فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (67)

{ يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين } تذكير للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بأمانة تبليغ كافة ما أوحاه إليه مولاه جل علاه ؛ وعن ابن عباس : إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته ؛ - وهذا تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئا من أمر شريعته ، وقد علم الله تعالى من أمر نبيه أنه لا يكتم شيئا من وحيه ؛ فدلت الآية على رد قول من قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من أمر الدين تقية ، وعلى بطلانه ، وهم الرافضة( {[1818]} )- ، ودلت على أنه صلى الله عليه وسلم لم يسر إلى أحد شيئا من أمر الدين ، لأن المعنى : بلغ جميع ما أنزل إليك ظاهرا ، ولولا هذا ما كان في قوله عز وجل : { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } فائدة-( {[1819]} ) في صحيح مسلم عن مسروق عن عائشة أنها قالت : من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب ؛ والله تعالى يقول : { يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } وقبح الله الروافض( {[1820]} ) حيث قالوا : إنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أوحى الله إليه كان بالناس حاجة إليه ؛ وفي صحيح البخاري عن وهب بن عبد الله السوائي قال : قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : هل عندكم من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن ، وما في هذه الصحيفة ؛ قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل( {[1821]} ) ، وفكاك الأسير ، وان لا يقتل مسلم بكافر ؛ وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت : لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من القرآن لكتم هذه الآية : ( . . وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه . . ) ( {[1822]} ) ؛ وقال البخاري : قال الزهري : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم ، وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفا ، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ : " أيها الناس إنكم مسئولون عني فما أنتم قائلون " ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ، ويقول : " اللهم هل بلغت " ؟ ! { والله يعصمك من الناس } لا تبال بكثرة مخالفيك ، ولا يهولنك مكرهم ، فإن الله تعالى كافيك ، ودافع عنك مكروه كل من يتقى مكروهه- ثم إن الله سبحانه وعده بالعصمة من الناس دفعا لما يُظن أنه حامل على كتم البيان ، وهو خوف لحوق الضرر من الناس ، وقد كان ذلك بحمد الله ، فإنه بين لعباد الله ما أنزل إليهم على وجه التمام ، ثم حمل من أبى من الدخول في الدين على الدخول فيه طوعا أو كرها . . . وهكذا من سبقت له العناية من علماء هذه الأمة يعصمه الله من الناس ، إن قام ببيان حجج الله ولإيضاح براهينه ، وصرخ بين ظهراني من ضاد الله وعانده ولم يمتثل لشرعه كطوائف المبتدعة ، وقد رأينا من هذا في أنفسنا( {[1823]} ) وسمعنا منه في غيرنا ما يزيد المؤمن إيمانا وصلابة في دين الله ، وشدة شكيمة في القيام بحجة الله ، وكل ما يظنه متزلزلوا الأقدام ومضطربوا القلوب من نزول الضرر بهم وحصول المحن عليهم فهو خيالات مختلفة ، وتوهمات باطلة ، فإن كل محنة في الظاهر هي محنة في الحقيقة ، لأنها لا تأتي إلا بخير في الأولى والأخرى ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) ( {[1824]} ) ؛ قوله : { إن الله لا يهدي القوم الكافرين } جملة متضمنة لتعليل ما سبق من العصمة ، أي : إن الله لا يجعل لهم سبيلا إلى الإضرار بك ، فلا تخف ، وبلغ ما أمرت بتبليغه-( {[1825]} ) .


[1818]:طائفة من الشيعة سموا بذلك لأنهم تركوا زيد بن علي؛ قال الأصمعي: كانوا بايعوه ثم قالوا له: ابرأ من الشيخين- أبي بكر وعمر- نقاتل معك فأبى وقال: كانا وزيرَيْ جدي فلا أبرأ منهما، فرفضوه ورفضوا عنه فسموا رافضة. ا هـ. وزعمت الشيعة أن المراد ب {ما أنزل إليك} خلافة علي..فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعا له عليه الصلاة والسلام بما أمره بأدائه؛...وأنت تعلم أن أخبار الغدير التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة، ولا مسلمة لديهم أصلا،....والشيخان لم يرويا خبر الغدير في صحيحيهما لعدم وجدانهما له على شرطهما، وزعمت الشيعة أن ذلك لقصور وعصبية فيهما- وحاشاهما من ذلك؛....ومما يبعد دعوى الشيعة من أن الآية نزلت في خصوص خلافة علي كرم الله تعالى وجهه، وأن الموصول فيها خاص قوله تعالى:{ والله يعصمك من الناس} فإن الناس فيه وإن كان عاما إلا أن المراد بهم الكفار، ويهديك إليه {إن الله لا يهدي القوم الكافرين} فإنه في موضع التعليل.. ا هـ مما أورد الألوسي.
[1819]:ما بين العارضتين مما جاء في الجامع لأحكام القرآن؛ بتصرف.
[1820]:الروافض: طوائف الرافضة وهم الشيعة الذين رفضوا زيد بن علي وتركوه إذ لم يتبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
[1821]:العقل: الدية.
[1822]:من سورة الأحزاب. من الآية 37.
[1823]:إن العبد إذا تعرف إلى الله تعالى في الرخاء عرفه الله تعالى في الشدة ولقد عاش ألوف من الداعين إلى الحق العالمين على نصرة الإسلام وإعزاز أهله وسيادة أحكامه عاشوا في محن متلاحقة منذ الثلث الأخير من القرن الهجري الماضي فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا؛ ورأينا من آيات ربنا وأسباب كشفه السوء ما زادنا إيمانا وتسليما، ومن السكينة ما عصمنا الله تعالى به من الفتن، فمن مات منا فعلى شهادة:( والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم. سيهديهم ويصلح بالهم. ويدخلهم الجنة عرفها لهم) من سورة محمد عليه السلام، وهي سورة القتال- ومن حيي فهو على عهده الذي عاهد الله عليه، يدعو إلى الخير والبر والرشاد، فيهدي الله به في المشارق والمغارب، وتلك بشرى مولانا البر الرحيم:( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
[1824]:من سورة ق .الآية 37.
[1825]:مما أورد الشوكاني.