السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (67)

روى مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : من حدثك أنّ محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله فقد كذب وهو يقول :

{ يا أيها الرسول بلغ } جميع { ما أنزل إليك من ربك } أي : لا تكتم شيئاً منه خوفاً أن تنال بمكروه { وإن لم تفعل } أي : وإن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك { فما بلغت رسالته } أي : لأنّ كتمان بعضها ككتمان كلها أي : ولأنّ بعضها ليس بالأولى بالأداء من بعض فإذا لم تؤدّ بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً ، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إن كتمت آية لم تبلغ رسالتي واختلف في سبب نزول هذه الآية فقيل : نزلت في عتب اليهود وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام فقالوا : أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزؤون به ويقولون : تريد أن نتخذك حناناً كما اتخذت النصارى عيسى حناناً فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك نزلت هذه الآية وقيل : نزلت في الجهاد وذلك أنّ المنافقين كانوا يكرهونه فكان يمسك أحياناً من حثهم على الجهاد وقيل : لما نزلت آية التخيير وهي قوله تعالى : { يا أيها النبيّ قل لأزواجك } ( الأحزاب ، 28 ) فلم يعرضها عليهنّ خوفاً من اختيارهنّ الدنيا فنزلت وقيل غير ذلك وقرأ نافع وابن عامر وشعبة بألف بعد اللام وكسر التاء والباقون بغير ألف ونصب التاء { والله يعصمك من الناس } أي : يحفظك ويمنعك منهم .

فإن قيل : أليس قد شج وجهه وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم وأوذي بضروب من الأذى ؟ أجيب : بأنّ معناه يعصمك من القتل فلا يصلون إلى قتلك ، وفي هذا تنبيه على أنه يجب عليه أن يحتمل كل ما دون النفس من أنواع البلايا فما أشدّ تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : نزلت هذه الآية بعدما شج رأسه لأنّ سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن .

وروى إسحاق بن راهويه في مسنده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( بعثني الله برسالاته فضقت بها ذرعاً فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت ) وعن أنس رضي الله تعالى عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت فأخرج رأسه من قبة أدم فقال : ( انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس ) قال البيضاويّ وظاهر الآية يوجب تبليغ كل ما أنزل ولعل المراد بالتبليغ ما يتعلق به مصالح العباد وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه اه .

قال بعض العارفين : ولهذا قال تعالى : { بلغ ما أنزل إليك } ولم يقل ما تعرّفنا به إليك ، واعلم أنّ المراد من الناس ههنا الكفار بدليل قوله تعالى : { إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين } أي : لا يمكنهم مما يريدون .

وروي ( أنه عليه الصلاة والسلام نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلق سيفه عليها فأتاه أعرابيّ وهو نائم وأخذ سيفه واخترطه وقال : من يمنعك مني يا محمد ؟ قال : «الله تعالى » فرعدت يد الأعرابيّ وسقط من يده وضرب رأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ) .