قوله تعالى :{ إن الذين يبايعونك } يا محمد بالحديبية على أن لا يفروا ، { إنما يبايعون الله } لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا حاتم بن إسماعيل ، عن يزيد بن أبي عبيد قال : قلت لسلمة بن الأكوع : " على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ؟ قال : على الموت " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، عن مسلم بن الحجاج ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن خالد ، عن الحكم بن عبد الله بن الأعرج ، عن معقل ابن يسار ، قال : " لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس ، وأنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه ، ونحن أربعة عشرة مائة ، قال : لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر " . قال أبو عيسى : معنى الحديثين صحيح بايعه جماعة على الموت ، أي لا نزال نقاتل بين يديك ما لم نقتل ، وبايعه آخرون ، وقالوا : لا نفر . { يد الله فوق أيديهم } قال ابن عباس رضي الله عنهما : يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم . وقال السدي : كانوا يأخذون بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبايعونه ، ويد الله فوق أيديهم في المبايعة . قال الكلبي : نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة . { فمن نكث } نقض البيعة ، { فإنما ينكث على نفسه } عليه وباله ، { ومن أوفى بما عاهد عليه الله } ثبت على البيعة ، { فسيؤتيه } قرأ أهل العراق فسيؤتيه بالياء ، وقرأ الآخرون بالنون ، { أجراً عظيماً } وهو الجنة .
وقد جاء [ صلى الله عليه وسلم ] ليصلهم بالله ، ويعقد بينهم وبينه بيعة ماضية لا تنقطع بغيبة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عنهم . فهو حين يضع يده في أيديهم مبايعا ، فإنما يبايع عن الله : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله . يد الله فوق أيديهم ) . . وهو تصوير رهيب جليل للبيعة بينهم وبين رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والواحد منهم يشعر وهو يضع يده في يده ، أن يد الله فوق أيديهم . فالله حاضر البيعة . والله صاحبها . والله آخذها . ويده فوق أيدي المتبايعين . . ومن ? الله ! يا للهول ! ويا للروعة ! ويا للجلال !
وإن هذه الصورة لتستأصل من النفس خاطر النكث بهذه البيعة - مهما غاب شخص رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فالله حاضر لا يغيب . والله آخذ في هذه البيعة ومعط ، وهو عليها رقيب .
( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) . .
فهو الخاسر في كل جانب . هو الخاسر في الرجاع عن الصفقة الرابحة بينه وبين الله تعالى . وما من بيعة بين الله وعبد من عباده إلا والعبد فيها هو الرابح من فضل الله ، والله هو الغني عن العالمين . وهو الخاسر حين ينكث وينقض عهده مع الله فيتعرض لغضبه وعقابه على النكث الذي يكرهه ويمقته ، فالله يحب الوفاء ويحب الأوفياء .
( ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) . .
هكذا على إطلاقه : أجرا عظيما . . لا يفصله ولا يحدده . فهو الأجر الذي يقول عنه الله إنه عظيم .
عظيم بحساب الله وميزانه ووصفه الذي لا يرتقي إلى تصوره أبناء الأرض المقلون المحدودون الفانون !
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نّكَثَ فَإِنّمَا يَنكُثُ عَلَىَ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىَ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إنّ الّذِينَ يُبايِعُونَكَ بالحديبية من أصحابك على أن لا يفرّوا عند لقاء العدوّ ، ولا يولّوهم الأدبار إنّمَا يُبايِعُونَ اللّهَ يقول : إنما يبايعون ببيعتهم إياك الله ، لأن الله ضمن لهم الجنة بوفائهم له بذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : إنّ الّذِينَ يُبايِعُونَكَ قال : يوم الحديبية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ الّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنّمَا يُبايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فإنّمَا يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وهم الذين بايعوا يوم الحديبية .
وفي قوله : يَدُ اللّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ وجهان من التأويل : أحدهما : يد الله فوق أيديهم عند البيعة ، لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه صلى الله عليه وسلم والاَخر : قوّة الله فوق قوّتهم في نُصرة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم إنما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نُصرته على العدوّ .
وقوله : فَمَنْ نَكَثَ فإنّمَا يَنْكُثُ على نَفْسِهِ يقول تعالى ذكره : فمن نكث بيعته إياك يا محمد ، ونقضها فلم ينصرك على أعدائك ، وخالف ما وعد ربه فإنّمَا يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ يقول : فإنما ينقض بيعته ، لأنه بفعله ذلك يخرج ممن وعده الله الجنة بوفائه بالبيعة ، فلم يضرّ بنكثه غير نفسه ، ولم ينكث إلا عليها ، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تبارك وتعالى ناصره على أعدائه ، نكث الناكث منهم ، أو وفى ببيعته .
وقوله : وَمَنْ أوْفَى بِمَا عاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ . . . الآية ، يقول تعالى ذكره : ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدوّ في سبيل الله ونُصرة نبيه صلى الله عليه وسلم على أعدائه فَسَيُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما يقول : فسيعطيه الله ثوابا عظيما ، وذلك أن يُدخله الجنة جزاءً له على وفائه بما عاهد عليه الله ، ووثق لرسوله على الصبر معه عند البأس بالمؤكدة من الأيمان . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَسَيؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما وهي الجنة .
{ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } لأنه المقصود ببيعته . { يد الله فوق أيديهم } حال أو استئناف مؤكد له على سبيل التخييل . { فمن نكث } نقض العهد . { فإنما ينكث على نفسه } فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه . { ومن أوفى بما عاهد عليه الله } في مبايعته { فسيؤتيه أجرا عظيما } هو الجنة ، وقرئ " عهد " وقرأ حفص { عليه } بضم الهاء وابن كثير ونافع وابن عامر وروح " فسنؤتيه " بالنون . والآية نزلت في بيعة الرضوان .