[ 67 ] { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين ( 67 ) } .
{ يا أيها الرسول } نودي صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة تشريفا له وإيذانا بأنها من موجبات الإتيان بما أمر به من التبليغ { بلغ ما أنزل إليك من ربك } مما يفصل مساوئ الكفار ، ومن قتالهم ، والدعوة إلى الإسلام ، غير مراقب في التبليغ أحدا ، ولا خائف أن ينالك مكروه { وإن لم تفعل } أي : ما تؤمر به من تبليغ الجميع ، سترا لبعض ساوئهم { فما بلغت رسالته } أي : شيئا مما أرسلت به . لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض . فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا . كما أن من لم يؤمن ببعضها ، كان كمن لم يؤمن بكلها .
قال في ( الانتصاف ) : ولما كان عدم تبليغ الرسالة أمرا معلوما عند الناس ، مستقرا في الأفهام أنه عظيم شنيع ، ينقم على مرتكبه ، بل عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع ، فضلا عن كتمان الرسالة من الرسول- استغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء ، للصوقها بالجزاء في الأفهام . وإن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة ، فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد . وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عاما بقوله { وإن لم تفعل } ولم يقل : فإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة . حتى يكون اللفظ متغايرا ؛ وهذه المغايرة اللفظية- وإن كان المعنى واحدا- أحسن رونقا وأظهر طلاوة ، من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء . وهذا الفصل كاللباب من علم البيان .
وقوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } عدة منه تعالى بحفظه من لحوق ضرر بروحه الشريفة ، باعث له على الجد فيما أمر به من التبليغ وعدم الاكتراث بعداوتهم وكيدهم { إن الله لا يهدي القوم الكافرين } تعلل لعصمته ، أي : لا يهديدهم طريق الإساءة إليك ، فما عذرك في مراقبتهم ؟ .
الأول : لا خفاء في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ التام ، وقام به أتم القيام ، وثبت في الشدائد وهو مطلوب ، وصبر على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب ، وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي ، ويهد الصياصي . وهو ، مع الضعف ، يصابر صبر المستعلي ، ويثبت ثبات المستولي . ثم انتصب لجهاد الأعداء وقد أحاطوا بجهاته ، وأحدقوا بجنباته ، وصار بإثخانه في الأعداء محذورا ، وبالرعب منه منصورا ، حتى أصبح سراج الدين وهاجا ، ودخل الناس في دين الله أفواجا .
/ روى البخاري{[3134]} ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها : " قالت لمسروق : من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب ، والله يقول : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . . . } الآية " .
وفي ( الصحيحين ) {[3135]} عنهما أيضا أنها قالت : " لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من القرآن لكتم هذه الآية : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } " .
وروى البخاري{[3136]} وغيره عن أبي جحيفة قال : " قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ! إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن ، وما في هذه الصحيفة . قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر " .
وقال البخاري{[3137]} : قال الزهري : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم .
/ قال ابن كثير : وقد شهدت له صلى الله عليه وسلم أمته بإبلاغ الرسالة ، وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفا . كما ثبت في ( صحيح مسلم ) {[3138]} عن جابر بن عبد الله : " أن رسول الله/ صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ : أيها الناس ! إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون ؟ / قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . فجعل يرفع رأسه ويرفع يده إلى السماء وينكبها إليهم ويقول : اللهم ! هل بلغت ؟ " .
/ وروى الإمام أحمد{[3139]} عن ابن عباس قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة/ الوداع : يا أيها الناس ! أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم حرام . قال : أي بلد هذا ؟ قالوا : بلد حرام . قال فأي شهر هذا ؟ قالوا : شهر حرام . قال : فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا . ثم أعادها مرارا . ثم رفع إصبعه إلى السماء فقال : اللهم ! هل بلغت ؟ مرارا ( قال بن عباس : والله ! إنها لوصية إلى ربه عز وجل ) ثم قال : ألا فليبلغ الشاهد الغائب . لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض . . ! " . وقد روى البخاري{[3140]} نحوه ! .
الثاني : تضمن قوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } معجزة كبرى لرسوله صلى الله عليه وسلم .
قال الإمام الماوردي في كتابه ( أعلام النبوة ) في الباب الثامن في معجزاته . عصمته صلى الله عليه وسلم . ما نصه :
أظهر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من أعلام نبوته بعد ثبوتها بمعجز القرآن ، واستغنائه عما سواه من البرهان ، ما جعله زيادة استبصار يحج بها من قلت فطنته ، ويذهن لها من ضعفت بصيرته ، ليكون إعجاز القرآن مدركا بالخواطر الثاقبة تفكرا واستدلالا ، وإعجاز العيان معلوما ببداية الحواس احتياطا واستظهارا ، فيكون البليد مقهورا بوهمه وعيانه ، واللبيب محجوبا بفهمه وبيانه . لأن لكل فريق من الناس طريقا هي عليهم أقرب ، ولهم أجذب ، فكان ما جمع انقياد الفرق أوضح سبيلا ، وأعم دليلا . فمن معجزاته عصمته من أعدائه وهم الجم الغفير ، والعدد الكثير ، وهم على أتم حنق عليه ، وأشد طلب لنفسه . وهو بينهم مسترسل قاهر ، ولهم مخالط ومكاثر ، ترمقه أبصارهم شزرا ، وترتد عنه أيديهم ذرعا ، وقد هاجر عنه أصحابه حذرا ، حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة . ثم خرج عنهم / سليما لم يكلم في نفس ولا جسد . وما كان ذلك إلا بعصمة إلهية وعده الله تعالى بها فحققها حيث يقول : { والله يعصمك من الناس } . فعصمه منهم .
ثم قال الماوردي رحمه الله تعالى : وإن قريشا{[3141]} اجتمعت في دار الندوة . وكان فيهم النضر بن الحارث بن كنانة ، وكان زعيم القوم . وساعده عبد الله بن الزبعرى وكان شاعر القوم . فحضهم على قتل محمد صلى الله عليه وسلم وقال لهم : الموت خير لكم من الحياة . فقال بعضهم : كيف نصنع ؟ فقال أبو جهل : هل محمد إلا رجل واحد ؟ وهل بنو هاشم إلا قبيلة من قبائل قريش ؟ فليس فيكم من يزهد في الحياة فيقتل محمدا ويريح قومه ؟ وأطرق مليا . فقالوا : من فعل هذا ساد . فقال أبو جهل : ما محمد بأقوى من رجل منا . وإني أقوم إليه فأشدخ رأسه بحجر . فإن قتلت أرحت قومي ، وإن بقيت فذاك الذي أوثر . فخرجوا على ذلك . فلما اجتمعوا في الحطيم ، خرج عليهم سول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : قد جاء . فتقدم من الركن فقام يصلي . فنظروا إليه يطيل الركوع والسجود ، فقال أبو جهل : فإني أقوم فأريحكم منه ، فأخذ مهراسا عظيما . ودنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد لا يلتفت ولا يهابه ، وهو يراه . فلما دنا منه ارتعد وأرسل الحجر على رجله . فرجع وقد شدخت أصابعه وهو يرتعد ، وقد دوخت أوداجه . ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد ، فقال أبو جهل لأصحابه : خذوني إليكم . فالتزموه وقد غشي عليه ساعة . فلما أفاق قال له أصحابه : ما الذي أصابك ؟ قال : لما دنوت منه ، أقبل علي من رأسه فحل فاغر فاه . فحمل علي أسنانه . فلم أتمالك . وإني أرى محمدا محجوبا . فقال له أصحابه : يا أبا الحكم ! رغبت وأحببت الحياة ورجعت . قال : ما تغروني عن نفسي . قال النضر بن الحرث : فإن رجع غدا فأنا له . قالوا له : يا أبا سهم ! لئن فعلت هذا لتسودن . فلما كان من الغد اجتمعوا في الحطيم منتظرين رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما أشرف عليهم قاموا / بأجمعهم فواثبوه . فأخذ حفنة من تراب وقال : شاهت الوجوه . وقال : حم لا ينصرون ، فتفرقوا عنه .
وهذا دفع إلهي وثق به من الله تعالى . فصبر عليه حتى وقاه الله ، وكان من أقوى شاهد على صدقه .
( ومن أعلامه ) : أن معمر بن يزيد ، وكان أشجع قومه ، استغاثت به قريش وشكوا إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكانت بنو كنانة تصدر عن رأيه وتطيع أمره ، فلما شكوا إليه قال لهم : إني قادم إلى ثلاث وأريحكم منه . وعندي عشرون ألف مدجج{[3142]} فلا أرى هذا الحي من بني هاشم يقدر على حربي . وإن سألوني الدية أعطيتهم عشر ديات ، ففي مالي سعة . وكان يتقلد بسيف طوله سبعة أشبار في عرض شبر ، وقصته في العرب مشهورة بالشجاعة والبأس . فلبس ، يوم وعده قريشا ، سلاحه وظاهر بين درعين . فوافقهم بالحطيم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر يصلي . وقد عرف ذلك فما التفت ولا تزعزع ولا قصر في الصلاة . فقيل له : هذا محمد ساجد . فأهوى إليه . وقد سل سيفه وأقبل نحوه . فلما دنا منه رمى بسيفه وعاد . فلما صار إلى باب الصفا عثر في درعه فسقط فقام ، وقد أدمى وجهه بالحجارة ، يعدو كأشد العدو . حتى بلغ البطحاء ما يلتفت إلى خلف . فاجتمعوا وغسلوا عن وجهه الدم وقالوا : ماذا أصابك ؟ قال : ويحكم ! المغرور من غررتموه . قالوا : ما شأنك ؟ قال : ما رأيت كاليوم . دعوني ترجع إلي نفسي . فتركوه ساعة وقالوا : ما أصابك ؟ يا أبا الليث ! قال إني لما دنوت من محمد فأردت أن أهوي بسيفي إليه أهوى إلي من عند رأسه شجاعان أقرعان ينفخان بالنيران ، وتلمع من أبصارهما . فعدوت . فما كنت لأعود في شيء من مساءة محمد .
( ومن أعلامه ) : أن كلدة بن أسد ، أبا الأشد ، وكان من القوة بمكان ، خاطر قريشا يوما في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأعظموا له الخطر إن هو كفاهم . فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق يريد المسجد ما بين دار عقيل وعقال . فجاء كلدة ومعه المزراق . فرجع المزراق في صدره . فرجع فزعا . فقالت له قريش : مالك ؟ يا أبا الأشد ! فقال : ويحكم ! ا ترون الفحل خلفي ؟ قالوا : ما نرى شيئا . قال : ويحكم ! فإني أراه . فلم يزل يعدو حتى بلغ الطائف . فاستهزأت به ثقيف ، فقال : أنا أعذركم ، لو رأيتم ما رأيت لهلكتم .
( ومن أعلامه ) : أن أبا لهب خرج يوما ، وقد اجتمعت قريش فقالوا له : يا أبا عتبة ! إنك سيدنا وأنت أولى بمحمد منا . وإن أبا طالب هو الحائل بيننا وبينه . ولو قتلته لم ينكر أبو طالب ولا حمزة منك شيئا . وأنت بريء من دمه فنؤدي نحن الدية وتسود قومك . فقال : فإني أكفيكم ! . ففرحوا بذلك ومدحته خطباؤهم . فلما كان في تلك الليلة وكان مشرفا عليه ، نزل أبو لهب ، وهو يصلي . وتسلقت امرأته أم جميل الحائط ، حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ساجد . فصاح به أبو لهب فلم يلتفت إليه ، وهما كانا لا ينقلان قدما ولا يقدران على شيء حتى تفجر الصبح . وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال له أبو لهب : يا محمد ! أطلق عنا . فقال : ما كنت لأطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني . قالا : قد فعلنا . فدعا ربه فرجعا .
( ومن أعلامه ) : أن قريشا{[3143]} اجتمعوا في الحطيم . فخطبهم . عتبة بن ربيعة فقال : إن هذا ابن عبد المطلب قد نغص علينا عيشنا وفرق جماعتنا وبدد شملنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا . وكان في القوم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام وشيبة بن ربيعة والنضر بن الحرث ومنبه ونبيه ابنا الحجاج ، وأمية وأبي ابنا خلف ، في جماعة من صناديد قريش . فقالوا له : قل ما شئت فإنا نطيعك . قال : سأقوم فأكلمه . فإن هو رجع عن كلامه وعما يدعو إليه ، وإلا رأينا فيه رأينا . فقالوا له : شأنك يا أبا عبد شمس ! فقام وتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس وحده . فقال : أنعم صباحا يا محمد ! قال : يا عبد شمس ! إن الله قد أبدلنا بهذا ، السلام ، تحية أهل الجنة . قال : يا ابن أخي ! إني قد جئتك من عند صناديد قريش / لأعرض عليك أمورهم . إن أنت قبلتها فلك الحظ فيها ولنا فيها الفسحة ! ثم قال : يا ابن عبد المطلب ! أنا زعيم قريش فيما قالت . قال : قل . قال : يا ابن عبد المطلب ! إنك دعوت العرب إلى أمر ما يعرفونه فاقبل مني ما أقول لك . قال : قل . قال : إن كان ما تدعو إليه تطلب به ملكا فإنا نملكك علينا من غير تعب ونتوجك ، فارجع عن ذلك . فسكت ثم قال له : وإن كان ما تدعو إليه أمرا تريد به امرأة حسناء فنحن نزوجك . فقال : لا قوة إلا بالله ثم قال له : وإن كان ما تتكلم به تريد مالا أعطيناك من الأموال حتى تكون أغنى رجل في قريش . فإن ذلك أهون علينا من تشتت كلمتنا وتفريق جماعتنا . وإن كان ما تدعو إليه جنونا داويناك كما تداوي قيس بن ثعلبة مجنونهم . فسكت النبي صلى الله عليه وسلم . فقال : يا محمد ! . ما تقول ؟ وبم أرجع إلى قريش ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : {[3144]} { حم تنزيل من الرحمن الرحيم ، كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ، بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون } - حتى بلغ إلى قوله : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } . قال عتبة : فلما تكلم بهذا الكلام ، فكأن الكعبة مالت حتى خفت أن تمس رأسي من أعجازها . وقام فزعا يجر رداءه . فرجع إلى قريش وهو ينتفض انتفاض العصفور . وقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي . فقالت قريش : لقد ذهبت من عندنا نشيطا ورجعت فزعا مرعوبا فما وراءك . ؟ قال : ويحكم ! دعوني . إنه كلمني بكلام لا أدري منه شيئا . ولقد رعدت علي الرعدة حتى خفت على نفسي ، وقلت : الصاعقة قد أخذتني . . . فندموا على ذلك .
( ومن أعلامه ) أنه لما أراد الهجرة ، خرج من مكة ومعه أبو بكر . فدخل غارا في جبل ثور ليستخفي من قريش . وقد طلبته وبذلت لمن جاء به مائة ناقة حمراء ، فأعانه الله تعالى بإخفاء أثره . وأنبت على باب الغار ثمامة ( وهي شجرة صغيرة ) . وألهمت العنكبوت فنسجت / على باب الغار نسج سنين في طرفة عين . ولدغ{[3145]} أبو بكر هذه الليلة غير لدغة . فخرق ثيابه وجعلها في الشقوق . وسد بعضها بقدميه اتقاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وأقام فيه ثلاثة أيام ثم خرج منه . فلقيه{[3146]} سراقة بن مالك بن جعشم . وهو من جملة من توجه لطلبه ، فقال له أبو بكر : هذا سراقة قد قرب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم ! اكفنا سراقة . فأخذت الأرض قوائم فرسه إلى إبطها . فقال سراقة : يا محمد ! ادع الله أن يطلقني ولك علي أن أرد من جاء يطلبك ، وحسن إسلامه .
هذا ما أورده الماوردي من الأعلام قبل الهجرة ؛ ثم أورد ما وقع بعدها ؛ وسننقلها عن ابن كثير ، فإنه قال في هذه الآية :
ومن عصمة الله لرسوله ، حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومعانديها ومترفيها ، مع شدة العداوة والبغضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارا ، بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدره وحكمته العظيمة . فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب . إذ كان رئيسا مطاعا كبيرا في قريش . وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا شرعية . ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها . ولكن كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر ، هابوه واحترموه . فلما مات عمه أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرا . ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام ، وعلى أن يتحمل إلى دارهم ، وهي المدينة . فلما صار إليها منعوه من الأحمر والأسود . وكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد/ كيده عليه . كما كاده اليهود{[3147]} بالسحر ، فحماه الله منهم وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء . ولما سمه{[3148]} اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر ، أعلمه الله له وحماه منه . ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذكرها . فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة .
فقال ابن جرير{[3149]} : حدثنا الحرث حدثنا عبد العزيز حدثنا أبو معشر حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة ، فيقيل تحتها . فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني . قال : الله عز وجل . فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه . قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتشر دماغه فأنزل الله عز وجل : { والله يعصمك من الناس } .
وروى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : " لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني / أنمار ، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل ، فبينما هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه ، فقال الوارث من بني النجار : لأقتلن محمدا . فقال له أصحابه : كيف تقتله ؟ قال : أقول له أعطني سيفك ، فإذا أعطانيه قتلته به . قال : فأتاه فقال : يا محمد ! أعطني سيفك أشيمه . فأعطاه إياه . فرعدت يده حتى سقط السيف من يده . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حال الله بينك وبين ما تريد . فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } " .
قال ابن كثير : وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، ثم قال : وقصة غورث بن الحرث مشهورة في الصحيح . يريد ما أخرجه الشيخان{[3150]} عن جابر قال : " غزونا مع رسول الله قبل نجد . فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركتهم القائلة في واد كثير العضاء . فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر . فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة . فعلق بها سيفه ونمنا معه نومة . فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا . وإذا عنده أعرابي فقال : إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم . فاستيقظت وهو في يده صلتا . فقال : من يمنعك مني ؟ فقلت : الله . ثلاثا . ولم يعاقبه وجلس " .
وفي رواية أخرى قال جابر : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع . فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل من المشركين ، وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم علق بالشجرة . فاخترطه فقال تخافني ؟ فقال : لا ! فقال : من يمنعك مني ؟ قال : الله . فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
زاد البخاري في رواية له : إن اسم ذلك الرجل غورث بن الحرث .
وروى ابن مردويه عن أبي هريرة قال : " كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها ، فينزل تحتها . فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها . فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد ! من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله يمنعني منك . ضع السيف . فوضعه . فأنزل الله عز وجلك والله يعصمك من الناس } " . وكذا رواه ابن حبان في ( صحيحه ) .
وروى الإمام أحمد{[3151]} عن جعدة بن خالد بن الصمة قال : " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ، ورأى رجلا سمينا ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول : لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك . قال : وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقالوا : هذا أراد أن يقتلك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لم ترع ، لم ترع . ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي " .
الثالث : كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يحرس ، كما روى الإمام أحمد{[3152]} عن عائشة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه ، قالت : فقلت : ما شأنك يا رسول الله ؟ قال : ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة ! قالت : فبينما أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال : من هذا ؟ فقال : أنا سعد بن مالك . فقال : ما جاء بك ؟ قال : جئت لأحرسك ، يا رسول الله ! قال : فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه " . أخرجاه في ( الصحيحين ) {[3153]} :
/ وفي لفظ : " سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مقدمه المدينة ، يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة ، وكان ذلك في سنة ثنتين منها " .
وعن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلا حتى نزلت { والله يعصمك من الناس } فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم : أيها الناس ! انصرفوا فقد عصمني الله " . أخرجه الترمذي{[3154]} والحاكم وابن أبي حاتم وابن جرير{[3155]} .
وقد روى ابن جرير{[3156]} عن ابن عباس قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس . فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه . حتى نزلت عليه هذه الآية : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } . قال : فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه فقال : إن الله قد عصمني من الجن والإنس " . ورواه الطبري أيضا . وروى ابن جرير نحوه أيضا عن جابر{[3157]} .
قال ابن كثير : وهذا حديث غريب ، وفيه نكارة . فإن هذه الآية مدنية ، بل هي من أواخر ما نزل بها ، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية ، والله أعلم ! انتهى .
أقول بمراجعة ما أسلفنا في ( المقدمة ) من قاعدة أسباب النزول يرتفع الإشكال ، فتذكر .
/ الرابع : قال العلامة أبو السعود : إيراد هذه الآية الكريمة في تضاعيف الآيات الواردة في حق أهل الكتاب ، لما أن الكل قوارع يسوء الكفار سمعاعها ، ويشق على الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهتهم بها ، وخصوصا ما يتلوها من النص الناعي عليهم كمال ضلالتهم ، ولذلك أعيد الأمر فقيل خطابا للفريقين : { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين } .