قوله تعالى : { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه } يعني فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطول العمر وكثرة المال . قال المبرد : ما في قوله : " فيما " بمنزلة الذي ، " إن " بمنزلة " ما " وتقديره : ولقد مكناهم في الذي ما مكناهم فيه . { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون }
هذا مع أن الله تعالى قد أدر عليهم النعم العظيمة فلم يشكروه ولا ذكروه ولهذا قال : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ } أي : مكناهم في الأرض يتناولون طيباتها ويتمتعون بشهواتها
وعمرناهم عمرا يتذكر فيه من تذكر ، ويتعظ فيه المهتدي ، أي : ولقد مكنا عادا كما مكناكم يا هؤلاء المخاطبون أي : فلا تحسبوا أن ما مكناكم فيه مختص بكم وأنه سيدفع عنكم من عذاب الله شيئا ، بل غيركم أعظم منكم تمكينا فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا جنودهم من الله شيئا .
{ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً } أي : لا قصور في أسماعهم ولا أبصارهم ولا أذهانهم حتى يقال إنهم تركوا الحق جهلا منهم وعدم تمكن من العلم به ولا خلل في عقولهم ولكن التوفيق بيد الله . { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ } لا قليل ولا كثير ، وذلك بسبب أنهم { يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } الدالة على توحيده وإفراده بالعبادة .
{ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : نزل بهم العذاب الذي يكذبون بوقوعه ويستهزئون بالرسل الذين حذروهم منه .
يقول تعالى : ولقد مكنا الأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد ، وأعطيناهم منها {[26465]} ما لم نعطكم مثله ولا قريبا منه ، { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : وأحاط بهم العذاب والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه ، أي : فاحذروا أيها المخاطبون أن تكونوا مثلهم ، فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والآخرة .
هذا استخلاص لموعظة المشركين بمَثَل عاد ، ليعلموا أن الذي قدَر على إهلاك عاد قادر على إهلاك مَن هم دونهم في القوة والعدد ، وليعلموا أن القوم كانوا مثلهم مستجمعين قوى العقل والحسّ وأنهم أهملوا الانتفاع بقواهم فجحدوا بآيات الله واستهزؤوا بها وبوعيده فحاق بهم ما كانوا يستهزئون به ، وقريش يعلمون أن حالهم مثل الحال المحكيّة عن أولئك فليتهيّأوا لما سيحلّ بهم . ولإفادة هذا الاستخلاص غُيّر أسلوب الكلام إلى خطاب المشركين من أهل مكة ، فالجملة في موضع الحال من واو الجماعة في { قالوا أجئتنا } [ الأحقاف : 22 ] والخبر مستعمل في التعجيب من عدم انتفاعهم بمواهب عقولهم . وتأكيد هذا الخبر بلام القسم مع أن مفاده لا شك فيه مصروف إلى المبالغة في التعجيب .
والتمكين : إعطاء المَكِنة ( بفتح الميم وكسر الكاف ) وهي القدرة والقوة . يقال : مكُن من كذا وتمكن منه ، إذا قدر عليه . ويقال : مكَّنه في كذا ، إذا جعل له القدرة على مدخول حرف الظرفية فيفسر بما يليق بذلك الظرف قال تعالى : { مكنّاهم في الأرض ما لم نمكن لهم } في سورة الأنعام ( 6 ) .
فالمعنى : جعلنا لهم القدرة في الذي لم نمكنكم فيه ، أي من كل ما يمكّن فيه الأقوام والأمم ، وتقدم عند قوله تعالى : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكَّنَّاهم في الأرض } في أول الأنعام ( 6 ) فضمّ إليه ما هنا .
و ( ما ) من قوله فيما } موصولة . و { إن } نافية ، أي في الذي ما مَكَّناكم فيه .
ومعنى مكناكم فيه : مكناكم في مثله أو في نوعه فإن الأجناس والأنواع من الذوات حقائق معنوية لا تتغير مواهبها وإنما تختلف بوجودها في الجزئيات ، فلذلك حسن تعدية فعل { مكناكم } بحرف الظرفية إلى ضمير اسم الموصول الصادق على الأمور التي مُكنت منها عاد . ومن بديع النظم أن جاء النفي هنا بحرف { إنْ } النافية مع أنَّ النفي بها أقل استعمالا من النفي ب ( ما ) النافية قصداً هنا لدفع الكراهة من توالي مثلين في النطق وهما ( ما ) الموصولة و ( ما ) النافية وإن كان معناهما مختلفاً ، ألا ترى أن العرب عوضوا الهاء عن الألف في ( مهما ) ، فإن أصلها : ( ما ما ) مركبة من ( ما ) الظرفية و ( ما ) الزائدة لإفادة الشرط مثل ( أينما ) . قال في « الكشاف » : ولقد أغَثَّ أبو الطيب في قوله :
لعمرك مَا مَا بَان منك لِضَاربٍ{[383]}
وأقول ولم يتعقب ابن جنّي ولا غيره ممّن شرح الديوان من قبل على المتنبي وقد وقع مثله في ضرورات شعر المتقدمين كقول خطام المجاشعي :
وَصَاليات كَكَمَا يُؤثفَيْنْ *** ولا يغتفر مثله للمولدين .
فأما إذا كانت ( ما ) نافية وأراد المتكلم تأكيدها تأكيداً لفظياً ، فالإتيان بحرف ( إنْ ) بعد ( ما ) أحرى كما في قول النابغة :
رماد ككحل العين ما إنْ أبينُه *** ونؤيٌ كجذم الحوض أثلم خاشع
وفائدة قوله : { وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة } أنهم لم ينقصهم شيء من شأنه أي يخلّ بإدراكهم الحق لولا العناد ، وهذا تعريض بمشركي قريش ، أي أنكم حرمتم أنفسكم الانتفاع بسمعكم وأبصاركم وعقولكم كما حُرموه ، والحالة متحدة والسبب متّحد فيوشك أن يكون الجزاء كذلك . وإفراد السمع دون الأبصار والأفئدة للوجه الذي تقدم في قوله : { قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } في سورة الأنعام ( 46 ) وقوله : { أم مَن يملك السمع والأبصار } في سورة يونس ( 31 ) .
ومِن } في قوله : { من شيء } زائدة للتنصيص على انتفاء الجنس فلذلك يكون { شيء } المجرور ب { من } الزائدة نائباً عن المفعول المطلق لأن المراد بشيء من الإغناء ، وحق { شيء } النصب وإنما جُرّ بدخول حرف الجر الزائد .
و { إذْ } ظرف ، أي مدة جحودهم وهو مستعمل في التعليل لاستواء مؤدى الظرف ومؤدى التعليل لأنه لما جعل الشيء من الإغناء معلقاً نفيُه بزمان جحدهم بآيات الله كما يستفاد من إضافة { إذْ } إلى الجملة بعدها ، عُلم أن لذلك الزمان تأثيراً في نفي الإغناء .
وآيات الله دلائل إرادته من معجزات رسولهم ومن البراهين الدالة على صدق ما دعاهم إليه . وقد انطبق مثالهم على حال المشركين فإنهم جحدوا بآيات الله وهي آيات القرآن لأنها جَمَعت حقيقة الآيات بالمعنيين .
وحاق بهم : أحاط بهم { وما كانوا به يستهزئون } العذاب ، عدل عن اسمه الصريح إلى الموصول للتنبيه على ضلالهم وسوء نظرهم .