فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (67)

{ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين 67 } .

قلت : أما زيادة كونها في النار إلا واحدة فقد ضعفها جماعة من المحدثين بل قال ابن حزم إنها موضوعة .

{ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } العموم الكائن في : ما أنزل يفيد أنه يجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ جميع ما أنزله الله عليه لا يكتم منه شيئا ، وفيه دليل على أنه لم يسر إلى أحد مما يتعلق بما أنزله الله شيئا ، ولهذا ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب ) .

وفي صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال : قلت لعلي بن أبي طالب هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن فقال : ( لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة ، قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل{[652]} وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر ) .

{ وإن لم تفعل } ما أمرت به من تبليغ الجميع بل كتمت ولو بعضا من ذلك خوفا من أن تنال بمكروه { فما بلغت } قرأ أهل الكوفة { رسالته } بالتوحيد ، وقرأ أهل المدينة وأهل الشام { رسالاته } على الجمع ، قال النحاس : والجمع أبين لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئا فشيئا ثم يبينه اه .

وفيه نظر فإن نفي التبليغ عن الرسالة الواحدة أبلغ من نفيه عن الرسالات كما ذكره علماء البيان على خلاف في ذلك ، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمته ما نزل إليه وقال لهم في غير موطن هل بلغت ؟ فيشهدون له بالبيان ، فجزاه الله عن أمته خيرا ، وحاشاه أن يكتم شيئا مما أوحي إليه .

عن أبي سعيد الخذري قال : نزلت هذه الآية يوم غدير خم في علي بن أبي طالب ، وعن ابن مسعود قال كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك إن عليا مولى المؤمنين{[653]} وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إن الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعا وعرفت أن الناس مكذبي فوعدني لأبلغن أو ليعذبني فأنزلت يا أيها الرسول الآية .

{ والله يعصمك من الناس } إن الله سبحانه وعده بالعصمة من الناس ودفعا لما يظن أنه حامل على كتم البيان ، وهو خوف لحوق الضرر من الناس وقد كان ذلك بحمد الله فإنه بين لعباد الله ما نزل إليهم على وجه التمام ، ثم حمل من أبى من الدخول في الدين على الدخول فيه طوعا أو كرها ، وقتل صناديد الشرك وفرق جموعهم وبدد شملهم ، وكانت كلمة الله هي العليا ، وأسلم كل من نازعه ممن لم يسبق فيه السيف العذل حتى قال يوم الفتح لصناديد قريش وأكابرهم ما تظنون أني فاعل بكم ؟ فقالوا : أخ كريم وابن أخ كريم ، فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء .

وهكذا من سبقت له العناية من علماء هذه الأمة يعصمه الله من الناس إن قام ببيان حجج الله وإيضاح براهينه ، وصرخ بين ظهراني من ضاد الله وعانده ومن لم يمثل لشرعه كطوائف المبتدعة وقد رأينا من هذا في أنفسنا وسمعنا منه في غيرنا ما يزيد المؤمن إيمانا وصلابة في دين الله وشدة شكيمة في القيام بحجة الله ، وكل ما يظنه متزلزلو الأقدام ومضطربو القلوب من نزول الضرر بهم وحصول المحن عليهم ، فهي خيالات مختلة وتوهمات باطلة .

فإن كل محنة في الظاهر هي محنة في الحقيقة ، لأنها لا تأتي إلا بخير في الأولى والأخرى { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } وقصة غورث بن الحرث ثابتة في الصحيح وهي معروفة مشهورة كما تقدم{[654]} .

فإن قلت أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته يوم أحد وقد أوذي بضروب من الأذى ، فكيف يجمع بين ذلك وبين هذه الآية .

قلت المراد أنه يعصمه من القتل فلا يقدر عليه أحد ويدل له الحديث جابر في الصحيحين وفيه فقال : إن هذا اخترط على سيفي ، إلى قوله ، فقال : من يمنعك مني ؟ فقلت الله ، ثلاثا ، وقيل : إن هذه الآية نزلت بعد ما شج رأسه في يوم أحد ، لأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت فقال : انصرفوا فقد عصمني الله ، رواه الحاكم بطوله .

{ إن الله لا يهدي القوم الكافرين } جملة متضمنة لتعليل ما سبق من العصمة أي : إن الله لا يجعل لهم سبيلا إلى الاضرار لك فلا تخف وبلغ ما أمرت بتبليغه ، وقال ابن عباس : لا يرشد من كذبك وأعرض عنك ، وقال ابن جرير الطبري : المعنى أن الله لا يرشد من حاد عن سبيل الحق وجار عن قصد السبيل وجحد ما جئت به من عند الله ولم ينته فيما فرض عليه وأوجبه .


[652]:أي الدية يعني بيان مقادير الديات.
[653]:هذا والذي قبله من دسائس الشيعة ليت المؤلف أراحنا منه.
[654]:راجع ص 463 ج 2.