قوله تعالى : { قل ما يعبأ بكم ربي } قال مجاهد وابن زيد : أي : ما يصنع وما يفعل بكم . قال أبو عبيدة يقال : ما عبأت به شيئاً أي : لم أعده ، فوجوده وعدمه سواء ، مجازه : أي وزن وأي مقدار لكم عنده ، { لولا دعاؤكم } إياه ، وقيل : لولا إيمانكم ، وقيل : لولا عبادتكم ، وقيل : لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام ، فإذا آمنتم ظهر لكم قدر . وقال قوم : معناها : قل ما يعبأ بخلقكم ربي لولا عبادتكم وطاعتكم إياه يعني أنه خلقكم لعبادته ، كما قال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } . وهذا قول ابن عباس ومجاهد . وقال قوم : قل ما يعبأ ما يبالي بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة ، أو ما يفعل بعذابكم لولا شرككم ، كما قال الله تعالى : { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } . وقيل : ما يعبأ بعذابكم لولا دعاؤكم إياه في الشدائد ، كما قال : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله } وقال : { فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون } . وقيل : { قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم } يقول : ما خلقتم ولي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم . { فقد كذبتم } أيها الكافرون ، يخاطب أهل مكة ، يعني : أن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته فقد كذبتم الرسول ولم تجيبوه { فسوف يكون لزاماً } هذا تهديده لهم ، أي : يكون تكذيبكم لزاماً ، قال ابن عباس : موتاً . وقال أبو عبيدة : هلاكاً . وقال ابن زيد : قتالاً . والمعنى : يكون التكذيب لازماً لمن كذب ، فلا يعطى التوبة حتى يجازى بعمله . وقال ابن جرير : عذاباً دائماً لازماً وهلاكاً مقيماً يلحق بعضكم ببعض . واختلفوا فيه ، فقال قوم : هو يوم بدر قتل منهم سبعون وأسر سبعون . وهو قول عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومجاهد ومقاتل ، يعني : أنهم قتلوا يوم بدر واتصل بهم عذاب الآخرة ، لازماً لهم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عمر بن حفص بن غياث ، أنبأنا أبي ، أنبأنا الأعمش ، عن مسروق قال : قال عبد الله : " خمس قد مضين : الدخان ، والقمر ، والروم ، والبطشة ، واللزام " وقيل : اللزام هو عذاب الآخرة .
ولما كان الله تعالى قد أضاف هؤلاء العباد إلى رحمته واختصهم بعبوديته لشرفهم وفضلهم ربما توهم متوهم أنه وأيضا غيرهم فلم لا يدخل في العبودية ؟
فأخبر تعالى أنه لا يبالي ولا يعبأ بغير هؤلاء وأنه لولا دعاؤكم إياه دعاء العبادة ودعاء المسألة ما عبأ بكم ولا أحبكم فقال : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } أي : عذابا يلزمكم لزوم الغريم لغريمه وسوف يحكم الله بينكم وبين عباده المؤمنين .
وقوله : { قل ما يعبؤا بكم } الآية أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يخاطب بذلك ، و { ما } تحتمل النفي وتحتمل التقرير والكلام في نفسه يحتمل تأويلات أحدها أن تكون الآية إلى قوله { لولا دعاؤكم } خطاباً لجميع الناس فكأنه قال لقريش منهم أي ما يبالي الله بكم ولا ينظر إليكم لولا عبادتكم إياه أن لو كانت إذ ذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله . قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }{[8893]} [ الذاريات : 56 ] . وقال النقاش وغيره المعنى لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك فذلك هو عرف الناس المرعي{[8894]} فيهم ، وقرأ ابن الزبير وغيره «فقد كذب الكافرون » وهذا يؤيد أن الخطاب بما يعبأ هو لجميع الناس ، ثم يقول لقريش فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون العذاب والتكذيب الذي هو سبب العذاب لزاماً ، والثاني أن يكون الخطاب بالآيتين لقريش خاصة أي { ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم } الأصنام آلهة دونه فإن ذلك يوجب تعذيبكم ، والثالثة وهو قول مجاهد أي ما يعبأ ربكم بكم لولا أن دعاكم إلى شرعه فوقع منكم الكفر والإعراض .
قال القاضي أبو محمد : والمصدر في هذا التأويل مضاف إلى المفعول وفي الأولين مضاف إلى الفاعل و { يعبأ } مشتق من العبء ، وهو الثقل الذي يعبأ ويرتب كما يعبأ الجيش{[8895]} ، وقرأ ابن الزبير «وقد كذبت الكافرون فسوف » ، قال ابن جني قرأ ابن الزبير وابن عباس الخ . . . «فقد كذب الكافرون » ، قال الزهراوي وهي قراءة ابن مسعود قال وهي على التفسير وأكثر الناس على أن «اللزام » المشار إليه في هذا الموضع هو يوم بدر وهو قول أبي بن كعب وابن مسعود ، والمعنى فسوف يكون جزاء التكذيب ، وقالت فرقة هو تعوذ بعذاب الآخرة ، وقال ابن مسعود اللزام التكذيب نفسه أي لا تعطون توبة ذكره الزهراوي ، وقال ابن عباس أيضاً «اللزام » الموت وهذا نحو القول ببدر وإن أراد به متأول الموت المعتاد في الناس عرفاً فهو ضعيف ، وقرأ جمهور الناس «لِزاماً » بكسر اللام من لوزم وأنشد أبو عبيدة لصخر الغي{[8896]} : [ الوافر ]
فإمّا ينجوا من حتف أرض . . . فقد لقيا حتوفهما لزاما
وقرأ أبو السمال «لَزاماً » لفتح اللام من لزم{[8897]} والله المعين .
لما استوعبت السورة أغراض التنويه بالرسالة والقرآن ، وما تضمنته من توحيد الله ، ومن صفة كبرياء المعاندين وتعلّلاتهم ، وأحوال المؤمنين ، وأقيمت الحجج الدامغة للمعْرضين ، ختمت بأمر الله رسولَه عليه الصلاة والسلام أن يخاطب المشركين بكلمة جامعة يُزال بها غرورهم وإعجابهم بأنفسهم وحسبانهم أنهم قد شَفوا غليلهم من الرسول بالإعراض عن دعوته وتورّكهم في مجادلته ؛ فبيّن لهم حقارتهم عند الله تعالى وأنه ما بعث إليهم رسوله وخاطبهم بكتابه إلا رحمةً منه بهم لإصلاح حالهم وقطعاً لعذرهم فإذْ كذّبوا فسوف يحلّ بهم العذاب .
و { ما } من قوله : { ما يعبؤا بكم } نافية . وتركيب : ما يعبأ به ، يدل على التحقير ، وضده عَبأ به يفيد الحفَاوة .
ومعنى { ما يعبأ } : ما يبالي وما يهتمّ ، وهو مضارع عَبَأ مثل : ملأ يَملأ مشتقّ من العِبء بكسر العين وهو الحِمل بكسر الحاء وسكون الميم ، أي الشيء الثقيل الذي يحمل على البعير ولذلك يطلق العِبء على العِدْل بكسر فسكون ، ثم تشعبت عن هذا إطلاقات كثيرة . فأصل { ما يعبأ } : ما يحْمِل عِبئاً ، تمثيلاً بحالة المُتعَب من الشيء ، فصار المقصود : ما يهتمّ وما يكترث ، وهو كناية عن قلة العناية .
والباء فيه للسببية ، أي بسببكم وهو على حذف مضاف يدل عليه مقام الكلام . فالتقدير هنا : ما يعبأ بخطابكم .
والدعاء : الدعوة إلى شيء ، وهو هنا مضاف إلى مفعوله ، والفاعل يدل عليه { ربّي } أي لولا دعاؤه إياكم ، أي لولا أنه يدعوكم . وحذف متعلق الدعاء لظهوره من قوله : { فقد كذبتم } ، أي الداعي وهو محمد صلى الله عليه وسلم فتعين أن الدعاء الدعوة إلى الإسلام . والمعنى : أن الله لا يلحقه من ذلك انتفاع ولا اعتزاز بكم . وهذا كقوله تعالى : { وما خلقت الجنّ والإنس إلا لِيَعْبُدون ما أُريد منهم مِن رزق وما أُريد أن يُطْعِمُون } [ الذاريات : 56 ، 57 ] .
وضمير الخطاب في قوله : { دعاؤكم } موجّه إلى المشركين بدليل تفريع { فقد كَذّبتم } عليه وهو تهديد لهم ، أي فقد كذبتم الداعي وهو الرسول عليه الصلاة والسلام . وهذا التفسير هو الذي يقتضيه المعنى ، ويؤيده قول مجاهد والكلبي والفراء . وقد فسر بعض المفسرين الدعاء بالعبادة فجعلوا الخطاب موجهاً إلى المسلمين فترتب على ذلك التفسير تكلفات وقد أغنى عن التعرض إليها اعتمادُ المعنى الصحيح فمن شاء فلينظرها بتأمل ليعلم أنها لا داعي إليها .
وتفريع { فقد كذبتم } على قوله : { لولا دعاؤكم } ، والتقدير : فقد دعاكم إلى الإسلام فكذبتم الذي دعاكم على لسانه .
والضمير في { يكون } عائد إلى التكذيب المأخوذ من { كذبتم } ، أي سوف يكون تكذيبهم لزاماً لكم ، أي لازماً لكم لا انفكاك لكم منه . وهذا تهديد بعواقب التكذيب تهديداً مهولاً بما فيه من الإبهام كما تقول للجاني : قد فعلتَ كذا فسوف تتحمل ما فعلت .
ودخل في هذا الوعيد ما يحلّ بهم في الدنيا من قتل وأسر وهزيمة وما يحل بهم في الآخرة من العذاب .
واللِّزام : مصدر لازم ، وقد صيغ على زنة المفاعلة لإفادة اللزوم ، أي عدم المفارقة ، قال تعالى : { ولولا كلمة سبقت من ربّك لكان لزاماً } في سورة طه ( 129 ) . والضميرُ المستتر في ( كان ) عائد إلى عذاب الآخرة في قوله : { ولعذَاب الآخرة أشدّ وأبقَى } [ طه : 127 ] ، فالإخبار باللزام من باب الإخبار بالمصدر للمبالغة . وقد اجتمع فيه مبالغتان : مبالغة في صيغته تفيد قوة لزومه ، ومبالغة في الإخبار به تفيد تحقيق ثبوت الوصف .
وعن ابن مسعود وأُبَيّ بن كعب : اللِّزام : عذاب يوم بَدر . ومرادهما بذلك أنه جزئيّ من جزئيات اللِّزام الموعود لهم . ولعلّ ذلك شاع حتى صار اللزام كالعَلم بالغلبة على يوم بدر . وفي الصحيح عن ابن مسعود : خمس قد مضَين : الدخان والقمر ، والروم ، والبطشة ، واللزام ، يعني أن اللِّزام غير عذاب الآخرة .