106- يا أيها الذين آمنوا : حينما تظهر على أحد منكم علامة الموت ويريد أن يوصى بشيء ، فالشهادة بينكم على الوصية ، أن يشهد اثنان عادلان من أقاربكم ، أو آخران من غيركم إذا كنتم في سفر ، وظهرت أمارات الموت ، تحبسون هذين الشاهدين بعد أداء الصلاة التي يجتمع عليها الناس . فيحلفان بالله قائلين : لا نستبدل بيمينه عوضاً ، ولو كان فيه نفع لنا أو لأحد من أقاربنا ، ولا نخفي الشهادة التي أمرنا الله بأدائها صحيحة . إنا إذا أخفينا الشهادة أو قلنا غير الحق ، لنكونن من الظالمين المستحقين لعذاب الله .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } ، سبب نزول هذه الآية : ما روي أن تميم بن أوس الداري ، وعدي بن زيد ، قد خرجا من المدينة للتجارة إلى أرض الشام ، وهما نصرانيان ، ومعهما بديل -مولى عمرو بن العاص- وكان مسلما ، فلما قدموا الشام مرض بديل ، فكتب كتابا فيه جميع ما معه من المتاع ، وألقاه في جوالقه ، ولم يخبر صاحبيه بذلك ، فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي ، وأمرهما أي يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله ، ومات بديل ، ففتشا متاعه ، وأخذا منه إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة ، فغيباه ، ثم قضيا حاجتهما ، فانصرفا إلى المدينة ، فدفعا المتاع إلى أهل البيت ، ففتشوا وأصابوا الصحيفة فيها تسمية ما كان معه ، فجاؤوا تميما وعديا فقالوا : هل باع صاحبنا شيئا من متاعه ؟ قالا : لا ، قالوا : فهل اتجر تجارة ؟ قالا : لا ، قالوا : هل طال مرضه فأنفق على نفسه ؟ قالا : لا ، فقالوا : إنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما كان معه ، وإنا قد فقدنا منها إناء من فضة مموها بالذهب ، فيه ثلاثمائة مثقال فضة ، قالا : ما ندري ، إنما أوصى لنا بشيء فأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه ، وما لنا علم بالإناء ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصرا على الإنكار ، وحلفا ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان } أي : ليشهد اثنان ، لفظه خبر ، ومعناه أمر ، قيل : إن معناه : أن الشهادة فيما بينكم على الوصية عند الموت اثنان ، واختلفوا في هذين الاثنين ، فقال قوم : هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي . وقال آخرون : هما الوصيان ، لأن الآية نزلت فيهما ، ولأنه قال : { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان } ، ولا يلزم الشاهد يمين ، وجعل الوصي اثنين تأكيدا ، فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور ، كقولك : شهدت وصية فلان ، بمعنى حضرت ، قال الله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } [ النور :2 ] ، يريد الحضور .
قوله تعالى : { ذوا عدل } أي : أمانة وعقل .
قوله تعالى : { منكم } ، أي : من أهل دينكم يا معشر المؤمنين .
قوله تعالى : { أو آخران من غيركم } ، أي : من غير دينكم وملتكم ، في قول أكثر المفسرين ، قاله ابن عباس ، وأبو موسى الأشعري ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وإبراهيم النخعي ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعبيدة ، ثم أختلف هؤلاء في حكم الآية فقال النخعي وجماعة : هي منسوخة ، وكانت شهادة أهل الذمة مقبولة في الابتداء ، ثم نسخت . وذهب قوم إلى أنها ثابتة ، وقالوا : إذا لم نجد مسلمين فنشهد كافرين . قال شريح : من كان بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته فأشهد كافرين على أي دين كانا ، من دين أهل الكتاب أو عبدة الأوثان ، فشهادتهم جائزة ، ولا يجوز شهادة كافر على مسلم إلا على وصية في سفر . وعن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ولم يجد مسلما يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب ، فقدما الكوفة بتركته ، وأتيا الأشعري فأخبراه بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأحلفهما ، وأمضى شهادتهما . وقال آخرون : قوله { ذوا عدل منكم } أي : من حي الموصي ، { أو آخران من غيركم } أي من غير حيكم ، وعشيرتكم ، وهو قول الحسن ، والزهري ، وعكرمة . وقالوا : لا تجوز شهادة كافرين في شيء من الأحكام .
قوله تعالى : { إن أنتم ضربتم } ، أي سرتم وسافرتم .
قوله تعالى : { في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت } ، فأوصيتم إليهما . ودفعتم إليهما مالكم ، فاتهمهما بعض الورثة ، وادعوا عليهما خيانة ، فاحكم فيه أن { تحبسونهما } ، أي : تستوقفونهما .
قوله تعالى : { من بعد الصلاة } ، أي : بعد الصلاة ، و { من } صلة يريد : بعد صلاة العصر ، هذا قول الشعبي ، والنخعي ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وعامة المفسرين ، لأن جميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ، ويجتنبون فيه الحلف الكاذب ، وقال الحسن : أراد من بعد صلاة الظهر . وقال السدي : من بعد صلاة أهل دينهما ، وملتهما ، لأنهما لا يباليان بصلاة العصر .
قوله تعالى : { فيقسمان } ، يحلفان .
قوله تعالى : { بالله إن ارتبتم } ، أي : شككتم ، ووقعت لكم الريبة في قول الشاهدين وصدقهما ، أي : في قول اللذين ليسا من أهل ملتكم ، فإن كانا مسلمين فلا يمين عليهما .
قوله تعالى : { لا نشتري به ثمنا } ، أي : لا نحلف بالله كاذبين على عوض نأخذه ، أو مال نذهب به ، أو حق نجحده .
قوله تعالى : { ولو كان ذا قربى } ، ولو كان المشهود له ذا قرابة منا .
قوله تعالى : { ولا نكتم شهادة الله } أضاف الشهادة إلى الله لأنه أمر بإقامتها ، ونهى عن كتمانها ، وقرأ يعقوب { شهادة } بتنوين { الله } ممدود ، وجعل الاستفهام عوضا عن حرف القسم ، ويروى عن أبي جعفر { شهادة } ، منونة { الله } بقطع الألف ، وكسر الهاء ، من غير استفهام على ابتداء اليمين ، أي : والله .
قوله تعالى : { إنا إذا لمن الآثمين } ، أي إن كتمناها كنا من الآثمين ، فلما نزلت هذه الآية صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ، ودعا تميما وعديا فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يختانا شيئا مما دفع إليهما ، فحلفا على ذلك ، وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما . ثم ظهر الإناء واختلفوا في كيفية ظهوره ، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم أنه وجد بمكة ، فقالوا : إنا اشتريناه من تميم وعدي ، وقال آخرون : لما طالت المدة أظهروه ، فبلغ ذلك بني سهم فأتوهما في ذلك ، فقالا : إنا كنا قد اشتريناه منه ، فقالوا : ألم تزعما أن صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه ؟ قالا : لم يكن عندنا بيّنة فكرهنا أن نقر لكم به فكتمناه لذلك ، فرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله عز وجل { فإن عثر على أنهما استحق إثما . . . } .
{ 106 - 108 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }
يخبر تعالى خبرا متضمنا للأمر بإشهاد اثنين على الوصية ، إذا حضر الإنسان مقدماتُ الموت وعلائمه . فينبغي له أن يكتب وصيته ، ويشهد عليها اثنين ذوي عدل ممن تعتبر شهادتهما .
{ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : من غير أهل دينكم ، من اليهود أو النصارى أو غيرهم ، وذلك عند الحاجة والضرورة وعدم غيرهما من المسلمين .
{ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : سافرتم فيها { فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ } أي : فأشهدوهما ، ولم يأمر بشهادتهما إلا لأن قولهما في تلك الحال مقبول ، ويؤكد عليهما ، بأن يحبسا { مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ } التي يعظمونها .
{ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } أنهما صدقا ، وما غيرا ولا بدلا ، هذا { إِنِ ارْتَبْتُمْ } في شهادتهما ، فإن صدقتموهما ، فلا حاجة إلى القسم بذلك .
ويقولان : { لَا نَشْتَرِي بِهِ } أي : بأيماننا { ثَمَنًا } بأن نكذب فيها ، لأجل عرض من الدنيا . { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } فلا نراعيه لأجل قربه منا { وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } بل نؤديها على ما سمعناها { إِنَّا إِذًا } أي : إن كتمناها { لَمِنَ الْآثِمِينَ }
اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز ، قيل : إنه منسوخ رواه العَوْفي من ابن عباس . وقال{[10507]} حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم : إنها منسوخة . وقال آخرون - وهم الأكثرون ، فيما قاله ابن جرير - : بل هو محكم ؛ ومن ادعى النسخ فعليه البيان .
فقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ } هذا هو الخبر ؛ لقوله : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } فقيل تقديره : " شهادة اثنين " ، حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مَقَامه . وقيل : دل الكلام على تقدير أن يشهد اثنان .
وقوله : { ذَوَا عَدْلٍ } وصف الاثنين ، بأن يكونا عدلين .
وقوله : { مِنْكُمْ } أي : من المسلمين . قاله الجمهور . قال{[10508]} علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال : من المسلمين . رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : رُوي عن عُبيدة ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، ومجاهد ، ويحيى بن يَعْمُر ، والسُّدِّي ، وقتادة ، ومُقاتل بن حَيَّان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، نحو ذلك .
قال ابن جرير : وقال آخرون : عني : ذلك { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : من حَي{[10509]} الموصي . وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما .
وقوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن عَوْن ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا حبيب بن أبي عَمْرَة ، عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس في قوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } قال : من غير المسلمين ، يعني : أهل الكتاب .
ثم قال : وروي عن عبيدة ، وشُرَيْح ، وسعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، ويحيى بن يعمر ، وعكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، وإبراهيم النَّخَعِي ، وقتادة ، وأبي مِجْلزَ ، والسُّديِّ ، ومقاتل بن حيان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، نحو ذلك .
وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله : { مِنْكُمْ } أي : المراد من قبيلة الموصي ، يكون المراد هاهنا : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : من غير قبيلة الموصي . وقد روى عن ابن أبي حاتم مثله عن الحسن البصري ، والزهري ، رحمهما الله .
وقوله : { إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ } أي : سافرتم ، { فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ } وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين ، أن يكون ذلك في سفر ، وأن يكون في وصية ، كما صرح بذلك شريح القاضي .
قال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو معاوية ووَكِيع قالا حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح قال : لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني{[10510]} إلا في سفر ، ولا تجوز في سفر إلا في وصية .
ثم رواه عن أبي كُرَيْب ، عن أبي بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي قال : قال شريح ، فذكر مثله .
وقد روي مثله عن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله تعالى . وهذه المسألة من إفراده ، وخالفه الثلاثة فقالوا : لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين . وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضًا .
وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري قال : مضت السنّة أنه لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر ، إنما هي في المسلمين . {[10511]}
وقال ابن زيد : نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام ، وذلك في أول الإسلام ، والأرض حرب ، والناس كفار ، وكان الناس يتوارثون بالوصية ، ثم نُسخت الوصية وفرضت الفرائض ، وعمل الناس بها .
رواه ابن جرير ، وفي هذا نظر ، والله أعلم .
وقال ابن جرير : اختلف في قوله : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } هل المراد به أن يوصي إليهما ، أو يشهدهما ؟ على قولين :
أحدهما : أن يوصي إليهما ، كما قال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط قال : سئل ابن مسعود ، رضي الله عنه ، عن هذه الآية قال{[10512]} هذا رجل سافر ومعه مال ، فأدركه قدره ، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته ، وأشهد عليهما عدلين من المسلمين .
رواه ابن أبي حاتم وفيه انقطاع .
والقول الثاني : أنهما يكونان شاهدين . وهو ظاهر سياق الآية الكريمة ، فإن لم يكن وصي ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان : الوصاية والشهادة ، كما في قصة تَمِيم الداري ، وعَدِيّ بن بَدَّاء ، كما سيأتي ذكرها آنفًا ، إن شاء الله ، وبه التوفيق .
وقد استشكل ابنُ جرير كونهما شاهدين ، قال : لأنا لا نعلم حُكْمًا يَحْلِفُ فيه الشاهد . وهذا لا يمنع الحكم الذي تضمنته هذه الآية الكريمة ، وهو حكم مستقل بنفسه ، لا يلزم أن يكون جاريًا على قياس جميع الأحكام ، على أن هذا حكم خاص بشهادة خاصة في محل خاص ، وقد اغتفر فيه من الأمور ما لم يغتفر في غيره ، فإذا قامت قرائن الريبة حلف هذا الشاهد بمقتضى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة .
وقوله تعالى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ } قال [ العوفي ، عن ]{[10513]} ابن عباس : يعني صلاة العصر . وكذا قال سعيد بن جبير ، وإبراهيم النَّخَعِي ، وقتادة ، وعِكْرِمة ، ومحمد بن سيرين . وقال الزهري : يعني صلاة المسلمين ، وقال السدي ، عن ابن عباس : يعني صلاة أهل دينهما .
والمقصود : أن يقام هذان الشاهدان{[10514]} بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم ، { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } أي : فيحلفان{[10515]} بالله { إِنِ ارْتَبْتُمْ } أي : إن ظهرت لكم منهما ريبة ، أنهما قد خانا أو غلا فيحلفان حينئذ بالله { لا نَشْتَرِي بِهِ } أي : بأيماننا . قاله مُقاتِل بن حيان { ثَمَنًا } أي : لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة ، { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } أي : ولو كان المشهود عليه قريبًا إلينا لا نحابيه ، { وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } أضافها إلى الله تشريفًا لها ، وتعظيمًا لأمرها .
وقرأ بعضهم : " ولا نكتم شهادة آلله " مجرورًا على القسم . رواها ابن جرير ، عن عامر الشعبي .
وحكي عن بعضهم أنه قرأ : " ولا نَكْتُمُ شهادةً الله " ، والقراءة الأولى هي المشهورة .
{ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ } أي : إن فعلنا شيئًا من ذلك ، من تحريف الشهادة ، أو تبديلها ، أو تغييرها{[10516]} أو كتمها بالكلية .
قال مكي بن أبي طالب رضي الله عنه : هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كلام من لم يقع له الثلج{[4766]} في تفسيرها ، وذلك بين من كتابه رحمه الله وبه نستعين ، لا نعلم خلافاً أن سبب هذه الآية أن تميماً الداري وعدي بن بداء ، كانا نصرانيين سافرا إلى المدينة يريدان الشام لتجارتهما ، قال الواقدي : وهما أخوان وقدم المدينة أيضاً ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص يريد الشام تاجراً فخرجوا رفاقة فمرض ابن أبي مارية في الطريق ، قال الواقدي فكتب وصية بيده ودسها في متاعه وأوصى إلى تميم وعدي أن يؤديا رحله ، فأتيا بعد مدة المدينة برحله فدفعاه ، ووجد أولياؤه من بني سهم وصيته مكتوبة ، ففقدوا أشياء قد كتبها فسألوهما عنها فقالا ما ندري ، هذا الذي قبضناه له ، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية الأولى فاستحلفهما رسول الله بعد العصر ، فبقي الأمر مدة ثم عثر بمكة من متاعه على إناء عظيم من فضة مخوص بالذهب{[4767]} ، فقيل لمن وجد عنده من أين صار لكم هذا الإناء ؟ قالوا : ابتعناه من تميم الداري وعدي بن بداء ، فارتفع في الأمر إلى النبي عليه السلام فنزلت الآية الأخرى ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أولياء الميت أن يحلفا ، قال الواقدي : فحلف عبد الله بن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة ، واستحقا ، وروى ابن عباس عن تميم الداري أنه قال : برىء الناس من هذه الآيات غيري وغير عدي بن بداء ، وذكر القصة ، إلا أنه قال وكان معه جام{[4768]} فضة يريد به الملك ، فأخذته أنا وعدي فبعناه بألف وقسمنا ثمنه ، فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة ، فوثبوا إلى عدي فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلف عمرو بن العاص ورجل آخر معه ، ونزعت من عدي خمسمائة .
قال القاضي أبو محمد : تختلف ألفاظ هذه القصة في الدواوين وما ذكرته هو عمود الأمر ، ولم يصح لعدي صحبة فيما علمت ولا ثبت إسلامه ، وقد صنفه في الصحابة بعض المتأخرين ، وضعف أمره ، ولا وجه عندي لذكره في الصحابة .
وأما معنى الآية من أولها إلى آخرها ، فهو أن الله تعالى أخبر المؤمنين أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضره الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض ولم يكن معه من المؤمنين أحد ليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر ، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا وأن ما شهدا به حق ما كتما فيه شهادة الله ، وحكم بشهادتهما ، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا ونحو هذا مما هو إثم ، حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما ، هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وابن عباس وغيرهم ، يقولون معنى قوله ، { منكم } من المؤمنين ، ومعنى ، { من غيركم } من الكفار ، قال بعضهم ذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة وكانوا يسافرون في التجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة ، واختلفت هذه الجماعة المذكورة ، فمذهب أبي موسى الأشعري وشريح وغيرهما أن الآية محكمة ، وأسند الطبري إلى الشعبي أن رجلاً حضرته المنية بدقوقا{[4769]} ولم يجد أحداً من المؤمنين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ، فقال أبو موسى الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في مدة النبي عليه السلام ثم أحلفهما بعد صلاة العصر وأمضى شهادتهما ، وأسند الطبري عن شريح أنه كان لا يجيز شهادة النصراني واليهودي على مسلم إلا في الوصية ، ولا تجوز أيضاً في الوصية إلا إذا كانوا في سفر ، ومذهب جماعة ممن ذكر ، أنها منسوخة بقوله تعالى :{ وأشهدوا ذوي عدل منكم }{[4770]} وبما استند إليه إجماع جمهور الناس على أن شهادة الكافر لا تجوز .
وتأول الآية جماعة من أهل العلم على غير هذا كله ، قال الحسن بن أبي الحسن وقوله تعالى : { منكم } يريد من عشيرتكم وقرابتكم ، وقوله { أو آخران من غيركم } يريد من غير القرابة والعشيرة ، وقال بهذا عكرمة مولى ابن عباس وابن شهاب ، قالوا أمر الله بإشهاد عدلين من القرابة إذ هم ألحن{[4771]} بحال الوصية وأدرى بصورة العدل فيها ، فإن كان الأمر في سفر ولم تحضر قرابة أشهد أجنبيان ، فإذا شهدا فإن لم يقع ارتياب مضت الشهادة ، وإن ارتيب أنهما مالا بالوصية إلى أحد أو زادا أو نقصا حلفا بعد صلاة العصر ومضت شهادتهما ، فإن عثر بعد ذلك على تبديل منهما واستحقاق إثم حلف وليان من القرابة وبطلت شهادة الأولين{[4772]} .
وقال بعض الناس الآية منسوخة ، ولا يحلف شاهد ، ويذكر هذا عن مالك بن أنس والشافعي وكافة الفقهاء ، وذكر الطبري رحمه الله أن هذا التحالف الذي في الآية إنما هو بحسب التداعي ، وذلك أن الشاهدين الأولين إنما يحلفان إن ارتيب فقد ترتبت عليهما دعوى فلتزمهما اليمين ، لكن هذا الارتياب إنما يكون في خيانة منهما ، فإن عثر بعد ذلك على أنهما استحقا إثماً نظر ، فإن كان الأمر بيناً غرما دون يمين َوِلَّيين ، وإن كان بشاهد واحد أو بدلا بل تقتضي خيانتهما أو ما أشبه ذلك مما هو كالشاهد حمل على الظالم وحلف المدعيان مع ما قام لهما من شاهد أو دليل .
قال القاضي أبو محمد : فهذا هو الاختلاف في معنى الآية وصورة حكمهما ، ولنرجع الآن إلى الإعراب والكلام على لفظة لفظة من الآية ، ولنقصد القول المفيد لأن الناس خلطوا في تفسير هذه الآية تخليطاً شديداً ، وذكر ذلك والرد عليه يطول ، وفي تبيين الحق الذي تتلقاه الأذهان بالقبول مقنع ، والله المستعان ، قوله { شهادة بينكم } قال قوم الشهادة هنا بمعنى الحضور ، وقال الطبري : الشهادة بمعنى اليمين وليست بالتي ُتَؤَّدى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف ، والصواب أنها الشهادة التي تحفظ لتؤدى{[4773]} ، ورفعهما بالابتداء والخبر في قوله { اثنان } قال أبو علي : التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقدره غيره أولاً كأنه قال«مقيم شهادة بينكم اثنان » وأضيفت الشهادة إلى «بين » اتساعاً في الظرف بأن يعامل معاملة الأسماء ، كما قال تعالى : { لقد تقطع بينكم }{[4774]} .
وقرأ الأعرج والشعبي والحسن «شهادةٌ » بالتنوين «بينكَم » بالنصب ، وإعراب هذه القراءة على نحو إعراب قراءة السبعة وروي عن الأعرج وأبي حيوة «شهادة » بالنصب والتنوين «بينكم » نصب ، قال أبو الفتح : التقدير ليقم شهادة بينكم اثنان ، وقوله تعالى : { إذا حضر أحدكم الموت } معناه إذا قرب الحضور وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت وهذا كقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله }{[4775]} وكقوله { إذا طلقتم النساء فطلقوهن }{[4776]} وهذا كثير ، والعامل في { إذا } المصدر الذي هو { شهادة } ، وهذا على أن تجعل { إذا } بمنزلة حين لا تحتاج إلى جواب ولك أن تجعل { إذا } في هذه الآية المحتاجة إلى الجواب ، لكن استغني عن جوابها بما تقدم في قوله { شهادة بينكم } إذ المعنى إذا حضر أحدكم الموت فينبغي أن يشهد ، وقوله { حين الوصية } ظرف زمان ، والعامل فيه { حضر } ، وإن شئت جعلته بدلاً من { إذا } ، قال أبو علي :
ولك أن تعلقه { بالموت } لا يجوز أن تعمل فيه { شهادة } لأنها إذا عملت في ظرف من الزمان لم تعمل في ظرف آخر منه ، وقوله { ذوا عدل } صفة لقوله اثنان ، و { منكم } صفة أيضاً بعد صفة ، وقوله تعالى : { من غيركم } صفة لآخران ، و { ضربتم في الأرض } معناه سافرتم للتجارة ، تقول ضربت في الأرض أي سافرت للتجارة ، وضربت الأرض ذهبت فيها لقضاء حاجة الإنسان ، وهذا السفر كان الذي يمكن أن يعدم المؤمن مؤمنين ، فلذلك خص بالذكر لأن سفر الجهاد لا يكاد يعدم فيه مؤمنين ، قال أبو علي : قوله { تحبسونهما } صفة ل { آخران } واعترض بين الموصوف والصفة بقوله : إن أنتم إلى الموت ، وأفاد الاعتراض أن العدول إلى { آخران } من غير الملة والقرابة حسب اختلاف العلماء في ذلك إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه ، واستغني عن جواب { إن } لما تقدم من قوله { أو آخران من غيركم } وقال جمهور العلماء { الصلاة } هنا صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس ، وقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيمن حلف على سلعته وأمر باللعان فيه ، وقال ابن عباس : إنما هي بعد صلاة الذميين{[4777]} ، وأما العصر فلا حرمة لها عندهما ، والفاء في قوله { فيقسمان } عاطفة جملة على جملة لأن المعنى تم في قوله { من بعد الصلاة } قال أبو علي : وإن شئت لم تقدر الفاء عاطفة جملة على جملة ، ولكن تجعله جزاء كقول ذي الرمة :
وإنسان عيني يحسر الماء تارة *** فيبدو وتارات يجم فيغرق{[4778]}
تقديره عندهم إذا حسر بدا ، فكذلك إذا حبستموهما أقسما وقوله { إن ارتبتم } شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به ، ومتى لم يقع ارتياب ولا اختلاف فلا يمين ، أما أنه يظهر من حكم أبي موسى تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفذ الوصية لأهلها وإن لم يرتب ، وهذه الريبة عند من لا يرى الآية منسوخة ترتب في الخيانة وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهما دون بعض وتقع مع ذلك اليمين عنده ، وأما من يرى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلا بأن يكون الارتياب في خيانة أو تعد بوجه من وجوه التعدي فيكون التحليف عنده بحسب الدعوى على منكر لا على أنه تكميل للشهادة ، والضمير في قول الحالفين { لا نشتري به ثمناً } عائد على القسم ، ويحتمل أن يعود على اسم الله تعالى ، قال أبو علي : يعود على تحريف الشهادة ، وقوله { لا نشتري } جواب ما يقتضيه قوله : فيقسمان بالله ، لأن القسم ونحوه يتلقى بما تتلقى به الأيمان ، وتقديره به ثمناً ، أي ذا ثمن لأن الثمن لا يشترى .
وكذلك قوله تعالى : { اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً }{[4779]} معناه ذا ثمن ، ولا يجوز أن يكون { نشتري } في هذه الآية بمعنى نبيع لأن المعنى يبطله وإن كان ذلك موجوداً في اللغة في غير هذا الموضع ، وخص «ذو القربى » بالذكر لأن العرف ميل النفس إلى قرابتهم واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يستسهل ، وقوله تعالى : { ولا نكتم شهادة الله } أضاف { شهادة } إليه تعالى من حيث هو الآمر بإقامتها الناهي عن كتمانها ، وقرأ الحسن والشعبي «ولا نكتمْ » بجزم الميم{[4780]} ، وقرأ علي بن أبي طالب ونعيم بن ميسرة والشعبي بخلاف عنه «شهادةً » بالتنوين «الله » نصب ب { نكتم } ، كأن الكلام ولا نكتم الله شهادة قال الزهري ويحتمل أن يكون المعنى «ولا نكتم شهادة والله » ثم حذفت الواو ونصب الفعل إيجازاً ، وروى يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش «شهادةً » بالتنوين( ألله ) بقطع الألف دون مد وخفض الهاء ، ورويت أيضاً عن الشعبي وغيره أنه كان يقف على الهاء من الشهادة بالسكون ، ثم يقطع الألف المكتوبة من غير مد كما تقدم ، وروي عنه أنه كان يقرأ «الله » بمد ألف الاستفهام في الوجهين أعني بسكون الهاء من الشهادة وتحريكها منّونة منصوبة ، ورويت هذه التي هي تنوين ( الشهادة ) ومد ألف الاستفهام بعد عن علي بن أبي طالب ، قال أبو الفتح : أما تسكين هاء شهادة والوقف عليها واستئناف القسم فوجه حسن لأن استئناف القسم في أول الكلام أوقر له وأشد هيبة أن يدرج في عرض القول ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن حبيب والحسن البصري فيما ذكر أبو عمرو الداني «شهادةً » بالنصب والتنوين «آلله » بالمد في همزة الاستفهام التي هي عوض من حرف القسم «آنا » بمد ألف الاستفهام أيضاً دخلت لتوقيف وتقرير لنفوس المقسمين أو لمن خاطبوه وقرأ ابن محيصن «لملآثمين » بالإدغام .