قوله تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } الآية ، روي عن مسروق قال : قالت عائشة رضي الله عنها : من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب ، وهو يقول : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } الآية . روي عن الحسن : أن الله تعالى لما بعث رسوله ضاق ذرعاً ، وعرف أن من الناس من يكذبه ، فنزلت هذه الآية . وقيل : نزلت في عيب اليهود ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام ، فقالوا : أسلمنا قبلك ، وجعلوا يستهزؤون به ، فيقولون : تريد أن نتخذك حناناً كما اتخذت النصارى عيسى حناناً ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك سكت ، فنزلت هذه الآية وأمره بأن يقول لهم : { يا أهل الكتاب لستم على شيء } الآية . وقيل : بلغ ما أنزل إليك من الرجم والقصاص ، نزلت في قصة اليهود . وقيل : نزلت في أمر زينب بنت جحش ونكاحها . وقيل : في الجهاد ، وذلك أن المنافقين كرهوه ، كما قال الله تعالى : { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت } [ محمد :20 ] كرهه بعض المؤمنين ، قال الله تعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } الآية [ النساء : 70 ] فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك في بعض الأحايين عن الحث على الجهاد لما يعلم من كراهة بعضهم ، فأنزل الله هذه الآية .
قوله تعالى : { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } ، قرأ أهل المدينة والشام ، وأبو بكر ، ويعقوب : { رسالاته } ، على الجمع ، والباقون رسالته على التوحيد . ومعنى الآية : إن لم تبلغ الجميع ، وتركت بعضه ، فما بلغت شيئاً ، أي : جرمك في ترك تبليغ البعض كجرمك في ترك تبليغ الكل ، كقوله : { نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا } [ النساء : 150-151 ] أخبر أن كفرهم بالبعض محبط للإيمان بالبعض ، وقيل : { بلغ ما أنزل إليك } أي : أظهر تبليغه ، كقوله : { فاصدع بما تؤمر } [ الحجر :94 ] { وإن لم تفعل } : فإن لم تظهر تبليغه فما بلغت رسالته ، أمره بتبليغ ما أنزل إليه مجاهراً ، محتسباً ، صابراً ، غير خائف ، فإن أخفيت منه شيئاً لخوف يلحقك فما بلغت رسالته .
قوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } ، يحفظك ويمنعك من الناس ، فإن قيل : أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته ، وأوذي بضروب من الأذى ؟ قيل : معناه يعصمك من القتل ، فلا يصلون إلى قتلك . وقيل : نزلت هذه الآية بعد ما شج رأسه ، لأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن ، وقيل : والله يخصك بالعصمة من بين الناس ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم .
قوله تعالى : { إن الله لا يهدي القوم الكافرين } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا أبو شعيب ، عن الزهري ؛ أنا سنان بن أبي سنان الدولي و أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن جابر بن عبد الله أخبره ، أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد ، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه ، وأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلق بها سيفه ، ونمنا نومة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا ، وإذا عنده أعرابي ، فقال : ( إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم ، فاستيقظت وهو في يده صلتاً ، فقال : من يمنعك مني ؟ فقلت : الله ثلاثاً ) ، ولم يعاقبه وجلس .
وروى محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه : " أن الأعرابي سل سيفه وقال : من يمنعك مني يا محمد ؟ قال : الله ، فرعدت يد الأعرابي ، وسقط السيف من يده ، وجعل يضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية " . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل بن خليل ، أخبرنا علي بن مسهر ، أنا يحيى بن سعيد ، أنا عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : " كان النبي صلى الله عليه وسلم سهر فلما قدم المدينة قال : ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة ، إذ سمعنا صوت سلاح ، فقال : من هذا ؟ قال : أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك ، ونام النبي صلى الله عليه وسلم " .
وقال عبد الله بن شفيق ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية { والله يعصمك من الناس } ، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم : ( أيها الناس ، انصرفوا فقد عصمني الله سبحانه وتعالى ) .
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ْ }
هذا أمر من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم الأوامر وأجلها ، وهو التبليغ لما أنزل الله إليه ، ويدخل في هذا كل أمر تلقته الأمة عنه صلى الله عليه وسلم من العقائد والأعمال والأقوال ، والأحكام الشرعية والمطالب الإلهية . فبلغ صلى الله عليه وسلم أكمل تبليغ ، ودعا وأنذر ، وبشر ويسر ، وعلم الجهال الأميين حتى صاروا من العلماء الربانيين ، وبلغ بقوله وفعله وكتبه ورسله . فلم يبق خير إلا دل أمته عليه ، ولا شر إلا حذرها عنه ، وشهد له بالتبليغ أفاضل الأمة من الصحابة ، فمن بعدهم من أئمة الدين ورجال المسلمين .
{ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ ْ } أي : لم تبلغ ما أنزل إليك من ربك { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ْ } أي : فما امتثلت أمره .
{ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ْ } هذه حماية وعصمة من الله لرسوله من الناس ، وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم والتبليغ ، ولا يثنيك عنه خوف من المخلوقين فإن نواصيهم بيد الله وقد تكفل بعصمتك ، فأنت إنما عليك البلاغ المبين ، فمن اهتدى فلنفسه ، وأما الكافرون الذين لا قصد لهم إلا اتباع أهوائهم فإن الله لا يهديهم ولا يوفقهم للخير ، بسبب كفرهم .
يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة ، وآمرًا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به ، وقد امتثل صلوات الله وسلامه عليه ذلك ، وقام به أتمّ القيام .
قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : من حَدّثَك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم{[10073]} كتم شيئًا مما أُنزل عليه{[10074]} فقد كذب ، الله{[10075]} يقول : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } الآية .
هكذا رواه ههنا مختصرًا ، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولا . وكذا رواه مسلم في " كتاب الإيمان " ، والترمذي والنسائي في " كتاب التفسير " من سننهما من طرق ، عن عامر الشعبي ، عن مسروق بن الأجدع ، عنها رضي الله عنها . {[10076]}
وفي الصحيحين عنها أيضا{[10077]} أنها قالت : لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما من القرآن شيئًا لكتم هذه الآية : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } [ الأحزاب : 37 ] . {[10078]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد ، عن{[10079]} هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : كنت عند ابن عباس فجاء{[10080]} رجل فقال له : إن ناسًا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئًا لم يبده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للناس . فقال : ألم تعلم أن الله تعالى قال : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداءَ في بيضاء .
وهذا إسناد جيد ، وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جُحَيفَة وهب بن عبد الله السّوائي قال : قلت لعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا والذي{[10081]} فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فَهْمًا يعطيه الله رجلا في القرآن ، وما في هذه الصحيفة . قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفَكَاك الأسير ، وألا يقتل مسلم بكافر{[10082]} .
وقال البخاري : قال الزهري : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم . {[10083]}
وقد شهدت له أمته ببلاغ الرسالة وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل ، في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من الصحابة{[10084]} نحو من أربعين ألفًا{[10085]} كما ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ : " أيها الناس ، إنكم مسئولون عني ، فما أنتم قائلون ؟ " قالوا : نشهد أنك قد بَلّغت وأدّيتَ ونصحت . فجعل يرفع إصبعه إلى السماء ويَقلبها{[10086]} إليهم ويقول : " اللهم هل بَلَّغْتُ ، اللهم هل بلغت " . {[10087]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن نُمير ، حدثنا فضيل - يعني ابن غَزْوان - عن عِكْرمَة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : " يأيها الناس ، أيّ يوم هذا ؟ " قالوا : يوم حرام . قال : " أيّ بلد هذا ؟ " قالوا : بلد حرام . قال : " فأيّ شهر هذا ؟ " قالوا : شهر حرام . قال : " فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا " . ثم أعادها مرارًا . ثم رفع إصبعه{[10088]} إلى السماء فقال : " اللهم هل بلغت ! " مرارًا - قال : يقول ابن عباس : والله لَوصِيَّةٌ إلى ربه عز وجل - ثم قال : " ألا فليبلغ الشاهدُ الغائِبَ ، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض " .
وقد روى البخاري عن علي بن المديني ، عن يحيى بن سعيد عن فضيل بن غزوان ، به نحوه . {[10089]}
وقوله : { وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } يعني : وإن لم تُؤد إلى الناس ما أرسلتك به { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي : وقد عَلِم ما يترتب على ذلك لو وقع .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } يعني : إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي : حدثنا قُبَيْصة بن عُقْبَةَ{[10090]} حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد قال : لما نزلت : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } قال : " يا رب ، كيف أصنع وأنا وحدي ؟ يجتمعون عليَّ " . فنزلت { وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }
ورواه ابن جرير ، من طريق سفيان - وهو الثوري - به .
وقوله : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } أي : بلغ أنت رسالتي ، وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم ، فلا تخف ولا تحزن ، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يُحْرَس{[10091]} كما قال الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، حدثنا يحيى ، قال سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث : أن عائشة كانت تحدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهِر ذات ليلة ، وهي إلى جنبه ، قالت : فقلتُ : ما شأنك يا رسول الله ؟ قال : " ليت رجلا صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة ؟ " قالت : فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال : " من هذا ؟ " فقال : أنا سعد بن مالك . فقال : " ما جاء بك ؟ " قال : جئت لأحرسك يا رسول الله . قالت : فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه . أخرجاه في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري ، به . {[10092]}
وفي لفظ : سَهِر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مَقْدَمِه المدينة . يعني : على أثر هجرته [ إليها ]{[10093]} بعد دخوله بعائشة ، رضي الله عنها ، وكان ذلك في سنة ثنتين منها .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري نزيل مصر ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الحارث بن عُبَيد - يعني أبا قدامة - عن الجُرَيري ، عن عبد الله بن شَقِيق ، عن عائشة [ رضي الله عنها ]{[10094]} قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس حتى نزلت هذه الآية : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } قالت : فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القُبَّة ، وقال : " يأيها الناس ، انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل " .
وهكذا رواه الترمذي ، عن عبد بن حُمَيد وعن نصر بن علي الجَهْضمي ، كلاهما عن مسلم بن إبراهيم ، به . ثم قال : وهذا حديث غريب .
وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه ، من طرق مسلم بن إبراهيم ، به . ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وكذا رواه سعيد بن منصور ، عن الحارث بن عُبَيد أبي قدامة [ الأيادي ]{[10095]} عن الجُرَيري ، عن عبد الله بن شَقِيق ، عن عائشة ، به . {[10096]}
ثم قال الترمذي : وقد روى بعضهم هذا عن الجُرَيري ، عن ابن شقيق قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس . ولم يذكر عائشة .
قلت : هكذا رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن عُلَيَّةَ ، وابن مردويه من طريق وُهَيْب{[10097]} كلاهما عن الجُرَيري ، عن عبد الله بن شقيق مرسلا{[10098]} وقد روى هذا مرسلا عن سعيد بن جبَيْر ومحمد بن كعب القُرَظي ، رواهما ابن جرير{[10099]} والربيع بن أنس رواه ابن مردويه ، ثم قال :
حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن رِشدِين المصري ، حدثنا خالد بن عبد السلام الصَّدفي ، حدثنا الفضل بن المختار ، عن عبد الله{[10100]} بن مَوْهَب ، عن عصمة بن مالك الْخَطمي{[10101]} قال : كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل حتى نزلت : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فترك الحرس . {[10102]}
حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا حمد{[10103]} بن محمد بن حمد أبو نصر الكاتب البغدادي ، حدثنا كُرْدُوس بن محمد الواسطي ، حدثنا معلي بن عبد الرحمن{[10104]} عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان العباس عم رسول الله{[10105]} صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه ، فلما نزلت هذه الآية : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } ترك رسول الله{[10106]} صلى الله عليه وسلم الحرس . {[10107]}
حدثنا علي بن أبي حامد المديني ، حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد ، حدثنا محمد بن مُفَضَّل بن إبراهيم الأشعري ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن معاوية بن عمار ، حدثنا أبي قال : سمعت أبا الزبير المكي يحدث ، عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه ، حتى نزلت : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فذهب ليبعث معه ، فقال : " يا عم ، إن الله قد عصمني ، لا حاجة لي إلى من تبعث " .
وهذا حديث غريب وفيه نكارة{[10108]} فإن هذه الآية مدنية ، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية .
ثم قال : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عبد الحميد الحمَّاني ، عن النضر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ، فكان يرسل معه أبو طالب كل يوم رجالا{[10109]} من بني هاشم يحرسونه ، حتى نزلت عليه هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } قال : فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه ، فقال : " إن الله قد عصمني من الجن والإنس " .
ورواه الطبراني عن يعقوب بن غَيْلان العماني ، عن أبي كريب به . {[10110]}
وهذا أيضا غريب . والصحيح أن هذه الآية مدنية ، بل هي من أواخر ما نزل بها ، والله أعلم .
ومن عصمة الله [ عز وجل ]{[10111]} لرسوله حفْظُه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومُعَانديها ومترفيها ، مع شدة العداوة والبَغْضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارًا ، بما يخلقه الله تعالى من الأسباب العظيمة بقَدَره وحكمته{[10112]} العظيمة . فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب ، إذ كان رئيسًا مطاعًا كبيرًا في قريش ، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية ، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها ، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه ، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرًا ، ثم قيض الله [ عز وجل ]{[10113]} له الأنصار فبايعوه على الإسلام ، وعلى أن يتحول إلى دارهم - وهي المدينة ، فلما صار إليها حَمَوه من الأحمر والأسود ، فكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه ، لما كاده اليهود بالسحر حماه الله منهم ، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء ، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر ، أعلمه{[10114]} الله به وحماه [ الله ]{[10115]} منه ؛ ولهذا أشباه كثيرة جدًا يطول ذكرها ، فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة :
فقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا أبو مَعْشَرٍ ، عن محمد بن كعب القُرَظِي وغيره قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها . فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ؟ فقال : " الله عز وجل " ، فَرُعِدَت يد الأعرابي وسقط السيف منه ، قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ، فأنزل الله عز وجل : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }{[10116]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القَطَّان ، حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثنا موسى بن عبيدة ، حدثني زيد بن أسلم ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار ، نزل ذات الرِّقاع{[10117]} بأعلى نخل ، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه ، فقال غَوْرَث بن الحارث{[10118]} من بني النجار : لأقتلن محمدًا . فقال له أصحابه : كيف تقتله ؟ قال : أقول له : أعطني سيفك . فإذا أعطانيه قتلته به ، قال : فأتاه فقال : يا محمد ، أعطني سيفك أشيمُه . فأعطاه إياه ، فَرُعدت يده حتى سقط السيف من يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حال الله بينك وبين ما تريد " فأنزل الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }
وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقصة " غَوْرَث بن الحارث " مشهورة في الصحيح . {[10119]}
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا آدم ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا{[10120]} رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها ، فينزل تحتها ، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها ، فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد ، من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله يمنعني منك ، ضع السيف " . فوضعه ، فأنزل الله ، عز وجل : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }
وكذا رواه أبو حاتم بن حِبَّان في صحيحه ، عن عبد الله بن محمد ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن المؤمل بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، به . {[10121]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت أبا إسرائيل - يعني الجُشَمي - سمعت جَعْدَة - هو ابن خالد بن الصِّمَّة الجشمي - رضي الله عنه ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورأى رجلا سمينًا ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول : " لو كان هذا في غير هذا لكان خيرًا لك " . قال : وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقال : هذا أراد أن يقتلك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لم تُرَع ، ولم تُرَع ، ولو أردتَ ذلك لم يسلطك{[10122]} الله عليَّ " . {[10123]}
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } أي : بلغ أنت ، والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، كما قال : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ البقرة : 272 ] وقال { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] .
إنّ موضع هذه الآية في هذه السورة معضل ، فإنّ سورة المائدة من آخر السور نزولاً إن لم تكن آخرها نزولاً ، وقد بلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريعة وجميعَ ما أنزل إليه إلى يوم نزولها ، فلو أنّ هذه الآية نزلت في أوّل مدّة البعثة لقلنا هي تثبيت للرسول وتخفيف لأعباء الوحي عنه ، كما أنزل قوله تعالى : { فاصْدَعْ بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنّا كفيناك المستهزئين } [ الحجرات : 94 ، 95 ] وقوله : { إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً إلى قوله { واصبِر على ما يقولون } [ المزمل : 5 10 ] الآيات ، فأمّا وهذه السورة من آخر السور نزولاً وقد أدّى رسول الله الرسالة وأُكْمِل الدّينُ فليس في الحال ما يقتضي أن يؤمر بتبليغ ، فنحن إذنْ بين احتمالين :
أحدهما : أن تكون هذه الآية نزلت بسبب خاصّ اقتضى إعادة تثبيت الرسول على تبليغ شيء ممّا يثقل عليه تبليغه .
وثانيهما : أن تكون هذه الآية نزلت من قبلِ نزول هذه السورة ، وهو الّذي تواطأت عليه أخبار في سبب نزولها .
فأمّا هذا الاحتمال الثّاني فلا ينبغي اعتباره لاقتضائه أن تكون هذه الآية بقيت سنين غير ملحقة بسورة ، ولا جائز أن تكون مقروءة بمفردها ، وبذلك تندحض جميع الأخبار الواردة في أسباب النزول الّتي تَذْكُر حوادث كلَّها حصلت في أزمان قبل زمن نزول هذه السورة . وقد ذكر الفخر عشرة أقوال في ذلك ، وذكر الطبري خبرين آخرين ، فصارت اثني عشر قولاً .
وقال الفخر بعد أن ذكر عشرة الأقوال : إنّ هذه الروايات وإن كثرت فإنّ الأوْلى حمل الآية على أنّ الله آمنَه مكر اليهود والنّصارى ، لأنّ ما قبلها وما بعدها كان كلاماً مع اليهود والنّصارى فامتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين فتكونُ أجنبية عمّا قبلها وما بعدها اهـ . وأمّا ما ورد في الصّحيح أنّ رسول الله كان يُحرَس حتّى نزل { والله يعصمك من النّاس } فلا يدلّ على أنّ جميع هذه الآية نزلت يومئذٍ ، بل اقتصر الراوي على جزء منها ، وهو قوله : { والله يعصمك من النّاس } فلعلّ الّذي حدّثت به عائشة أنّ الله أخبر رسوله بأنّه عصمه من النّاس فلمّا حكاه الراوي حكاه باللّفظ الواقع في هذه الآية .
فتعيّن التعويل على الاحتمال الأوّل : فإمّا أن يكون سبب نزولها قضية ممّا جرى ذكره في هذه السورة ، فهي على وتيرة قوله تعالى : { يأيّها الرسول لا يحزنك الّذي يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] وقوله : { ولا تتّبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } [ المائدة : 49 ] فكما كانت تلك الآية في وصف حال المنافقين تليتْ بهذه الآية لوصف حال أهل الكتاب . والفريقان متظاهران على الرسول صلى الله عليه وسلم فريق مجاهر ، وفريق متستر ، فعاد الخطاب للرسول ثانية بتثبيت قلبه وشرْح صدره بأن يدوم على تبليغ الشريعة ويجهد في ذلك ولا يكترث بالطاعنين من أهل الكتاب والكفّار ، إذ كان نزول هذه السورة في آخر مدّة النّبيء صلى الله عليه وسلم لأنّ الله دائم على عصمته من أعدائه وهم الّذين هوّن أمرهم في قوله :
{ يأيّها الرسول لا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] فهم المعنيّون من { الناس } في هذه الآية ، فالمأمور بتبليغه بعض خاصّ من القرآن .
وقد علم من خُلق النّبيء صلى الله عليه وسلم أنّه يحبّ الرفق في الأمور ويقول : إنّ الله رفيق يحبّ الرفق في الأمر كلّه ( كما جاء في حديث عائشة حين سلَّم اليهود عليه فقالوا : السامُ عليكم ، وقالت عائشة لهم : السامُ عليكم واللّعنة ) ، فلمّا أمره الله أن يقول لأهل الكتاب { وأنّ أكثركَم فاسقون قل هل أنبّئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله مَن لعنه الله وغضب عليه } [ المائدة : 59 ، 60 ] الآية ، وكان ذلك القول مجاهرة لهم بسوءٍ أعلمه الله بأنّ هذا لا رفق فيه فلا يدخل فيما كان يعاملهم به من المجادلة بالّتي هي أحسن ، فتكون هذه الآية مخصّصة لما في حديث عائشة وتدخل في الاستثناء الّذي في قوله تعالى : { لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول إلاّ من ظُلم } [ النساء : 148 ] .
ولذلك أعيد افتتاح الخطاب له بوصف الرسول المشعِر بمنتهى شرفه ، إذ كان واسطة بين الله وخلقه ، والمذكِّر له بالإعراض عمّن سوى من أرسله .
ولهذا الوصف في هذا الخطاب الثّاني موقع زائد على موقعه في الخطَاب الأول ، وهو ما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الكلام الآتي بعده ، وهو قوله : { وإن لم تفعل فما بلّغت رسالاته } ، كما قال تعالى : { ما على الرسول إلاّ البلاغ } [ المائدة : 99 ] .
فكما ثبّت جَنَانُه بالخطاب الأوّل أن لا يهتمّ بمكائد أعدائه ، حُذّر بالخطاب الثّاني من ملاينتهم في إبلاغهم قوارع القرآن ، أو من خشيته إعراضهم عنه إذا أنزل من القرآن في شأنهم ، إذ لعلّه يزيدهم عناداً وكفراً ، كما دلّ عليه قوله في آخر هذه الآية { وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين } [ المائدة : 68 ] .
ثم عُقّب ذلك أيضاً بتثبيت جنانه بأن لا يهتمّ بكيدهم بقوله : { والله يعصمك من النّاس } وأنّ كيدهم مصروف عنه بقوله : { إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين } . فحصل بآخر هذا الخطاب ردّ العجز على الصدر في الخطاب الأوّل الّتي تضمّنه قوله : { لا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] فإنّهم هم القوم الكافرون والّذين يسارعون في الكفر . فالتّبليغ المأمور به على هذا الوجه تبليغُ ما أنزل من القرآن في تقريع أهل الكتاب . وما صدق { ما أنزل إليك من ربّك } شيء معهود من آي القرآن ، وهي الآي المتقدّمة على هذه الآية . وما صدقُ { ما أنزل إليك من ربّك } هو كلّ ما نزل من القرآن قبل ذلك اليوم .
والتّبليغ جعل الشيء بالغاً . والبلوغ الوصول إلى المكان المطلوب وصوله ، وهو هنا مجاز في حكاية الرّسالة للمرسل بها إليه من قولهم : بَلَغ الخبر وبلغَت الحاجة . والأمر بالتّبليغ مستعمل في طلب الدّوام ، كقوله تعالى : { يأيّها الّذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله } [ النساء : 136 ] . ولمّا كان نزول الشريعة مقصوداً به عمل الأمّة بها ( سواء كان النّازل متعلّقاً بعمل أم كان بغير عمل ، كالّذي ينزل ببيان أحوال المنافقين أو فضائل المؤمنين أو في القصص ونحوها ، لأنّ ذلك كلّه إنّما نزل لفوائد يتعيّن العلم بها لحصول الأغراض الّتي نزلت لأجلها ، على أنّ للقرآن خصوصية أخرى وهي ما له من الإعجاز ، وأنّه متعبَّد بتلاوته ، فالحاجة إلى جميع ما ينزل منه ثابتة بقطع النّظر عمّا يحويه من الأحكام وما به من مواعظ وعبر ) ، كان معنى الرّسالة إبلاغ ما أنزل إلى مَن يراد علمه به وهو الأمّة كلّها ، ولأجل هذا حذف متعلِّق { بلِّغ } لقصد العموم ، أي بلّغ ما أنزل إليك جميع من يحتاج إلى معرفته ، وهو جميع الأمّة ، إذ لا يُدرى وقت ظهور حاجة بعض الأمّة إلى بعض الأحكام ، على أنّ كثيراً من الأحكام يحتاجها جميع الأمّة .
والتّبليغ يحصل بما يكفل للمحتاج إلى معرفة حكممٍ تَمكُّنَه من معرفته في وقت الحاجة أو قبله ، لذلك كان الرسول عليه الصّلاة والسّلام يقرأ القرآن على النّاس عند نزول الآية ويأمر بحفظها عن ظهر قلب وبكتابتها ، ويأمر النّاس بقراءته وبالاستماع إليه . وقد أرسل مصعباً بن عُمير إلى المدينة قبل هجرته ليعلّم الأنصار القرآن . وكان أيضاً يأمر السامع مقالتَه بإبلاغها مَن لم يسمعها ، ممّا يكفل ببلوغ الشّريعة كلّها للأجيال من الأمّة . ومن أجل ذلك كان الخلفاء مِن بعدِه يعطون النّاس العطاءَ على قدر ما معهم من القرآن . ومن أجل ذلك أمر أبو بكر بكتابة القرآن في المصحف بإجماع الصّحابة ، وأكمل تلك المزيّة عثمان بن عفّان بانتساخ القرآن في المصاحف وإرسالها إلى أمصار الإسلام ، وقد كان رسول الله عيَّن لأهل الصّفَّة الانقطاع لحفظ القرآن .
والّذي ظهر من تتبّع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه كان يبادر بإبلاغ القرآن عند نزوله ، فإذا نزل عليه ليلاً أخبر به عند صلاة الصّبح . وفي حديث عمر ، قال رسول الله : " لقد أنزِلت عليّ اللّيلة سورة لَهِي أحبّ إليّ ممّا طلعتْ عليه الشّمس " ثمّ قرأ : { إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً } [ الفتح : 1 ] . وفي حديث كعب بن مالك في تخلّفه عن غزوة تبوك « فأنزل الله توبتنا على نبيّه حين بقي الثلثُ الآخر من اللّيل ورسُولُ الله عند أمّ سلمة ، فقال : يأمّ سلمة تِيب على كعب بن مالك ، قالت : أفَلا أرْسِلُ إليه فأبشِّرَهُ ، قال : « إذاً يَحطمُكم النّاسُ فيمنعونَكم النّومَ سائر اللَّيلة .
حتّى إذا صلّى رسول الله صلاة الفجر آذَنَ بتوبة الله علينا » . وفي حديث ابن عبّاس : أنّ رسول الله نزلت عليه سورة الأنعام جملة واحدة بمكّة ودعا رسول الله الكتَّاب فكتبوها من ليلتهم .
وفي الإتيان بضمير المخاطب في قوله : { إليك من ربّك } إيماء عظيم إلى تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم بمرتبة الوساطة بين الله والنّاس ، إذ جَعل الإنزال إليه ولم يقل إليكم أو إليهم ، كما قال في آية [ آل عمران : 199 ] { وإنّ من أهل الكتاب لَمَنْ يؤمن بالله وما أنزل إليكم } وقوله : { لتُبيّن للنّاس ما نُزّل إليهم } [ النحا : 44 ] . وفي تعليق الإنزال بأنّه من الرّب تشريف للمنزّل .
والإتيان بلفظ الرّب هنا دون اسم الجلالة لما في التذكير بأنّه ربّه من معنى كرامته ، ومن معنى أداء ما أراد إبلاغه ، كما ينبغي من التعجيل والإشاعة والحثّ على تناوله والعمل بما فيه .
وعلى جميع الوجوه المتقدّمة دلّت الآية على أنّ الرسول مأمور بتبليغ ما أنزل إليه كلِّه ، بحيث لا يتوهّم أحد أنّ رسول الله قد أبقى شيئاً من الوحي لم يبلِّغه . لأنّه لو ترك شيئاً منه لم يبلّغه لكان ذلك ممّا أنزل إليه ولم يَقَع تبليغه ، وإذ قد كانت هذه الآية من آخر ما نَزَل من القرآن علمنا أنّ من أهمّ مقاصدها أنّ الله أراد قطْع تخرّص من قد يزعمون أنّ الرسول قد استبقى شيئاً لم يبلِّغه ، أو أنّه قد خصّ بعض النّاس بإبلاغ شيء من الوحي لم يبلِّغه للنّاس عامّة . فهي أقطع آية لإبطال قول الرافضة بأنّ القرآن آكثرُ ممّا هو في المصحف الّذي جمَعه أبو بكر ونسخَه عثمان ، وأنّ رسول الله اختصّ بكثير من القرآن عليّاً بن أبي طالب وأنّه أورثه أبناءه وأنّه يبلُغ وقرَ بعير ، وأنّه اليوم مختزن عند الإمام المعصوم الّذي يلقّبه بعض الشيعة بالمهدي المنتظر وبالوصيّ .
وكانت هذه الأوهام ألَمَّتْ بأنفس بعض المتشيّعين إلى عليّ رضي الله عنه في مدّة حياته ، فدعا ذلك بعض النّاس إلى سؤاله عن ذلك . روى البخاري أنّ أبا جُحَيْفة سأل عليّاً : هل عندكم شيء ما ليس في القرآن وما ليس عند النّاس ، فقال : « لا والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ما عندنا إلاّ ما في القرآن إلاّ فهما يُعطَى رجل في كتاب الله وما في الصحيفة ، قلت : وما في الصّحيفة ، قال : العقل ، وفَكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر » . وحديث مسروق عن عائشة الّذي سنذكره ينبىءُ بأنّ هذا الهاجس قد ظهر بين العامّة في زمانها . وقد يخُصّ الرّسولُ بعض النّاس ببيان شيء من الأحكام ليس من القرآن المنزّل إليه لحاجة دعت إلى تخصيصه ، كما كَتب إلى عليّ ببيان العَقْل ، وفَكَاك الأسير ، وأن لا يُقتل مسلم بكافر ، لأنّه كان يومئذٍ قاضياً باليمن ، وكما كتب إلى عمرو بن حزم كتاب نصاب الزّكاة لأنّه كان بعثه لذلك ، فذلك لا ينافي الأمر بالتّبليغ لأنّ ذلك بيان لما أنزل وليس عين ما أنزل ، ولأنّه لم يقصد منه تخصيصه بعلمه ، بل قد يخبر به من تدعو الحاجة إلى علمه به ، ولأنّه لمّا أمَرَ مَنْ سَمِع مقالته بأن يَعيها ويؤيّديها كمَا سمعها ، وأمَر أن يبلِّغ الشّاهدُ الغائبَ ، حصل المقصود من التّبليغ ؛ فأمّا أن يدع شيئاً من الوحي خاصّاً بأحد وأن يكتمه المودع عنده عن النّاس فمعاذَ الله من ذلك .
وقد يَخُصّ أحداً بعلم ليس ممّا يرجع إلى أمور التّشريع ، من سرّ يلقيه إلى بعض أصحابه ، كما أسرّ إلى فاطمة رضي الله عنْها بأنّه يموت يومئذٍ وبأنّها أوّلُ أهله لحاقاً به . وأسرّ إلى أبي بكر رضي الله عنه بأنّ الله أذِنَ له في الهجرة . وأسرّ إلى حذيفة خبر فتنة الخارجين على عثمان ، كما حدّث حذيفةُ بذلك عمرَ بن الخطّاب . وما روي عن أبي هريرة أنّه قال : حَفِظت من رسول الله وِعائيْن ، أمّا أحدهما فبثثته ، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع منّي هذا البلعوم .
ومن أجل ذلك جزمنا بأن الكتاب الّذي هَمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابته للنّاس ، وهو في مرض وفاته ، ثمّ أعرض عنه ، لم يكن فيما يرجع إلى التشريع لأنّه لو كان كذلك لمَا أعرض عنه والله يقول له : { بَلّغْ ما أنزِل إليك من ربّك } . روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت لمَسْروق : « ثلاث من حدّثك بهن فقد كذبَ ، من حدّثك أنّ محمّداً كتم شيئاً ممّا أنزل عليه فقد كذَب ، والله يقول : { يأيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فمّا بلغت رسالاته } الحديث .
وقوله : { وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته } جاء الشّرط بإنْ الّتي شأنها في كلام العرب عدم اليقين بوقوع الشرط ، لأنّ عدم التّبليغ غيرُ مظنون بمحمدّ صلى الله عليه وسلم وإنّما فُرض هذا الشّرط ليبني عليه الجوابُ ، وهو قوله : { فمَا بَلَّغْتَ رسالاته } ، ليستفيق الّذين يرجون أن يسكت رسول الله عن قراءة القرآن النّازل بفضائحهم من اليهود والمنافقين ، وليبكت من علم الله أنّهم سيفترون ، فيزعمون أنّ قُرآناً كثيراً لم يبلّغه رسول الله الأمَّةَ .
ومعنى { لم تفعل } لم تفعل ذلك ، وهو تبليغ ما أنزل إليك . وهذا حذف شائع في كلامهم ، فيقولون : فإن فعلت ، أو فإن لم تَفعل . قال تعالى : { ولا تَدْعُ من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك فإن فَعَلْتَ فإنّك إذاً من الظّالمين } [ يونس : 106 ] أي إن دعوتَ ما لا ينفعك ، يَحذفون مفعول فعلتَ ولم تَفْعَل لدلالة ما تقدّم عليه ، وقال تعالى : { فإن لم تَفْعَلوا ولن تفعلوا } في سورة [ البقرة : 24 ] . وهذا ممّا جرى مجرى المثل فلا يتصرّف فيه إلاّ قليلاً ولم يتعرّض له أيمّة الاستعمال .
ومعنى تَرَتّب هذا الجواب على هذا الشّرط أنّك إنْ لم تُبلّغ جميع ما أنزل إليك فتركت بعضه كنت لم تبلّغ الرّسالة ، لأنّ كتم البعض مثل كتمان الجميع في الاتّصاف بعدم التّبليغ ، ولأنّ المكتوم لا يدري أن يكون في كتمانه ذهاب بعض فوائد ما وقع تبليغه ، وقد ظهر التّغاير بين الشّرط وجوابه بما يدفع الاحتياج إلى تأويل بناء الجواب على الشّرط ، إذ تقدير الشّرط : إنْ لم تبلّغ مَا أنزل ، والجزاءُ ، لم تُبلّغ الرّسالة ، وذلك كافٍ في صحّة بناءِ الجواب على الشرط بدون حاجة إلى ما تأوّلوه ممّا في > وغيره . ثمّ يعلم من هذا الشّرط أنّ تلك منزلة لا تليق بالرسل ، فينتج ذلك أنّ الرسول لا يكتم شيئاً ممّا أرسل به . وتظهر فائدة افتتاح الخطاب ب { يأيّها الرسول } للإيماء إلى وجه بناء الخبر الآتي بعده ، وفائدة اختتامه بقوله : { فما بلّغتَ رسالته } .
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر ، وأبو جعفر { رسَالاته } بصيغة الجمع . وقرأه الباقون { رِسالته } بالإفراد . والمقصود الجنس فهو في سياق النّفي سواء مفرده وجمعهُ . ولا صحّة لقول بعض علماء المعاني استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع ، وأنّ نحو : لا رجال في الدار ، صادق بما إذا كان فيها رجلان أو رجل واحد ، بخلاف نحو لا رجُلَ في الدّار . ويظهر أنّ قراءة الجمع أصرح لأنّ لفظ الجمع المضاف من صيغ العموم لا يحتمل العهد بخلاف المفرد المضاف فإنّه يحتمل الجنس والعهد ، ولا شكّ أن نفي اللّفظ الّذي لا يحتمل العهد أنصّ في عموم النّفي لكن القرينة بيّنت المراد .
وقوله : { والله يعصمك من النّاس } افتتح باسم الجلالة للاهتمام به لأنّ المخاطب والسّامعين يترقّبون عقب الأمر بتبليغ كلّ ما أنزل إليه ، أن يلاقي عنتاً وتكالباً عليه من أعدائه فافتتح تطمينه بذكر اسم الله ، لأنّ المعنى أنّ هذا ما عليك . فأمّا ما علينا فالله يعصمك ، فموقع تقديم اسم الجلالة هنا مغن عن الإتيان بأمَّا . على أنّ الشيخ عبد القاهر قد ذكر في أبواب التّقديم من « دلائل الإعجاز » أنّ ممَّا يحسن فيه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي ويكثرُ ؛ الوعدُ والضّمانُ ، لأنّ ذلك ينفي أن يشكّ من يُوعَد في تمام الوعد والوفاءِ به فهو من أحوج النّاس إلى التّأكيد ، كقول الرّجل : أنا أكفيك ، أنا أقوم بهذا الأمر آهـ . ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف { وأنَا به زعيم } [ يوسف : 72 ] . فقوله : { والله يعصمك من النّاس فيه هذا المعنى أيضاً . والعصمة هنا الحفظ والوقاية من كيد أعدائه .
{ والنّاس } في الآية مراد به الكفّار من اليهود والمنافقين والمشركين ، لأنّ العصمة بمعنى الوقاية تؤذن بخوف عليه ، وإنّما يَخاف عليه أعداءَه لا أحبّاءه ، وليس في المؤمنين عدوّ لرسوله . فالمراد العصمة من اغتيال المشركين ، لأنّ ذلك هو الّذي كان يهمّ النّبيء صلى الله عليه وسلم إذ لو حصل ذلك لتعطّل الهدي الّذي كان يحبّه النّبيء للنّاس ، إذ كان حريصاً على هدايتهم ، ولذلك كان رسول الله ، لمّا عرض نفسه على القبائل في أوّل بعثته ، يقول لهم « أنْ تمنعوني حتّى أبيّنَ عنِ الله ما بعثني به أو حتّى أبلِّغ رسالات ربّي » فأمّا ما دون ذلك من أذى وإضرار فذلك ممّا نال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون ممّن أوذي في الله : فقد رماه المشركون بالحجارة حتّى أدْموه وقد شُجّ وجهه . وهذه العصمة الّتي وُعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكرّر وعدُه بها في القرآن كقوله : { فسيكفيكهم الله } [ البقرة : 137 ] . وفي غير القرآن ، فقد جاء في بعض الآثار أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر وهو بمكّة أنّ الله عَصمه من المشركين . وجاء في الصّحيح عن عائشة أنّ رسول الله كان يُحرس في المدينة ، وأنّه حَرَسه ذَاتَ ليلة سعدُ بن أبي وقّاص وحذيفة وأنّ رسول الله أخرَج رأسهُ من قُبّة وقال لهم : « الحَقُوا بملاحقكم فإنّ الله عصمني » ، وأنّه قال في غزوة ذات الرقاع سنة ستّ للأعرابي غَوْرَثٍ بنِ الحارث الّذي وجد رسول الله نائماً في ظلّ شجرة ووجد سيفَه معلّقاً فاخترطه وقال للرسول : مَن يمنعك منّي ، فقال : اللّهُ ، فسقَط السيف من يد الأعرابي . وكلّ ذلك كان قبل زمن نزول هذه الآية . والَّذين جعلوا بعض ذلك سبباً لنزول هذه الآية قد خلطوا . فهذه الآية تثبيت للوعد وإدامة له وأنّه لا يتغيّر مع تغيّر صنوف الأعداء .
ثمّ أعقبه بقوله : { إنّ الله لا يهدي القوْمَ الكافرين } ليتبيّن أنّ المراد بالنّاس كفّارهم ، وليؤمي إلى أنّ سبب عدم هدايتهم هو كفرهم . والمراد بالهداية هنا تسديد أعمالهم وإتمام مرادهم ، فهو وعد لرسوله بأنّ أعداءه لا يزالون مخذولين لا يهتدون سبيلاً لكيدِ الرّسول والمؤمنين لطفاً منه تعالى ، وليس المراد الهداية في الدّين لأنّ السياق غير صالح له .