مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُلۡ مَا يَعۡبَؤُاْ بِكُمۡ رَبِّي لَوۡلَا دُعَآؤُكُمۡۖ فَقَدۡ كَذَّبۡتُمۡ فَسَوۡفَ يَكُونُ لِزَامَۢا} (77)

أما قوله : { قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما } . فاعلم أنه سبحانه لما شرح صفات المتقين ، وشرح حال ثوابهم أمر رسوله أن يقول : { قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم } فدل بذلك على أنه تعالى غني عن عبادتهم ، وأنه تعالى إنما كلفهم لينتفعوا بطاعتهم وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال الخليل ما أعبأ بفلان أي ما أصنع به كأنه يستقله ويستحقره ، وقال أبو عبيدة ما أعبأ به أي وجوده وعدمه عندي سواء ، وقال الزجاج معناه أي لا وزن لكم عند ربكم ، والعبء في اللغة الثقل ، وقال أبو عمرو بن العلاء ما يبالي بكم ربي .

المسألة الثانية : في { ما } قولان أحدهما أنها متضمنة لمعنى الاستفهام وهي في محل النصب وهي عبارة عن المصدر ، كأنه قيل وأي عبء يعبأ بكم لولا دعاؤكم ، والثاني أن تكون ما نافية .

المسألة الثالثة : ذكروا في قوله : { لولا دعاؤكم } وجهين : أحدهما : لولا دعاؤه إياكم إلى الدين والطاعة والدعاء على هذا مصدر مضاف إلى المفعول . وثانيهما : أن الدعاء مضاف إلى الفاعل وعلى هذا التقدير ذكروا فيه وجوها : أحدها : لولا دعاؤكم لولا إيمانكم . وثانيها : لولا عبادتكم . وثالثها : لولا دعاؤكم إياه في الشدائد كقوله : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله } . ورابعها : دعاؤكم يعني لولا شكركم له على إحسانه لقوله : { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم } . وخامسها : ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم .

أما قوله : { فقد كذبتم } فالمعنى أني إذا أعلمتكم أن حكمي أني لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم وهو عقاب الآخرة ، ونظيره أن يقول الملك لمن استعصى عليه : إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني ، وقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك . فإن قيل إلى من يتوجه هذا الخطاب ؟ قلنا إلى الناس على الإطلاق ، ومنهم عابدون ومكذبون عاصون ، فخوطبوا بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب ، وقرئ فقد كذب الكافرون فسوف يكون العذاب لزاما ، وقرئ { لزاما } بالفتح بمعنى اللزوم كالثبات والثبوت ، والوجه أن ترك اسم كان غير منطوق به بعد ما علم أنه مما توعد به لأجل الإبهام ويتناول ما لا يحيط به الوصف ، ثم قيل هذا العذاب في الآخرة ، وقيل كان يوم بدر وهو قول مجاهد رحمه الله ، والله أعلم .