحال من اضطراب البال وتبلبله . والمعنى : أن مجامع همه ومطامح نظره تكون إلى التحيل في إيجاد الأسباب والوسائل لمطالبه ، فهو متهالك على الازدياد خائف على الانتقاص غير ملتفت إلى الكمالات ولا مأنوس بما يسعى إليه من الفضائل ، يجعله الله في تلك الحالة وهو لا يشعر ، وبعضهم يبدو للناس في حالة حسنة ورفاهية عيش ولكن نفسَه غير مطمئنة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن أعرض عن ذكري} يعني: عن الإيمان بالقرآن...
{فإن له معيشة ضنكا} يعني: معيشة سوء لأنها في معاصي الله عز وجل. والضنك:الضيق.
{ونحشره يوم القيامة أعمى} عن حجته.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْري" الذي أذكره به فتولى عنه ولم يقبله ولم يستجب له، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمر ربه، "فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا "يقول: فإن له معيشة ضيقة، والضنك من المنازل والأماكن والمعايش: الشديد، يقال: هذا منزل ضنك: إذا كان ضيقا... عن ابن عباس، قوله: "فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا" يقول: الشقاء...
واختلف أهل التأويل في الموضع الذي جعل الله لهؤلاء المعرضين عن ذكره العيشة الضنك، والحال التي جعلهم فيها؛
فقال بعضهم: جعل ذلك لهم في الآخرة في جهنم، وذلك أنهم جعل طعامهم فيها الضريع والزقوم...
وقال آخرون: بل عنى بذلك: فإن له معيشة في الدنيا حراما. قال: ووصف الله جلّ وعزّ معيشتهم بالضنك، لأن الحرام وإن اتسع فهو ضنك... عن الضحاك "فإنّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكا" قال: الكسب الخبيث...
عن الضحاك، في قوله: "فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا" قال: العمل الخبيث، والرزق السيئ.
وقال آخرون ممن قال عنى أن لهؤلاء القوم المعيشة الضنك في الدنيا، إنما قيل لها ضنك وإن كانت واسعة، لأنهم ينفقون ما ينفقون من أموالهم على تكذيب منهم بالخلف من الله، وإياس من فضل الله، وسوء ظنّ منهم بربهم، فتشتدّ لذلك عليهم معيشتهم وتضيق... عن ابن عباس، قوله: "وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا" يقول: كلّ مال أعطيته عبدا من عبادي قلّ أو كثر، لا يتقيني فيه، لا خير فيه، وهو الضنك في المعيشة. ويقال: إن قوما ضُلاّلاً أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين، فكانت معيشتهم ضنكا، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله عزّ وجلّ ليس بمخلف لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله، والتكذيب به، فإذا كان العبد يكذّب بالله، ويسيء الظنّ به، اشتدّت عليه معيشته، فذلك الضنك.
وقال آخرون: بل عني بذلك: أن ذلك لهم في البرزخ، وهو عذاب القبر...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هو عذاب القبر الذي:
حدثنا به أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن درّاج، عن ابن حُجَيرة عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتَدْرُونَ فِيمَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: "فإنّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكا وَنحْشُرُهُ يَوْمَ القيامَةِ أعْمَى"، أتَدْرُونَ ما المَعِيشَةً الضّنْكُ؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «عَذَابُ الكافرِ في قَبْرِهِ، والّذِي نَفْسي بيَدِهِ، إنّه لَيُسَلّطُ عَلَيْهِ تَسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنّينا، أتَدْرُونَ ما التّنِينُ: تسْعَةٌ وَتسْعُونَ حَيّة، لكلّ حَيّة سَبْعَةُ رُؤُوسٍ، يَنْفُخُونَ في جِسْمِهِ وَيَلْسَعُونَهُ ويَخْدِشُونَهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ». وإن الله تبارك وتعالى أتبع ذلك بقوله: "وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أشَدّ وأبْقَى" فكان معلوما بذلك أن المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم قبل عذاب الآخرة، لأن ذلك لو كان في الآخرة لم يكن لقوله "وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أشَدّ وأبْقَى" معنى مفهوما، لأن ذلك إن لم يكن تقدّمه عذاب لهم قبل الآخرة، حتى يكون الذي في الآخرة أشدّ منه، بطل معنى قوله "وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أشَدّ وأبْقَى". فإذ كان ذلك كذلك، فلا تخلو تلك المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم من أن تكون لهم في حياتهم الدنيا، أو في قبورهم قبل البعث، إذ كان لا وجه لأن تكون في الآخرة لما قد بيّنا، فإن كانت لهم في حياتهم الدنيا، فقد يجب أن يكون كلّ من أعرض عن ذكر الله من الكفار، فإن معيشته فيها ضنك، وفي وجودنا كثيرا منهم أوسع معيشة من كثير من المقبلين على ذكر الله تبارك وتعالى، القائلين له المؤمنين في ذلك، ما يدلّ على أن ذلك ليس كذلك، وإذ خلا القول في ذلك من هذين الوجهين صحّ الوجه الثالث، وهو أن ذلك في البرزخ.
وقوله: "ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمَى" اختلف أهل التأويل في صفة العمى الذي ذكر الله في هذه الآية، أنه يبعث هؤلاء الكفار يوم القيامة به؛
فقال بعضهم: ذلك عمى عن الحجة، لا عمى عن البصر...
وَقِيلَ: يُحْشَرُ أَعْمَى الْبَصَر... وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ يُحْشَرُ أَعْمَى عَنِ الْحُجَّةِ وَرُؤْيَةِ الشَّيْءِ كَمَا أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، فَعَمَّ وَلَمْ يُخَصِّصْ.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الكافر إذا أعرض عن ذكره بالكلية فله المعيشة الضنك في الدنيا، وفي القبر، وفي النار، وبالقلب من حيث وحشة الكفر، وبالوقتِ من حيث انغلاق الأمور...ومَنْ أعرض عن الاستئناس بذكره انفتحت عليه وساوسُ الشيطان وهواجسُ النَّفس بما يوجِب له وحشةَ الضمير، وانسداد أبواب الراحة والبسط...
في الخبر:"مَنْ كان بحالةٍ لَقِيَ اللَّهِ بها" فَمَنْ كان في الدنيا أعمى القلب يُحْشَرُ على حالته، ومَنْ يَعِشْ على جهلٍ يحشر على جهلٍ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الضنك: مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث. وقرىء: «ضنكى» على فعلى. ومعنى ذلك: أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله وعلى قسمته؛ فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح، وسهولة، فيعيش عيشاً رافعاً؛ كما قال عز وجل: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً} [النحل: 97] والمعرض عن الدين، مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضنك وحاله مظلمة، كما قال بعض المتصوّفة: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوّش عليه رزقه.
{ومن أعرض عن ذكري} والذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى...
{فإن له معيشة ضنكا} فالضنك أصله الضيق والشدة وهو مصدر ثم يوصف به فيقال: منزل ضنك، وعيش ضنك، فكأنه قال: معيشة ذات ضنك، واعلم أن هذا الضيق المتوعد به إما أن يكون في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين أو في كل ذلك أو أكثره...
{ونحشره يوم القيامة أعمى}...المراد من حشره أعمى أنه لا يهتدي يوم القيامة إلى طريق ينال منه خيرا بل يبقى واقفا متحيرا كالأعمى الذي لا يهتدي إلى شيء،
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" ومن أعرض عن ذكري "أي ديني، وتلاوة كتابي، والعمل بما فيه...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه وماله من الرغد وطيب الحياة في معاشه ومعاده اخبر عن حال من أعرض عن الهدى ولم يتبعه، فقال: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} أي: عن الذكر الذي أنزلته...والمعنى: ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكرا، قال تعالى: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} [الأنبياء: 50]...
{فإن له معيشة ضنكا} [طه: 124] فسره غير واحد من السلف بعذاب القبر، وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر، ولهذا قال: {ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 124. 126] أي تترك في العذاب، كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار...
وفي «الصحيح» عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [إبراهيم: 27] قال: «نزلت في عذاب القبر» والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر...
اختلف فيه: هل هو من عمي البصيرة، أو من عمي البصر؟ والذين قالوا: هو من عمي البصيرة إنما حملهم على ذلك قوله {اسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا} [مريم: 38] وقوله: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق: 22]...
والذين رجحوا أنه من عمى البصر قالوا: السياق لا يدل إلا عليه. لقوله تعالى: {قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا} [طه: 125] وهو لم يكن بصيرا في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ انه كان في الدنيا في عمى عن الحق، فكيف يقول: وقد كنت بصيرا؟ وكيف يجاب بقوله: {كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 126] بل هذا الجواب فيه تنبيه على انه من عمي البصر، وانه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وعميت عنه بصيرته: أعمى الله بصره يوم القيامة. وتركه في العذاب، كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمي بصيرته عمي بصره في الآخرة. وعلى تركه ذكره تركه في العذاب...
والذين قالوا: المراد به العمى عن الحجة إنما مرادهم: أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا أن لهم حجة هم عُمي عنها، بل هم عمي عن الهدى، كما كانوا في الدنيا. فإن العبد يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه.
وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمي البصر. فإن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا، ويقر بما كان يجحده في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وبعض المفسرين، يرى أن المعيشة الضنك، عامة في دار الدنيا، بما يصيب المعرض عن ذكر ربه، من الهموم والغموم والآلام، التي هي عذاب معجل، وفي دار البرزخ، وفي الدار الآخرة، لإطلاق المعيشة الضنك، وعدم تقييدها. {وَنَحْشُرُهُ} أي: هذا المعرض عن ذكر ربه {يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} البصر على الصحيح، كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والحياة المقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة، ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع. إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه. ضنك الحيرة والقلق والشك. ضنك الحرص والحذر: الحرص على ما في اليد والحذر من الفوت. ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت. وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الله. وما يحس راحة الثقة إلا وهو مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.. إن طمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا وسعة، والحرمان منه شقوة لا تعدلها شقوة الفقر والحرمان...
(ومن أعرض عن ذكري) وانقطع عن الاتصال بي (فإن له معيشة ضنكا).. (ونحشره يوم القيامة أعمى).. وذلك ضلال من نوع ضلاله في الدنيا. وذلك جزاء على إعراضه عن الذكر في الأولى.
{معيشة ضنكا.. (124)} (طه): الضنك هو الضيق الشديد الذي تحاول أن تفلت منه هنا أو هناك فلا تستطيع، والمعيشة الضنك هذه تأتي من أعرض عن الله، لأن من آمن بإله إن عزت عليه الأسباب لا تضيق به الحياة أبدا؛ لأنه يعلم أن له ربا يخرجه مما هو فيه. أما غير المؤمن فحينما تضيق به الأسباب وتعجزه لا يجد من يلجأ إليه فينتحر. المؤمن يقول: لي رب يرزقني ويفرج كربي، كما يقول عز وجل: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28)} (الرعد).
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} الذي أنزلته عليه، فلم يحاول أن يتفهمه ويعيه ويلتزمه كخط للحياة، ولم يحسب حساب الله في كل صغيرة وكبيرة من عمله...
{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} أي ضيقة، لأنه لا يحصل على شيء منها إلا وتطلعت نفسه إلى شيء آخر، فيشعر بالقلق والحسرة إذا لم يحصل عليه، فإذا تحقق له ذلك انتقل إلى شيء آخر، فهو محاصر بحاجاته وتمنياته في ما يخلد فيه إلى الأرض، فلا يتجاوزها إلى الآفاق الرحبة التي ينطلق فيها إلى الله سبحانه... {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى} لا يهتدي الطريق إلى الجنة، لأن الطريق مسدود أمامه، بما وضعه من حواجز أمام نفسه في طريق الوصول إليها من خلال أعماله..