اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ مَا يَعۡبَؤُاْ بِكُمۡ رَبِّي لَوۡلَا دُعَآؤُكُمۡۖ فَقَدۡ كَذَّبۡتُمۡ فَسَوۡفَ يَكُونُ لِزَامَۢا} (77)

قوله : { قُلْ مَا يَعْبَؤُ بِكُمْ رَبِّي } . قال مجاهد وابن زيد : أي : ما يصنع وما يفعل بكم{[36803]} . قال أبو عبيدة : يقال : ما عَبَأْت به شيئاً{[36804]} ، أي : لم أُبَالِهِ ، فوجوده وعدمه سواء{[36805]} . وقال الزجاج : معناه لا وزن لكم عندي والعبء في اللغة الثقل{[36806]} . وقال أبو عمرو بن العلاء : ما يبالي ربكم{[36807]} ، ويقال : ما عبأت بك ، أي : ما اهتممت ولا اكترثت ، ويقال : عبأت الجيش وعبأته ، أي : هيأته وأعددته{[36808]} . قوله : «لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ » جوابها محذوف لدلالة ما تقدم ، أي : لولا دعاؤكم ما أعبأ بكم ولا أكترث ، و «ما » يجوز أن تكون نافية{[36809]} ، وهو الظاهر ، وقيل : استفهام ، بمعنى النفي{[36810]} ، ولا حاجة إلى التجوز في شيء يصح أن يكون حقيقته بنفسه . و «دُعَاؤُكُمْ » يجوز أن يكون مضافاً للفاعل ، أي : لولا تضرّعكم إليه ، ويجوز أن يكون مضافاً للمفعول ، أي : لولا دعاؤكم إيّاهُ إلى الهدى{[36811]} .

فصل

ومعنى هذا الدعاء وجوه :

الأول : لولا دعاؤكم إياه في الشدائد كما قال تعالى : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ العنكبوت : 65 ] .

الثاني : لولا شكركم له على إحسانه ، لقوله : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ } [ النساء : 147 ] .

الثالث : لولا عبادتكم .

الرابع : لولا إيمانكم{[36812]} .

وقيل المعنى : ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم{[36813]} .

وقيل : المعنى : قل ما يعبأ بخلقكم{[36814]} ربي لولا عبادتكم وطاعتكم إياه ، يعني أنه خلقكم لعبادته كما قال : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . قاله ابن عباس ومجاهد{[36815]} . وقيل : معناه ما يبالي بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة ، أو ما يفعل الله بعذابكم لولا شرككم كما قال : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } [ النساء : 147 ] .

قوله : «فَقَدْ كَذَّبْتُمْ » أيها الكافرون يخاطب أهل مكة ، يعني أن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته فقد كذبتم الرسول ولم تجيبوه . وقرئ{[36816]} «فقد كذب الكافرون »{[36817]} قوله : { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } أي : فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم ، وهذا عقاب الآخرة ، ونظيره أن يقول الملك لمن استعصى عليه : إن من عادتي{[36818]} أن أحسن إلى من يطيعني{[36819]} فقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك{[36820]} .

قوله : «لِزَاماً » قرئ بالفتح{[36821]} يعني اللزوم{[36822]} كالثبات والثبوت{[36823]} .

قال ابن عباس : موتاً{[36824]} . وقال أبو عبيدة : هلاكاً{[36825]} . وقال ابن زيد : قتالاً والمعنى : يكون التكذيب لازماً لمن كذب فلا يعطى التوبة حتى يجازى بعمله . وقال ابن جريج : عذاباً دائماً لازماً وهلاكاً مُفْنِياً يلحق بعضكم ببعض . قال ابن مسعود وأبيّ بن كعب ومجاهد ومقاتل : هو يوم بدر واتصل بهم عذاب الآخرة لازماً لهم{[36826]} . وقال عبد الله بن مسعود : خمس قد مضين الدخان والقمر واليوم والبطشة واللزام : { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } .

ختام السورة:

روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الفرقان بعثه الله يوم القيامة وهو يؤمن أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ، ودخل الجنة بغير حساب »{[1]} .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[36803]:انظر البغوي 6/203.
[36804]:مجاز القرآن 2/82.
[36805]:انظر البغوي 6/203.
[36806]:معاني القرآن وإعرابه 4/78.
[36807]:انظر الفخر الرازي 24/116.
[36808]:انظر اللسان (عبأ).
[36809]:انظر الكشاف 3/106، البحر المحيط 6/517.
[36810]:قال الفراء: ("ما" استفهام أي: ما يصنع بكم "لولا دعاؤكم" لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام) معاني القرآن 2/275. وانظر المرجعين السابقين.
[36811]:قال القرطبي: (وليس يبعد أن تكون نافية، لأنك إذا حكمت بأنها استفهام فهو نفي خرج مخرج الاستفهام، كما قال الله تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} القرطبي 13/84.
[36812]:انظر البحر المحيط 6/517.
[36813]:انظر الفخر الرازي 24/117.
[36814]:المرجع السابق.
[36815]:انظر البغوي 6/204.
[36816]:وهي قراءة: عبد الله وابن عباس وابن الزبير. انظر المختصر (105)، البحر المحيط 6/18، وقال أبو حيان: (وهو محمول على أنه تفسير، لا قرآن).
[36817]:انظر الكشاف 43/ 106، الفخر الرازي 24/117.
[36818]:في النسختين: عبادتي. والتصويب من الفخر الرازي.
[36819]:في النسختين: يعصيني. والتصويب من الفخر الرازي.
[36820]:انظر الفخر الرازي 24/117.
[36821]:وهي قراءة المنهال وأبان بن تغلب وأبي السمال. انظر البحر المحيط 6/518.
[36822]:وهو مصدر لزم، ففي اللسان (لزم): لزم الشيء يلزمه لزما ولزوما ولازمه ملازمة ولزاما.
[36823]:في اللسان (ثبت): ثبت الشيء يثبت ثباتا وثبوتا.
[36824]:انظر البغوي 6/204.
[36825]:مجاز القرآن 2/82.
[36826]:انظر البغوي 6/204.