المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{قُلۡ مَا يَعۡبَؤُاْ بِكُمۡ رَبِّي لَوۡلَا دُعَآؤُكُمۡۖ فَقَدۡ كَذَّبۡتُمۡ فَسَوۡفَ يَكُونُ لِزَامَۢا} (77)

وقوله : { قل ما يعبؤا بكم } الآية أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يخاطب بذلك ، و { ما } تحتمل النفي وتحتمل التقرير والكلام في نفسه يحتمل تأويلات أحدها أن تكون الآية إلى قوله { لولا دعاؤكم } خطاباً لجميع الناس فكأنه قال لقريش منهم أي ما يبالي الله بكم ولا ينظر إليكم لولا عبادتكم إياه أن لو كانت إذ ذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله . قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }{[8893]} [ الذاريات : 56 ] . وقال النقاش وغيره المعنى لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك فذلك هو عرف الناس المرعي{[8894]} فيهم ، وقرأ ابن الزبير وغيره «فقد كذب الكافرون » وهذا يؤيد أن الخطاب بما يعبأ هو لجميع الناس ، ثم يقول لقريش فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون العذاب والتكذيب الذي هو سبب العذاب لزاماً ، والثاني أن يكون الخطاب بالآيتين لقريش خاصة أي { ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم } الأصنام آلهة دونه فإن ذلك يوجب تعذيبكم ، والثالثة وهو قول مجاهد أي ما يعبأ ربكم بكم لولا أن دعاكم إلى شرعه فوقع منكم الكفر والإعراض .

قال القاضي أبو محمد : والمصدر في هذا التأويل مضاف إلى المفعول وفي الأولين مضاف إلى الفاعل و { يعبأ } مشتق من العبء ، وهو الثقل الذي يعبأ ويرتب كما يعبأ الجيش{[8895]} ، وقرأ ابن الزبير «وقد كذبت الكافرون فسوف » ، قال ابن جني قرأ ابن الزبير وابن عباس الخ . . . «فقد كذب الكافرون » ، قال الزهراوي وهي قراءة ابن مسعود قال وهي على التفسير وأكثر الناس على أن «اللزام » المشار إليه في هذا الموضع هو يوم بدر وهو قول أبي بن كعب وابن مسعود ، والمعنى فسوف يكون جزاء التكذيب ، وقالت فرقة هو تعوذ بعذاب الآخرة ، وقال ابن مسعود اللزام التكذيب نفسه أي لا تعطون توبة ذكره الزهراوي ، وقال ابن عباس أيضاً «اللزام » الموت وهذا نحو القول ببدر وإن أراد به متأول الموت المعتاد في الناس عرفاً فهو ضعيف ، وقرأ جمهور الناس «لِزاماً » بكسر اللام من لوزم وأنشد أبو عبيدة لصخر الغي{[8896]} : [ الوافر ]

فإمّا ينجوا من حتف أرض . . . فقد لقيا حتوفهما لزاما

وقرأ أبو السمال «لَزاماً » لفتح اللام من لزم{[8897]} والله المعين .


[8893]:الآية 56 من سورة الذاريات.
[8894]:في بعض النسخ: المدعى فيهم.
[8895]:في (اللسان- عبأ): "عبأ الأمر عبئا وعبأه يعبئه: هيأه، وعبأت المتاع: جعلت بعضه على بعض، وقيل: عبأ المتاع وعبأه: كلاهما هيأه، وكذلك الخيل والجيش، وكان يونس لا يهمز تعبية الجيش".
[8896]:هو صخر بن عبد الله الخيثمي الهذلي، وفي الأغاني أنه لقب بصخر الغي لخلاعته وشدة بأسه وكثرة شره، وله ترجمة في الإصابة، وفي الأغاني، والبيت في (اللسان- لزم) وفيه "قال أبو عبيدة: وجاء في التفسير عن الجماعة أنه يوم بدر، وما نزل بهم فيه، فإنه لوزم بين القتلى لزاما، أي: فصل، وأنشد أبو عبيدة لصخر الغي: فإما ينجوا...البيت، وتأويل هذا أن الحتف إذا كان مقدرا فهو لازم، إن نجا من حتف مكان لقيه الحتف في مكان آخر لزاما".
[8897]:قال أبو جعفر: يكون مصدر لزم، والكسر أولى، وقال غيره: اللزام بالكسر مصدر لازم لزاما، مثل خاصم خصاما، واللزام بالفتح مصدر لزم، مثل سلم سلاما، أي سلامة، فاللزام بالفتح اللزوم، واللزام: الملازمة، والمصدر في القراءتين وقع موقع اسم الفاعل، فاللزام في موقع: ملازم، واللزام في موقع: لازم.