وبعد أن حكى الله - تعالى - في الآيات السابقة ما كان عليه أعداء الإِسلام - وخصوصاً اليهود - من محاولات لفتنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن دسائس حاكوها لعرقلة سير الدعوة الإِسلامية ، ومن استهزاء بتعاليم الإِسلام ومن حقد على المؤمنين لإِيمانهم برسل الله وكتبه ومن سوء أدب مع خالقهم ورازقهم . بعد أن حكى - سبحانه - كل ذلك ، أتبعه بتوجيه نداء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أمره فيه بأن يمضي في تبليغ رسالته إلى الناس دون أن يلتفت إلى مكر الماكرين ، أو حقد الحاقدين . فإنه - سبحانه - قد حماه وعصمه منهم فقال :
{ ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ . . . }
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآيى روايات منها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى أنمار ، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل . فبينما هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه ، فقال الحارث من بني النجار : لأقتلن محمدا فقال له أصحابه : كيف تقتله ؟ قال : أقول له أعطني سيفك ، فإذا أعطانيه قتلته به . قال : فأتاه فقال يا محمد . أعطني سيفك أشيمه - أي أراه - فأعطاه إياه - فرعدت يده حتى سقط السيف من يده : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حال الله بينك وبين ما تريد .
فأنزل الله - تعالى - { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } . . الآية .
قال الفخر الرازي - بعد أن ذكر عشرة أقوال في سبب نزولها - واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت إلا أن الأولى حمل الآية على أن الله - تعالى - آمنه من مكر اليهود والنصارى ، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم ، وذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لما كان كلاما مع اليهود والنصارى ، امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها .
وهذا الذي قاله الإِمام الرازي هو الذي تسكن إليه النفس أي أن الآية الكريمة ساقها الله - تعالى - لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتقويه قلبه وأمره بالمضي في تبليغ رسالته بدون خوف من أعدائه الذين حدثه عن مكرهم به وكراهتهم له ، حديثا مستفيضاً ، وقد بشره - سبحانه - في هذه الآية بأنه حافظه من مكرهم وعاصمه من كيدهم .
وقوله : { بلغ } من التبليغ بمعنى : إيصال الشيء إلى المطلوب إيصاله إليه .
والمعنى : { ياأيها الرسول } الكريم المرسل إلى الناس جميعا { بلغ } أي : أوصل إليهم { مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } أي : كل ما أنزل إلأيك من ربك من الأوامر والنواهي والأحكام والآداب والأخبار دون أن تخشى أحداً إلا الله . { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } ما أمرت به من إيصال وتبليغ جميع ما أنزل إليك من ربك إلى الناس { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي : وإن لم تبلغ كل ما أنزل إليك من ربك كنت كمن لم يبلغ شيئاً مما أوحاه الله إليه ، لأن ترك بعض الرسالة يعتبر تركا لها كلها .
وقد عبر عن هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله : قوله : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } أي : وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي : فلم تبلغ إذا ما كلفت به من أداء الرسالة ، ولم تؤد منها شيئاً قط ، وذلك ن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض وإن لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً ، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها ، لإِدلاء كل منها بما يدلي به غيرها ، وكونها لذلك في حكم شيء واحد .
والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ ؛ مؤمنا به غير مؤمن به .
وفي ندائه صلى الله عليه وسلم بوصف الرسالة تشريف له وتكريم وتمهيد لما يأمره به الله من وجوب تبليغ ما كلف بتبليغه إلى الناس دون أن يخشى أحداً سواه .
لأن الله - تعالى - هو الذي خلقه ورباه وتعهده بالرعاية والحماية . وهو الذي اختاره لحمل هذه الرسالة دون غيره ؛ فمن الواجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ جميع ما أنزل إليه منه - سبحانه - .
قال الجمل : وقوله : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } ظاهر هذا التركيب اتحاد الشرط والجزاء ، لأنه يؤول ظاهراً إلى وإن لم تفعل فما فعلت ، مع أنه لا بد وأن يكون الجواب مغايراً للشرط لتحصل الفائدة ومتى اتحدا اختل الكلام .
وقد أجاب عن ذلك ابن عطية بقوله أي : وإن تركت شيئاً فقد تركت الكل وصار ما بلغته غير معتد به فصار المعنى : وإن لم تستوف ما أمرت بتبليغه فحكمك في العصيان وعدم الامتثال حكم من لم يبلغ شيئا أصلا .
وقال صاحب الانتصاف ما ملخصه : ولما كان عدم تبليغ الرسالة أمرا معلوماً عند الناس أنه عظيم شنيع ، ينقم على مرتكبه بل إن عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع ، فضلا عن كتمان الرسالة من الرسول . لما كان الأمر كذلك استغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء ، للصوقها بالجزاء في الأفهام وإن كان من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد ، وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز يذكر الشرط عاماً بقوله : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } ولم يقل : فإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة ، حتى يكون اللفظ متغايراً ، وهذه المغايرة اللفظية - وإن كان المعنى واحداً - أحسن رونقاً ، وأظهر طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء ، وهذا الفصل كاللباب من علم البيان .
هذا ، ومن المعلوم الذي لاخفاء فيه عند كل مسلم ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أمره الله به البلاغ التام ، وقام به أتم القيام دون أن يزيد شيئاً على ما كلفه به ربه أو ينقص شيئاً .
وقد ساق ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من النصوص التي تشهد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد امتثل أمر الله في تبليغ رسالته ، ومن ذلك ما رواه الشيخان عن عائشة أنها قالت لمسروق : من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيائً مما أنزل الله عليه فقد كذب .
والله يقول : { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } . . الآية .
ثم قال : ابن كثير : وقد شهدت له صلى الله عليه وسلم أمته بإبلاغ الرسالة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع . فقد قال في خطبته يومئذ : " أيها الناس ، إنكم مسئولون عنى فماذا أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت " .
وقوله : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } وعد منه - سبحانه - بحفظ نبيه من كيد أعدائه .
وقوله : { يَعْصِمُكَ } من العصم بمعنى الإِمساك والمنع . وأصله - كما يقول ابن جرير - من عصام القربة ، وهو ما تربط به من سير وخيط ومنه قول الشاعر :
وقلت عليكم بمالك إن مالكا . . . سيعصمك إن كان في الناس عاصم
والمعنى : عليك يا محمد أن تبلغ رسالة الله دون أن تخشى أحدا سواه ، والله - تعالى - بحفظك من كيد أعدائك ويمنعك من أن تعلق نفسك بشيء من شبهاتهم واعتراضاتهم ويصون حياتك عن أن يعتدي عليها أحد بالقتل أو الإِهلاك :
فالمراد بالعصمة هنا : عصمة نفسه وجسمه صلى الله عليه وسلم من القتل أو الإِهلاك ، وعصمة دعوته من أن يحول دون نجاحها حائل . وهذا لا ينافي ما تعرض له صلى الله عليه وسلم من بأساء وضراء وأذى بدني ، فقد رماه المشركون بالحجارة حتى سالت دماؤه ، وشج وجهه وكسرت رباعيته في غزوة أحد .
والمراد بالناس هنا : المشركون والمنافقون واليهود ومن على شاكلتهم في الكفر والضلال والعناد ، إذ ليس في المؤمنين الصادقين إلا كل محب لله ولرسوله .
ولقد تضمنت هذه الجملة الكريمة معجزة كبرى للرسول صلى الله عليه وسلم قد عصم الله - تعالى - حياة رسوله عن أن يصيبها قتل أو إهلاك على أيدي الناس مهما دبروا له من مكر وكيد .
لقد نجاه من كيدهم عندما اجتمعوا لقتله في دار الندوة ليلة هجرته إلى المدينة .
ونجاه م نكيد اليهود عندما هموا بإلقاء حجر عليه وهو جالس تحت دار من دورهم .
ونجاه من مكرهم عندما وضعت إحدى نسائهم السم في طعام قدم إليه صلى الله عليه وسلم .
إلى غير ذلك من الأحداث التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم من أعدائه . ولكن الله - تعالى - نجاه وهناك آثار تشهد بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرس من بعض أصحابه فلما نزلت هذه الآية صرفهم عن حراسته .
فقد أخرج الترمذي والحاكم وابن أبي حاتم وابن جرير عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلا حتى نزلت { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم : " أيها الناس انصرفوا لقد عصمني الله " .
وقوله : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } تذييل قصد به تعليل عصمته صلى الله عليه وسلم وتثبيت قلبه أي : إن الله - تعالى - لا يهدي القوم الكافرين إلى طريق الحق بسبب عنادهم وإيثارهم الغي على الرشد . ولا يوصلهم إلى ما يريدونه من قتلك ومن القضاء على دعوتك ، بل سينصرك عليهم ويجعل العاقبة لك .
وبعد هذا التثبيت والتكريم لنبيه . أمره - سبحانه - أن يصارح أهل الكتاب بما هم عليه من باطل وأن يدعوهم إلى اتباع الحق الذي جاء به فقال - تعالى - :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.