المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

9- والأنصار الذين نزلوا المدينة وأقاموا بها ، وأخلصوا الإيمان من قبل نزول المهاجرين بها ، يحبُّون مَن هاجر إليهم من المسلمين ، ولا يحسون في نفوسهم شيئاً مما أوتى المهاجرون من الفيء ، ويقدمون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم حاجة ، ومن يُحْفَظ - بتوفيق الله - من بخل نفسه الشديد فأولئك هم الفائزون بكل ما يحبون .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

قوله تعالى : { والذين تبوؤوا الدار والإيمان } وهم الأنصار تبوؤا الدار توطنوا الدار ، أي : المدينة ، اتخذوها دار الهجرة والإيمان ، { من قبلهم } أي أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين . ونظم الآية : والذين تبوؤا الدار من قبلهم أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم ، وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان تبوء . { يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة } حزازة وغيظاً وحسداً ، { مما أوتوا } أي مما أعطى المهاجرين دونهم من الفيء ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ، ولم يعط الأنصار فطابت أنفس الأنصار بذلك ، { ويؤثرون على أنفسهم } أي يؤثرون على إخوانهم من المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم ، { ولو كان بهم خصاصة } فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون ، وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا عبد الله بن داود عن فضل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة " أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستضافه فبعث إلى نسائه هل عندكن من شيء ؟ فقلن ما معناه : إلا الماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يضم أو يضيف هذا ؟ فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله ، فانطلق به إلى امرأته فقال : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : ما عندنا إلا قوت الصبيان ، فقال : هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونومي صبيانك ، إذا أرادوا عشاءً ، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ، ونومت صبيانها ، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته ، فجعلا يريانه أنهما يأكلان ، فباتا طاويين ، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما ، فأنزل الله عز وجل : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحكم بن نافع ، أنبأنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل ، قال : لا ، فقالوا : تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة ، قالوا : سمعنا وأطعنا .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان عن يحيى بن سعد سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال : " دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين ، فقالوا : لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، قال : أما لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ، فإنه سيصيبكم أثرة بعدي " . وروي عن ابن عباس قال : " قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم النضير للأنصار : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة ، فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها ، فأنزل الله عز وجل :{ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } " . والشح في كلام العرب : البخل ومنع الفضل . وفرق العلماء بين الشح والبخل . روي أن رجلاً قال لعبد الله بن مسعود : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، فقال : وما ذاك ؟ قال : أسمع الله يقول : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } وأنا رجل شحيح ، لا يكاد يخرج من يدي شيء ، فقال عبد الله : ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله عز وجل في القرآن ، ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً ولكن ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل . وقال ابن عمر : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ، إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له . وقال سعيد بن جبير : الشح هو أخذ الحرام ومنع الزكاة . وقيل : الشح هو الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم . قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ، ولم يدعه الشح إلى أن يمنع شيئاً من شيء أمره الله به فقد وقاه شح نفسه .

أخبرنا الإمام محمد بن أبي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو سعيد خلف ابن عبد الرحمن بن أبي نزار ، حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن حزاز الفهندري ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق السعدي ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا القعنبي ، حدثنا داود بن قيس الفراء عن عبيد الله بن القاسم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أنبأنا أبي وشعيب قالا : أنبأنا الليث عن يزيد بن الهادي عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن يزيد عن القعقاع هو ابن اللجلاج عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

6

والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ، يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . .

وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار . هذه المجموعة التي تفردت بصفات ، وبلغت إلى آفاق ، لولا أنها وقعت بالفعل ، لحسبها الناس أحلاما طائرة ورؤى مجنحة ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق . .

والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم . . أي دار الهجرة . يثرب مدينة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين . كما تبوأوا فيها الإيمان . وكأنه منزل لهم ودار . وهو تعبير ذو ظلال . وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان . لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم ، وتسكن إليه أرواحهم ، ويثوبون إليه ويطمئنون له ، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار .

( يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) . . ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين . بهذا الحب الكريم . وبهذا البذل السخي . وبهذه المشاركة الرضية . وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء . حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة . لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين ! ( ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) . . مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع ، ومن مال يختصون به كهذا الفيء ، فلا يجدون في أنفسهم شيئا من هذا . ولا يقول : حسدا ولا ضيقا . إنما يقول : ( شيئا ) . مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم ، فلا تجد شيئا أصلا .

( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) . . والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا . وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيرا . وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديما وحديثا .

( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) . . فهذا الشح . شح النفس . هو المعوق عن كل خير . لأن الخير بذل في صورة من الصور . بذل في المال . وبذل في العاطفة . وبذل في الجهد . وبذل في الحياة عند الاقتضاء . وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائما أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي . ومن يوق شح نفسه ، فقد وقي هذا المعوق عن الخير ، فانطلق إليه معطيا باذلا كريما . وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .

يقول تعالى ذكره : { وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ والإيمَانَ }يقول : اتخذوا المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فابتنوها منازل ، وَالإيمَانَ بالله ورسوله { مِنْ قَبْلِهِمْ }يعني : من قبل المهاجرين ، { يُحِبّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ } : يحبون من ترك منزله ، وانتقل إليهم من غيرهم ، وعُنِي بذلك الأنصار يحبون المهاجرين . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ }قال : الأنصار نعت . قال محمد بن عمرو : سفاطة أنفسهم . وقال الحارث : سخاوة أنفسهم عند ما روى عنهم من ذلك ، وإيثارهم إياهم ولم يصب الأنصار من ذلك الفيء شيء .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مِنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا } يقول : مما أعطوا إخوانهم هذا الحيّ من الأنصار ، أسلموا في ديارهم ، فابتنوا المساجد والمسجد ، قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأحسن الله عليهم الثناء في ذلك وهاتان الطائفتان الأوّلتان من هذه الآية ، أخذتا بفضلهما ، ومضتا على مَهَلهما ، وأثبت الله حظهما في الفيء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله الله عزّ وجلّ : وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ قال : هؤلاء الأنصار يحبون من هاجر إليهم من المهاجرين .

وقوله : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا } يقول جلّ ثناؤه : ولا يجد الذين تبوّءوا الدار من قبلهم ، وهم الأنصار في صدورهم حاجة ، يعني حسدا مما أوتوا ، يعني مما أوتي المهاجرين من الفيء ، وذلك لما ذُكر لنا من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين الأوّلين دون الأنصار ، إلا رجلين من الأنصار ، أعطاهما لفقرهما ، وإنما فعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، أنه حدّث أنّ بني النضير خَلّوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأوّلين دون الأنصار ، إلا أن سهل بن حُنَيف وأبا دُجانة سِماك بن خَرَشة ذكرا فقرا ، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُتُوا }المهاجرون . قال ، وتكلم في ذلك يعني أموالَ بني النضير بعضُ من تكلّم من الأنصار ، فعاتبهم الله عزّ وجلّ في ذلك فقال : { وَما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلَكِنّ اللّهَ يُسَلّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم : «إنّ إخْوَانَكُمْ قَدْ تَرَكُوا الأمْوَالَ والأولاد وَخَرَجُوا إلَيْكُمْ » فقالوا : أموالنا بينهم قطائع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أوَ غَيْرَ ذَلِكَ ؟ » قالوا : وما ذلك يا رسول الله ؟ قال : «هُمْ قَوْمٌ لا يَعْرِفُونَ العَمَلَ فَتَكْفُونهُمْ وَتُقاسِمُونَهُمْ الثّمَرَ » ، فقالوا : نعم يا رسول الله .

وبنحو الذي قلنا في قوله وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا سليمان أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أوتُوا }قال : الحسد .

قال : ثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن حاجَةً فِي صُدُورِهِمْ قال : حسدا في صدورهم .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أبو رجاء عن الحسن ، مثله .

وقوله : { وَيُوءْثِرُونَ على أنْفُسِهِمْ }يقول تعالى ذكر : وهو يصف الأنصار الذين تبوّءُوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين ، { وَيُوءْثِرُونَ على أنْفُسِهمْ }يقول : ويعطون المهاجرين أموالهم إيثارا لهم بها على أنفسهم ، { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }يقول : ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم . والخَصاصة مصدر ، وهي أيضا اسم ، وهو كلّ ما تخلّلته ببصرك كالكوّة والفرجة في الحائط ، تجمع خَصاصات وخِصاص ، كمال قال الراجز :

*** قَدْ عَلِمَ المَقاتِلاتُ هَجّا ***

*** والنّاظراتُ مِنْ خَصَاصٍ لَمْجا ***

*** لأَوْرِيَنْها دُلَجا أوْ مُنْجَا ***

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أبيه ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليضيفه ، فلم يكن عنده ما يضيفه ، فقال : «ألا رجلٌ يضيفُ هذا رَحِمَهُ اللّهُ ؟ » فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة ، فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : أكرمي ضيفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نوّمي الصبية ، وأطفئي المصباح وأريه بأنك تأكلين معه واتركيه لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت فنزلت : { وَيُوءْثِرُونَ على أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن فضيل ، عن غزوان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، أن رجلاً من الأنصار بات به ضيف ، فلم يكن عند إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : نَوّمي الصّبْية وأطفئي المصباح ، وقرّبي للضيف ما عندك ، قال : فنزلت هذه الآية وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ .

يقول تعالى ذكره : من وقاه الله شحّ نفسه فأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ المخلّدُونَ في الجنة . والشحّ في كلام العرب : البخل ، ومنع الفضل من المال ومنه قول عمرو بن كلثوم :

تَرَى اللّحِزَ الشّحيحَ إذَا أُمِرّتْ *** عَلَيْهِ لِمَالِهِ فِيها مُهينا

يعني بالشحيح : البخيل ، يقال : إنه لشحيح بين الشحّ والشحّ ، وفيه شحة شديدة وشحاحة . وأما العلماء فإنهم يرون أن الشحّ في هذا الموضع إنما هو أكل أموال الناس بغير حقّ .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا المسعودي ، عن أشعث ، عن أبي الشعثاء ، عن أبيه ، قال : أتى رجل ابن مسعود فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، قال : وما ذاك ؟ قال : أسمع الله يقول : وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء ، قال : ليس ذاك بالشحّ الذي ذكر الله في القرآن ، إنما الشحّ أن تأكل مال أخيك ظلما ، ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل .

حدثني يحيى بن إبراهيم ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن جامع ، عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود ، فقال يا أبا عبد الرحمن ، إني أخشى أن تكون أصابتني هذه الآية : { وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ }والله ما أعطي شيئا أستطيع منعه ، قال : ليس ذلك بالشحّ ، إنما الشحّ أن تأكل مال أخيك بغير حقه ، ولكن ذلك البخل .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جُبَير ، عن أبي الهياج الأسدي ، قال : كنت أطوف بالبيت ، فرأيت رجلاً يقول : اللهمّ قني شحّ نفسي ، لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال : إني إذا وقيت شحّ نفسي لم أسرق ، ولم أزن ، ولم أفعل شيئا ، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف .

حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، قال : حدثنا مجمع بن جارية الأنصاري ، عن عمه يزيد بن جارية الأنصاري ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «بَرِىءَ مِنَ الشّحّ مَنْ أدّى الزّكاةَ ، وَقَرَى الضّيْفَ ، وأعْطَى في النّائِبَةِ » .

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا زياد بن يونس أبو سلامة ، عن نافع بن عمر المكي ، عن ابن أبي مليكة ، عن عبد الله بن عمر ، قال : إن نجوت من ثلاث طمعت أن أنجو . قال عبد الله بن صفوان ما هنّ أنبيك فيهنّ ، قال : أخرج المال العظيم ، فأخرجه ضرارا ، ثم أقول : أقرض ربي هذه الليلة ، ثم تعود نفسي فيه حتى أعيده من حيث أخرجته ، وإن نجوت من شأن عثمان ، قال ابن صفوان : أما عثمان فقُتل يوم قُتل ، وأنت تحبّ قتله وترضاه ، فأنت ممن قتله وأما أنت فرجل لم يقك الله شحّ نفسك ، قال : صدقت .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عزّ وجلّ : { وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ }قال : من وقى شحّ نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئا ، ولم يقربه ، ولم يدعه الشحّ أن يحبس من الحلال شيئا ، فهو من المفلحين ، كما قال الله عزّ وجلّ .

وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ }قال : من لم يأخذ شيئا لشيء نهاه الله عزّ وجلّ عنه ، ولم يدعه الشحّ على أن يمنع شيئا من شيء أمره الله به ، فقد وقاه الله شحّ نفسه ، فهو من المفلحين .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم ذكر الأنصار، فأثنى عليهم حين طابت أنفسهم عن الفيء، إذ جعل المهاجرين دونهم. فقال: {والذين تبوءوا الدار} يعني أوطنوا دار المدينة من قبل هجرة المؤمنين، إليهم بسنين.

ثم قال: {والإيمان من قبلهم} من قبل هجرة المهاجرين.

ثم قال: للأنصار: {يحبون من هاجر إليهم} من المؤمنين.

{ولا يجدون في صدورهم} يعني قلوبهم.

{حاجة مما أوتوا} يعني مما أعطى إخوانهم المهاجرين من الفيء.

{ويؤثرون على أنفسهم} يقول: لا تضيق.

{ولو كان بهم خصاصة} يعني الفاقة. فآثروا المهاجرين بالفيء على أنفسهم.

ثم قال: {ومن يوق شح نفسه} يعني ومن يقيه الله حرص نفسه، يعني الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء لإخوانهم.

{فأولئك هم المفلحون}.

فقد ذهب صنفان: المهاجرون والأنصار، وبقي صنف واحد، وهم التابعون الذين دخلوا في الإسلام إلى يوم القيامة...

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

ابن العربي: قال ابن وهب: سمعت مالكا وهو يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق. فقال: إن المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ الآية: {والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} الآية. –

ابن رشد: قال مالك، زعموا أن عبد الرحمن بن عوف، اتبعه رجل في الطواف أي حول البيت فرآه يكثر من قوله: اللهم قني شح نفسي، فلما فرغ قال له الرجل: رأيتك تطوف فتقول: اللهم قني شح نفسي فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}..

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{وَالّذِينَ تَبَوّءوا الدّارَ والإيمَانَ} يقول: اتخذوا المدينة، مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فابتنوها منازل، "وَالإيمَانَ" بالله ورسوله {مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: من قبل المهاجرين.

{يُحِبّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ}: يحبون من ترك منزله، وانتقل إليهم من غيرهم، وعُنِي بذلك: الأنصار يحبون المهاجرين. قال محمد بن عمرو: سفاطة أنفسهم. وقال الحارث: سخاوة أنفسهم عندما روى عنهم من ذلك، وإيثارهم إياهم، ولم يصب الأنصار من ذلك الفيء شيء.

وقوله: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا} يقول جلّ ثناؤه: ولا يجد الذين تبوّءوا الدار من قبلهم، وهم الأنصار في صدورهم حاجة، يعني حسدا مما أوتوا، يعني مما أوتي المهاجرين من الفيء، وذلك لما ذُكر لنا من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين الأوّلين دون الأنصار، إلا رجلين من الأنصار، أعطاهما لفقرهما، وإنما فعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{يحبون من هاجر إليهم} يعني أن الله تعالى ألقى محبتهم في قلوبهم حتى أنزلوا المهاجرين ديارهم، وأنفقوا عليهم أموالهم.

{ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} يعني أن الله تعالى أغنى قلوبهم حتى لا يفكروا في حاجة ولا فقر البتة. ويحتمل أن يكون المعنى من الحاجة ههنا الغل والحسد؛ يعني أن الله تعالى طهر قلوبهم حتى لم يجدوا في صدورهم حاجة...

{ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} إن الله تعالى خلق في طبع البشر محبة المحاسن والمنافع والطلب لها، وبغض المساوئ والمضار والهرب عنها. ثم إنه امتحنهم بالإنفاق مما يحبون وحمل النفس على ما يكرهون طلبا لنجاتهم وتوصلا إلى ثوابهم. ثم تكون وقاية الأنفس من الشح بوجهين:

أحد هما: أن يمن الله على عبده ليصير ما هو غائب عنه من الثواب في الأجل كالشاهد، فيخفف عليه الإنفاق مما يحب، ويصير ذلك كالطبع له.

والثاني: يوفقه الله تعالى، ويعصمه، ويلهمه تعظيم أمره ونهيه حتى يقهر نفسه، ويحملها على الائتمار بأمر الله تعالى والانتهاء عما نهى عنه، وإن كان طبعها على خلاف ذلك.

ثم إضافة الوقاية إلى نفسه تدل على أنه قد بقي في خزائنه شيء، لم يؤته عبده حتى يصف نفسه بأنه بقي عنده شح نفسه، ولولا ذلك لم يكن لوعده بوقاية نفسه عن شحها معنى، والله أعلم.

{فأولئك هم المفلحون} يعني الباقون في النعيم. والفلاح في الحقيقة، هو البقاء في النعيم...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

... قال ابن عباس: "قال رسول الله (صلى الله عليه سلم) يوم النضير للأنصار: " إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة". فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالقسمة ولا نشاركهم فيها " فأنزل الله سبحانه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. والشح في كلام العرب: البخل ومنع الفضل. وقال طاووس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه، والشحّ أن يبخل بما في أيدي الناس. عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: " اللهم إنيّ أعوذ بك من شحّ نفسي وإسرافها ووسواسها". عن جابر بن عبد الله، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا الشحّ؛ فانّ الشحّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم".

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

والخصاصة: الحاجة التي يختل بها الحال.

والشح والبخل واحد. وفى أسماء الدين هو منع الواجب.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً}

ولا يَعْترِضون بقلوبهم على حُكْمِ الله بتخصيص المهاجرين، حتى لو كانت بهم حاجةٌ أو اختلالُ أحوالٍ.

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :

{ومن يوق شح نفسه} من حفظ من الحرص المهلك على المال، وهو حرص يحمله على امساك المال عن الحقوق، والحسد، {فأولئك هم المفلحون}.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

وقوله: (والإيمان) أي: جعلوا دورهم دور الإيمان، وذلك بإظهارهم الإيمان فيما بينهم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{والذين تَبَوَّءُوا} معطوف على المهاجرين، وهم الأنصار، فإن قلت: ما معنى عطف الإيمان على الدار، ولا يقال: تبوّؤا الإيمان؟ قلت: معناه تبوّؤا الدار وأخلصوا الإيمان أو: وجعلوا الإيمان مستقراً ومتوطناً لهم لتمكنهم منه واستقامتهم عليه، كما جعلوا المدينة كذلك. أو سمى المدينة لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان.

{مِن قَبْلِهِمُ} من قبل المهاجرين؛ لأنهم سبقوهم في تبوّئ دار الهجرة والإيمان.

{وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي خلة «الشح» بالضم والكسر: اللؤم، وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة على المنع، وقد أضيف إلى النفس؛ لأنه غريزة فيها. وأما البخل فهو المنع نفسه. ومنه قوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} [النساء: 128].

{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}: ومن غلب ما أمرته به منه، وخالف هواها بمعونة الله وتوفيقه، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} الظافرون بما أرادوا.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وأثنى الله تعالى في هذه الآية على الأنصار بأنهم {يحبون} المهاجرين، وبأنهم {يؤثرون على أنفسهم}، وبأنهم قد وقوا شح أنفسهم؛ لأن مقتضى قوله: {ومن يوق شح نفسه}: أن هؤلاء الممدوحين قد وقوا الشح. و «شح النفس»: هو كثرة منعها وضبطها على المال، والرغبة فيه، وامتداد الأمل، هذا جماع شح النفس، وهو داعية كل خلق سوء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدى الزكاة المفروضة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة، فقد برئ من الشح».

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

...

...

...

...

...

...

...

....

المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا إذَا كَانَ قَلِيلًا؛ بَلْ يَقْنَعُونَ بِهِ، وَيَرْضَوْنَ عَنْهُ. وَقَدْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ حِينَ حَيَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- [دُنْيَا، ثُمَّ كَانُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَقَدْ أَنْذَرَهُمْ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] وَقَالَ: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ».

...

...

...

...

...

...

...

المسألة الْخَامِسَةُ: الْإِيثَارُ بِالنَّفْسِ فَوْقَ الْإِيثَارِ بِالْمَالِ، وَإِنْ عَادَ إلَى النَّفْسِ.

المسألة السَّادِسَةُ: الْإِيثَارُ هُوَ تَقْدِيمُ الْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ فِي حُظُوظِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ رَغْبَةً فِي الْحُظُوظِ الدِّينِيَّةِ، وَذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ قُوَّةِ النَّفْسِ، وَوَكِيدِ الْمَحَبَّةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَشَقَّةِ؛ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُؤْثَرِينَ؛ كَمَا رُوِيَ فِي الْآثَارِ «أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبِلَ من أَبِي بَكْرٍ مَالَهُ وَمِنْ عُمَرَ نِصْفَ مَالِهِ، وَرَدَّ أَبَا لُبَابَةَ وَكَعْبًا إلَى الثُّلُثِ، لِقُصُورِهِمَا عَنْ دَرَجَتَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ إذْ لَا خَيْرَ لَهُ فِي أَنْ يَتَصَدَّقَ ثُمَّ يَنْدَمَ، فَيُحْبِطُ أَجْرَهُ نَدَمُهُ».

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حميد، عن أنس قال: قال المهاجرون: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل ولا أحسن بذلا في كثير؛ لقد كَفَونا المَؤنة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله! قال: "لا ما أثنيتم عليهم ودَعَوتُمُ الله لهم".

{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدأون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك. وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفضلُ الصدقة جَهدُ المقلّ". وهذا المقام أعلى من حال الذين وَصَف اللهُ بقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8]. وقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177]؛ فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما مدح المهاجرين وأعطاهم، فطابت نفوس الأنصار بذلك... أتبعه مدحهم جبراً لهم وشكراً لصنيعهم، فقال عاطفاً على مجموع القصة: {والذين تبوؤا} أي جعلوا بغاية جهدهم {الدار} الكاملة في الدور، وهي التي أعدها الله في الأزل للهجرة، وهيأها للنصرة، وجعلها دائرة على جميع البلدان، محيطة بها، غالبة عليها، محل إقامتهم وملابستهم وصحبتهم وملازمتهم، لكونها أهلاً لأن يعود إليها من خرج منها فلا يهجرها أصلاً، فهي محل مناه، وليست موضعاً يهاجر منه لبركتها أو خيرها. ولما كان المراد الإبلاغ في مدحهم، قال مضمناً "تبوأوا " معنى لازم: {والإيمان} أي و لابسوه وصحبوه وخصوه بالصحبة ولزموه لزوماً هو كلزوم المنزل الذي لا غنى لنازله عنه، ويجوز أن يكون الإيمان وصفاً للدار بإعادة العاطف للإشارة إلى التمكن في كل من الوصفين، فيكون كأنه قيل: تبوأوا المدينة التي هي الدار وهي الإيمان، لأنها محل تمكن الإيمان وانتشاره وظهوره في سائر البلدان، فلشدة ملابستها له سميت به، ويجوز أن يكون المعنى: ومحل الإيمان إشارة إلى أنهم ما أقاموا بها لأجل أن أموالهم بها، بل محبة في الإيمان، علماً منهم بأنه لا يتم بدره، ويكمل شرفه وقدره، وتنشر أعلامه ويقوى ذكره إلا بها، ولولا ذلك لهجروها وهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أي مكان حله، فهو مدح لهم بأنهم متصفون بالهجرة بالقوة مع اتصافهم بالنصرة بالفعل.

{من قبلهم} أي قبل هجرة المهاجرين لأن وصفهم بالهجرة لم يكن إلا بعد إيجادها فالأنصار جمعوا التمكن في الإيمان إلى التمكن في الدار من قبل أن يجمع المهاجرون بينهما بالهجرة.

ولما ابتدأ ذكرهم هذا الابتداء الجليل، أخبر عنهم بقوله: {يحبون} أي على سبيل التجديد والاستمرار، وقيل العطف على المهاجرين، {من هاجر} وزادهم محبة فيهم وعطفاً عليهم بقوله: {إليهم} لأن القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه، لأنه لولا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه، والدليل الشهودي على ما أخبر الله عنهم به من المحبة، أنهم شاطروا المهاجرين في أموالهم، وعرضوا عليهم أن يشاطروهم نساءهم على شدة غيرتهم، فأبى المهاجرون المشاطرة في النساء، وقبلوا منهم الأموال.

ولما أخبرهم بالمحبة ورغبهم في إدامتها، عطف على هذا الخبر ما هو من ثمراته فقال: {ولا يجدون} أي أصلاً {في صدورهم} التي هي مساكن قلوبهم فتصدر منها أوامر القلوب فضلاً عن أن تنطق ألسنتهم.

ولما كان المراد نفي الطلب منهم لما خص به المهاجرين، وكان الحامل على طلب ذلك الحاجة، وكان كل أحد يكره أن ينسب إلى الحاجة وإن أخبر بها عن نفسه في وقت ما لغرض، قال: {حاجة} موقعاً اسم السبب على المسبب {مما أوتوا} أي المهاجرون من الفيء وغيره من أموال بني النضير وغيرهم من أي مؤت كان، فكيف إذا كان المؤتي هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يجدوا حاجة تدعوهم إلى الطلب فلأن لا يجدوا حسداً ولا غيظاً من باب الأولى، فهذه الآية من أعظم حاث على حسن الإخاء، محذر من الحسد والاستياء.

ولما أخبر عن تخليهم عن الرذائل، أتبعه الإخبار بتحليهم بالفضائل فقال:

{ويؤثرون} عظم ذلك بقصر الفعل فصار المعنى: يوقعون الأثرة، وهي اختيار الأشياء الحسنة لغيرهم تخصيصاً لهم بها، لا على أحبائهم مثلاً بل {على أنفسهم} فيبذلون لغيرهم {كائناً} من كان ما في أيديهم، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة من الرذائل، لأن النفس إذا طهرت كان القلب أطهر، وأكد ذلك بقوله: {ولو كان} أي كوناً هو في غاية المكنة {بهم} أي خاصة لا بالمؤثر {خصاصة} أي فقر وخلل في الأحوال وحاجة شديدة تحيط بهم من كل جانب.

ولما كان التقدير: فمن كان كذلك فهو من الصادقين: عطف عليه قوله: {ومن} ولما كان المقصود النزاهة عن الرذيلة من أي جهة كانت، وكان علاج الرذائل صعباً جداً، لا يطيقه الإنسان إلا بمعونة من الله شديدة، بنى للمفعول قوله: {يوق شح نفسه} أي يحصل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس، وقاية تحول بينه وبينها، فلا يكون مانعاً لما عنده، حريصاً على ما عند غيره حسداً، قال ابن عمر رضي الله عنه: الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له.

ولما كان النظر إلى التطهير من سفساف الأخلاق عظيماً، سبب عنه إفهاماً لأنه لا يحصل ما سببه عنه بدونه قوله {فأولئك}: أي العالو المنزلة {هم} أي خاصة لا غيرهم {المفلحون} أي الكاملون في الفوز بكل مراد.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار. هذه المجموعة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلاما طائرة، ورؤى مجنحة، ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} وكنى بانتفاء وجدان الحاجة عن انتفاء وجودها، لأنها لو كانت موجودة لأدركوها في نفوسهم، ومعنى نفي وجدان الاحتياج في صدورهم، أنهم لفرط حبهم للمهاجرين صاروا لا يخامر نفوسهم أنهم مفتقرون إلى شيء مما يُؤتاه المهاجرون، أي فهم أغنياء عما يؤتاه المهاجرون، فلا تستشرف نفوسهم إلى شيء مما يؤتاه المهاجرون، بَلْهَ أن يتطلبوه.

{ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} يشير إلى أن إيثارهم على أنفسهم حتى في حالة الخصاصة هو سلامة من شح الأنفس، فكأنه قيل لسلامتهم من شح الأنفس {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} وأضيف في هذه الآية إلى النفس، لذلك فهو غريزة لا تسلم منها نفس. ولكن النفوس تتفاوت في هذا المقدار، فإذا غلب عليها بمنع المعروف والخير فذلك مذموم، ويتفاوت ذمه بتفاوت ما يمنعه.فمن وقي شح نفسه، أي وُقي من أن يكون الشح المذموم خُلقاً له، لأنه إذا وُقي هذا الخُلقَ سلِم من كل مواقع ذمه. فإن وقي من بعضه كان له من الفلاح بمقدار ما وُقيه. واسم الإِشارة لتعظيم هذا الصنف من الناس. وصيغة القصر المؤداة بضمير الفصل للمبالغة لكثرة الفلاح الذي يترتب على وقاية شح النفس حتى كأن جنس المفلح مقصور على ذلك المُوقَى.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

... ولم يقف الأمر بالأنصار عند هذا الكرم والجود وإنما تعدّاه إلى الإيثار قال تعالى بعدها: {ويُؤثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِم ولوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصةٌ.. 9} [الحشر] فالجود أنْ تعطى بعض ما عندك، أما الإيثار فأنْ تعطى كلّ ما عندك ولا تُبقي على شيء.

فالأنصار كانوا يُؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم ويُعطونهم ما يحتاجونه.

وكلمة (خصاصة) مأخوذة من (الخُص) وهو عشة صغيرة يصنعونها من عيدان الحطب، فهو شبه البيت لكنه لا يحمي صاحبه ولا يصون أهله، لذلك فهو بيت الفقير الذي لا يستطيع البناء.

فالخصاصة أي الفقر الشديد، فرغم ما كان بهم من الفقر والحاجة إلا أنهم كانوا يُؤثرون إخوانهم على أنفسهم. وقلنا إنهم أي الأنصار قدّموا لنا نموذجاً للعطاء لم يسبق له مثيل على مرّ التاريخ.

ثم تُقرر الآيات هذه الحقيقة {ومَن يوقَ شُحَّ نفْسه فأولئك هُمُ المُفلِحُون} المفلح من وقاه الله وجنّبه هذه الصفة الذميمة، وكلمة الشح البعض يقول البخل، لكن الشحّ أعم وأشدّ من البخل لأن البخل ينشأ عنها، نقول: شحّ الشيء إذا قلّ، وما دام قلَّ فلا بد أنْ تحافظ على هذا القليل حتى لا ينتهي وينفد من بين يديك.

فالشح إذن يُدخل في جوارحك وتصرفاتك البخل، ونستطيع أن نقول: الشح طبع القلب، والبخل طبع القالب.

كلمة {المُفْلِحُون} مأخوذة من فلاحة الأرض واستخراج خيراتها، لذلك نقول في الأذان: حيّ على الفلاح. أي: الفوز بكلّ خير.