لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (67)

قوله عز وجل : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } الآية روي عن الحسن أن الله تعالى لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاق ذرعاً وعرف أن من الناس من يكذبه ، فأنزل هذه الآية . وقيل : نزلت في عيب اليهود وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام فقالوا : أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزئون به ويقولون : تريد أن نتخذك حناناً كما اتخذت النصارى عيسى حناناً ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منهم ، سكت ، فأنزل الله هذه الآية وأمره بأن يقول لهم : { يا أهل الكتاب لستم على شيء } . الآية .

وقيل : نزلت هذه الآية في أمر الجهاد وذلك أن المنافقين كرهوا فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك في بعض الأحايين عن الحث على الجهاد لما علم من كراهية بعضهم له فأنزل الله هذه الآية .

وقيل : نزلت في قصة الرجم والقصاص وما سأل عنه اليهود ومعنى الآية يا أيها الرسول بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك مجاهراً به ولا تراقبن أحداً ولا نترك شيئاً مما أنزل إليك من ربك وإن أخفيت شيئاً من ذلك في وقت من الأوقات فلما بلغت رسالته وهو قوله تعالى { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } وقرئ رسالاته قال ابن عباس : يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالتي يعني أنه صلى الله عليه وسلم لو ترك إبلاغ البعض كان كمن لم يبلغ شيئاً مما أنزل الله إليه وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتم شيئاً مما أوحي إليه . روى مسروق عن عائشة قالت من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أنزل إليه فقد كذب ؟ ثم قرأت { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } أخرجاه في الصحيحين بزيادة فيه .

وقوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } يعني يحفظك يا محمد ويمنعك منهم والمراد بالناس هنا الكفار فإن قلت أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته يوم أحد وقد أوذي بضروب من الأذى فكيف يجمع بين ذلك وبين قوله والله يعصمك من الناس .

قلت : المراد منه أنه يعصمه من القتل فلا يقدر عليه أحد أراده بالقتل ويدل على صحة ذلك ما روي " عن جابر أنه غزى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه ونمنا معه نومة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا ، وإذا عنده أعرابي فقال : " إن هذا اخترط عليَّ سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً . فقال : من يمنعك مني ؟ فقلت : الله ثلاثاً ولم يعاقبه وجلس " .

وفي رواية أخرى " قال جابر كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة فاخترطه فقال تخافني ؟ . فقال : لا . فقال من يمنعك مني ؟ قال : الله فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : " سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال : ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة قال : فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة السلاح فقال من هذا ؟ قال سعد بن أبي وقاص : فقال له رسول الله ما جاء بك ؟ فقال : وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام " وعن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلاً حتى نزلت { والله يعصمك من الناس } فأخرج رسول الله من القبة فقال لهم أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله " أخرجه الترمذي . وقال : حديث غريب . وقيل في الجواب عن هذا : إن هذه الآية نزلت بعد ما شج رأسه في يوم أحد لأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً وقوله { إن الله لا يهدي القوم الكافرين } قال ابن عباس : معناه لا يرشد من كذبك وأعرض عنك . وقال ابن جرير الطبري : معناه إن الله لا يوفق للرشد من حاد عن سبيل الحق وجار عن قصد السبيل وجحد ما جئت به من عند الله ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه .

قوله تعالى :{ قل يا أهل الكتاب لستم على شيء } يعني : قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى لستم على شيء من الدين الحق المرتضى عند الله ولستم على شيء مما تدعون أنكم عليه مما جاءكم به موسى عليه السلام يا معشر اليهود ولا مما جاءكم به عيسى يا معشر النصارى فإنكم أحدثتم وغيرّتم .

قال ابن عباس : " جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف وراتع بن حرملة . قالوا يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها حق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بلى " ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيه ما أخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس فأنا برئ من إحداثكم " قالوا : فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الحق والهدى ولا نؤمن لك ولا نتبعك فأنزل الله : { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم } .