تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (67)

وقوله تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } هذا ، والله أعلم ، وذلك أن أهل الكفر كانوا على طبقات ثلاث : منهم من يقول : لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ، وقولهم : { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا } [ فصلت : 26 ] ، ومنهم من كان يخوفه ، ويمكر به ، ليقتلوه كقوله تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } الآية [ الأنفال : 30 ] ، ومنهم من كان يعرض عليه النساء والقصور ليترك ذلك ، وألا يدعوهم إلى دينه الذي هو عليه .

كانوا على الوجوه التي ذكرنا ، فأمر الله عز وجل أن يقوم على تبليغ رسالته ، وألا يمنعه ما يخشى من مكرهم وكيدهم على قتله . لأن المرء قد يمتنع عن القيام بما عليه إذا كذب في القوم ، ولحقه أذى بذلك . فأمر الله عز وجل نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] بتبليغ ما أنزل إليه ، وإن خشي على نفسه الهلاك أو التكذيب في القول والأذى وترك طلب الموالاة . أي لا يمنعك شيء من ذلك من تبليغ ما أنزل إليك .

أو أن يكون الأمر بتبليغ الرسالة في حادث الوقت أن تبلغ ما أنزل إليك من البيان كما بلغت تنزيلا ، وهو كقوله تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } [ إبراهيم : 4 ] أخبر عز وجل أنه إنما [ أرسل ] الرسل على لسان قومهم ليبينوا لهم . فعلى ذلك هذا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } أي وإن [ لم ] تبلغ ما أنزل لما تخشى من الهلاك والمكر بك فكأنك لم تبلغ الرسالة رأسا . لم يعذب نبيه صلى الله عليه وسلم في ترك تبليغ الرسالة . وإن خاف على نفسه الهلاك ، ليس كمن أكره على الكفر أبيح له أن يتكلم بكلام الكفر بعد أن يكون قلبه مطمئنا بالإيمان إذا خاف الهلاك على نفسه . ولم يبح له ترك تبليغ الرسالة ، وإن خشي على نفسه الهلاك .

ذلك ، والله أعلم ، أن تبليغ الرسالة يتعلق باللسان دون القلب ، والإيمان تعلقه بالقلب دون اللسان . فإذا أكره على الكفر أبيح له التكلم به بعد أن يكون القلب على حاله مطمئنا بالإيمان .

وأما الرسالة فلا سبيل أن يبلغها إلا باللسان . لذلك لم يبح له تركها ، وإن خاف الهلاك . ولهذا يدل قولنا في المكره بالطلاق والعتاق : إنه إذا تكلم به عمل لتعلقهما باللسان دون القلب . فالإكراه لا يمنع نفاذ ما تعلق باللسان دون القلب الرسالة التي ذكرنا ، والله أعلم .

ويحتمل قوله تعالى : { وإن لم تفعل } أي لم تبلغ الرسالة في حادث فكأن لم تبلغ في ما مضى أو إن لم تبلغ البيان كما بلغت التنزيل في ما بلغت الرسالة ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } دليل إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم لأنه عز وجل أخبر أنه عصمه من الناس ، فكان ما قال ، فدل أنه علم ذلك بالله . وكذلك في قوله تعالى : { من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون } [ هود : 55 ] كأن يقول بين ظهراني الكفرة : كيدوني جميعا ، ثم لم يلحقه من كيدهم شيء . دل أنه كان بالله تعالى [ معتصما ] .

وعن عائشة رضي الله عنها [ أنها قالت ] : كان النبي صلى الله عليه وسلم [ يحرسه أصحابه ] . فلما نزل قوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } قال : «انصرفوا إلى منازلكم فإن الله عصمني من الناس » [ القرطبي : 6/180 ] فانصرفوا .

ويحتمل قوله تعالى : { بلغ ما أنزل إليك من ربك } أي بلغ ما أنزل إليك من الآيات والحجج والبراهين التي جعلها الله أعلاما لرسالتك وآثارا لنبوتك ، ليلزمهم الحجة بذلك ، والله أعلم .