256- لا إجبار لأحد على الدخول في الدين ، وقد وضح بالآيات الباهرة طريق الحق ، وطريق الضلال ، فمن اهتدى إلى الإيمان وكفر بكل ما يطغى على العقل ، ويصرفه عن الحق ، فقد استمسك بأوثق سبب يمنعه من التردي في الضلال ، كمن تمسك بعروة متينة محكمة الرباط تمنعه من التردي في هوة ، والله سميع لما تقولون ، عليم بما تفعلون ومجازيكم على أفعالكم{[24]} .
قوله تعالى : { لا إكراه في الدين } . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة ، والمقلاة من النساء لا يعيش لها ولد ، وكانت تنذر : لئن عاش لها ولد لتهودنه ، فإذا عاش ولدها جعلته في اليهود ، فجاء الإسلام وفيهم منهم ، فلما أجلبت بنو النضير كان فيهم عدد من أولاد الأنصار ، فأرادت الأنصار استردادهم وقالوا : هم أبناؤنا وإخواننا فنزلت هذه الآية : ( لا إكراه في الدين ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خير أصحابكم ، فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فأجلوهم معهم . وقال مجاهد : كان ناس مسترضعين في اليهود من الأوس ، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير قال : الذين كانوا مسترضعين فيهم : لنذهبن معهم ولندينن بدينهم ، فمنهم أهلوهم ، فنزلت ( لا إكراه في الدين ) . وقال مسروق : كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام فلزمهما أبوهما وقال : لا أدعكما حتى تسلما ، فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر ؟ فأنزل الله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) . فخلى سبيلهما . وقال قتادة وعطاء : نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية ، وذلك أن العرب كانت أمة أمية لم يكن لهم كتاب فلم يقبل منهم إلا الإسلام ، فلما أسلموا طوعاً أو كرهاً أنزل الله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يقروا بالجزية فمن أعطى منهم الجزية لم يكره على الإسلام ، وقيل : كان هذا في الابتداء قبل أن يؤمر بالقتال فصارت منسوخة بآية السيف ، وهو قول ابن مسعود رضي الله عنهما .
قوله تعالى : { قد تبين الرشد من الغي } . أي الإيمان من الكفر والحق من الباطل .
قوله تعالى : { فمن يكفر بالطاغوت } . يعني الشيطان ، وقيل : كل ما عبد من دون الله تعالى فهو طاغوت ، وقيل : كل ما يطغي الإنسان ، فاعول من الطغيان ، زيدت التاء فيه بدلاً من لام الفعل ، كقولهم : حانوت وتابوت ، فالتاء فيها مبدلة من هاء التأنيث .
قوله تعالى : { ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } . أي تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين ، والوثقى تأنيث الأوثق وقيل : العروة الوثقى السبب الذي يوصل إلى رضا الله تعالى .
قوله تعالى : { لا انفصام لها } . لا انقطاع لها .
{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
يخبر تعالى أنه لا إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه ، لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه ، غامضة أثاره ، أو أمر في غاية الكراهة للنفوس ، وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول ، وظهرت طرقه ، وتبين أمره ، وعرف الرشد من الغي ، فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره ، وأما من كان سيئ القصد فاسد الإرادة ، خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل ، ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح ، فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين ، لعدم النتيجة والفائدة فيه ، والمكره ليس إيمانه صحيحا ، ولا تدل الآية الكريمة على ترك قتال الكفار المحاربين ، وإنما فيها أن حقيقة الدين من حيث هو موجب لقبوله لكل منصف قصده اتباع الحق ، وأما القتال وعدمه فلم تتعرض له ، وإنما يؤخذ فرض القتال من نصوص أخر ، ولكن يستدل في الآية الكريمة على قبول الجزية من غير أهل الكتاب ، كما هو قول كثير من العلماء ، فمن يكفر بالطاغوت فيترك عبادة ما سوى الله وطاعة الشيطان ، ويؤمن بالله إيمانا تاما أوجب له عبادة ربه وطاعته { فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي : بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت أركانه ، وكان المتمسك به على ثقة من أمره ، لكونه استمسك بالعروة الوثقى التي { لا انفصام لها } وأما من عكس القضية فكفر بالله وآمن بالطاغوت ، فقد أطلق هذه العروة الوثقى التي بها العصمة والنجاة ، واستمسك بكل باطل مآله إلى الجحيم { والله سميع عليم } فيجازي كلا منهما بحسب ما علمه منهم من الخير والشر ، وهذا هو الغاية لمن استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك بها .
يقول تعالى : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين } أي : لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة ، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا . وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار ، وإن كان حكمها عامًّا .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانت المرأة تكون مِقْلاتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز وجل : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ }
وقد رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بُنْدَار به{[4360]} ومن وجوه أخر عن شعبة به نحوه . وقد رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به{[4361]} ، وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم : أنها نزلت في ذلك .
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد الجرشي عن{[4362]} زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد [ بن جبير ]{[4363]} عن ابن عباس قوله : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } قال : نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له : الحصيني كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو رجلا مسلمًا فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله فيه ذلك .
رواه ابن جرير وروى السدي نحو ذلك وزاد : وكانا قد تنصرا على يدي تجار قدموا من الشام يحملون زيتًا فلما عزما على الذهاب معهم أراد أبوهما أن يستكرههما ، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث في آثارهما ، فنزلت هذه الآية .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا شريك عن أبي هلال عن أُسَق قال : كنت في دينهم مملوكًا نصرانيًا لعمر بن الخطاب فكان يعرض علي الإسلام فآبى فيقول : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ويقول : يا أُسَق لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين .
وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية . وقال آخرون : بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له أو يبذل الجزية ، قوتل حتى يقتل . وهذا معنى الإكراه قال الله تعالى : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُون } [ الفتح : 16 ] وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [ التحريم : 9 ] وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [ التوبة : 123 ] وفي الصحيح : " عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل " {[4364]} يعني : الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن حميد عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل : " أسلم " قال : إني أجدني كارها . قال : " وإن كنت كارها " {[4365]} فإنه ثلاثي صحيح ، ولكن ليس من هذا القبيل فإنه لم يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام بل دعاه إليه فأخبر أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة فقال له : " أسلم وإن كنت كارهًا فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص " .
وقوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : من خلع الأنداد والأوثان{[4366]} وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله ، ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي : فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم .
قال أبو القاسم البغوي : حدثنا أبو روح البلدي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن أبي إسحاق عن حسان - هو ابن فائد العبسي - قال : قال عمر رضي الله عنه : إن الجِبت : السحر والطاغوت : الشيطان ، وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ويفر الجبان من{[4367]} أمه ، وإن كرم الرجل دينه ، وحسبه خلقه ، وإن كان فارسيًّا أو نبطيا . وهكذا رواه ابن جرير{[4368]} وابن أبي حاتم من حديث الثوري عن أبي إسحاق عن حسان بن فائد العبسي عن عمر فذكره .
ومعنى قوله في الطاغوت : إنه الشيطان قوي جدًّا فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية ، من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها .
وقوله : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا } أي : فقد استمسك من الدين بأقوى سبب ، وشبه ذلك بالعروة الوثقى التي لا تنفصم فهي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد ولهذا قال : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
قال مجاهد : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } يعني : الإيمان . وقال السدي : هو الإسلام وقال سعيد بن جبير والضحاك : يعني لا إله إلا الله . وعن أنس{[4369]} بن مالك : { بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } : القرآن . وعن سالم بن أبي الجعد قال : هو الحب في الله والبغض في الله .
وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها .
وقال معاذ بن جبل في قوله : { لا انْفِصَامَ لَهَا } أي : لا انقطاع لها دون دخول الجنة .
وقال مجاهد وسعيد بن جبير : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا } ثم قرأ : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد : 11 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف حدثنا ابن عون عن محمد عن قيس بن عباد قال : كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع ، فدخل فصلى ركعتين أوجز فيهما فقال القوم : هذا رجل من أهل الجنة . فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته فلما استأنس{[4370]} قلت له : إن القوم لما دخلت قبل المسجد قالوا كذا وكذا . قال : سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم وسأحدثك لم : إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه : رأيت كأني في روضة خضراء - قال ابن عون : فذكر من خضرتها وسعتها - وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة ، فقيل لي : اصعد عليه فقلت : لا أستطيع . فجاءني مِنْصَف - قال ابن عون : هو الوصيف{[4371]} - فرفع ثيابي من خلفي ، فقال : اصعد . فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال : استمسك بالعروة . فاستيقظت وإنها لفي يدي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه . فقال : " أما الروضة فروضة الإسلام وأما العمود فعمود الإسلام وأما العروة فهي العروة الوثقى ، أنت على الإسلام حتى تموت " {[4372]} .
قال : وهو عبد الله بن سلام أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عون{[4373]} وأخرجه البخاري من وجه آخر ، عن محمد بن سيرين به{[4374]} .
طريق أخرى وسياق آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى وعفان قالا حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة عن المسيب بن رافع عن خرشة بن الحُرِّ قال : قدمت المدينة فجلست إلى مشيخة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم . فجاء شيخ يتوكأ على عصًا له فقال القوم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا . فقام خلف سارية فصلى ركعتين فقمت إليه ، فقلت له : قال بعض القوم : كذا وكذا . فقال : الجنة لله يُدخلها{[4375]} من يشاء وإني رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا ، رأيت كأن رجلا أتاني فقال : انطلق . فذهبت معه فسلك بي منهجًا عظيمًا فعرضت لي طريق عن يساري ، فأردت أن أسلكها . فقال : إنك لست من أهلها . ثم عرضت لي طريق عن يميني فسلكتها حتى انتهت إلى جبل زلق فأخذ بيدي فزجل{[4376]} فإذا أنا على ذروته ، فلم أتقار ولم أتماسك فإذا عمود حديد في ذروته حلقة من ذهب فأخذ بيدي فزجل{[4377]} حتى أخذت بالعروة فقال : استمسك . فقلت : نعم . فضرب العمود برجله فاستمسكت بالعروة ، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " رأيت خيرًا أما المنهج العظيم فالمحشر{[4378]} ، وأما الطريق التي عرضت عن يسارك فطريق أهل النار ، ولست من أهلها ، وأما الطريق التي عرضت عن يمينك فطريق أهل الجنة ، وأما الجبل الزلق فمنزل الشهداء ، وأما العروة التي استمسكت بها فعروة الإسلام فاستمسك بها حتى تموت " . قال : فإنما أرجو أن أكون من أهل الجنة . قال : وإذا هو عبد الله بن سلام{[4379]} .
وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن عفان ، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن الحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن حماد بن سلمة به نحوه{[4380]} . وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن سليمان بن مُسْهِر عن خرشة بن الحُرّ الفزاري به{[4381]} .
{ لا إكراه في الدين } إذ الإكراه في الحقيقة إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه ، ولكن { قد تبين الرشد من الغي } تميز الإيمان من الكفر بالآيات الواضحة ، ودلت الدلائل على أن الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية ، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإيمان طلبا للفوز بالسعادة والنجاة ، ولم يحتج إلى الإكراه والإلجاء . وقبل إخبار في معنى النهي ، أي لا تكرهوا في الدين ، وهو إما عام منسوخ بقوله ؛ { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } ، أو خاص بأهل الكتاب لما روي ( أن أنصاريا كان له ابنان تنصرا قبل المبعث ، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : الأنصاري يا رسول الله أيدخل بعقبي النار وأنا أنظر إليه فنزلت فخلاهما ) . { فمن يكفر بالطاغوت } بالشيطان ، أو الأصنام ، أو كل ما عبد من دون الله ، أو صد عن عبادة الله تعالى . فعلوت من الطغيان قلبت عينه ولامه . { ويؤمن بالله } بالتوحيد وتصديق الرسل . { فقد استمسك بالعروة الوثقى } طلب الإمساك عن نفسه بالعروة الوثقى من الحبل الوثيق ، وهي مستعارة لمتمسك الحق من النظر الصحيح والرأي القويم . { لا انفصام لها } لا انقطاع لها يقال فصمته فانفصم إذا كسرته . { والله سميع } بالأقوال { عليم } بالنيات ، ولعله تهديد على النفاق .
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 256 )
{ الدين } في هذه الآية المعتقد والملة ، بقرينة قوله { قد تبين الرشد من الغي } ، والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغير ذلك ليس هذا موضعه وإنما يجيء في تفسير قوله تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان( {[2453]} ) ، فإذا تقرر أن الإكراه المنفي هنا هو في تفسير المعتقد من الملل والنحل فاختلف الناس في معنى الآية( {[2454]} ) ، فقال الزهري : سألت زيد بن أسلم عن قوله تعالى : { لا إكراه في الدين } فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين ، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم ، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له ، قال الطبري والآية منسوخة في هذا القول .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويلزم على هذا ، أن الآية مكية ، وأنها من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف ، وقال قتادة والضحاك بن مزاحم : هذه الآية محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية ويؤدونها عن يد صغرة ، قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل العرب أهل الأوثان لا يقبل منهم إلا لا إله إلا الله أو السيف( {[2455]} ) ، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية ، ونزلت فيهم { لا إكراه في الدين } .
قال القاضي أبو محمد : وعلى مذهب مالك في أن الجزية تقبل من كل كافر سوى قريش أي نوع كان( {[2456]} ) ، فتجيء الآية خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس كلهم لا يقف ذلك على أهل الكتاب كما قال قتادة والضحاك . وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : إنما نزلت هذه الآية في قوم من الأوس والخزرج كانت المرأة تكون مقلاة لا يعيش لها ولد ، فكانت تجعل على نفسها إن جاءت بولد أن تهوده ، فكان في بني النضير جماعة على هذا النحو ، فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير قالت الأنصار كيف نصنع بأبنائنا ، إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه ، وأما إذ جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه ، فنزلت { لا إكراه في الدين } الآية ، وقال بهذا القول عامر الشعبي ومجاهد ، إلا أنه قال كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع( {[2457]} ) ، وقال السدي نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين ، كان له ابنان ، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت ، فلما أرادوا الرجوع أتاهم ابنا أبي حصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا معهم إلى الشام فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكياً أمرهما ، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يردهما ، فنزلت { لا إكراه في الدين } ، ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب ، وقال : أبعدهما الله هما أول من كفر ، فوجد أبو الحصين في نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما ، فأنزل الله جل ثناؤه :{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم }( {[2458]} ) [ النساء : 65 ] ، ثم إنه نسخ { لا إكراه في الدين } ، فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة .
قال القاضي أبو محمد : والصحيح في سبب قوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون } ، حديث الزبير مع جاره الأنصاري في حديث السقي( {[2459]} ) ، وقوله تعالى : { قد تبين الرشد من الغي } معناه بنصب الأدلة ووجود الرسول الداعي إلى الله والآيات المنيرة ، و { الرشد } مصدر من قولك رَشِد بكسر الشين وضمها( {[2460]} ) يرشد رُشْداً وَرشَداً وَرَشَاداً ، و { الغي } مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأي ، ولا يقال الذي في الضلال على الإطلاق ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «الرشاد » بالألف ، وقرأ الحسن والشعبي ومجاهد «الرَّشَد » بفتح الراء والشين . وروي عن الحسن «الرُّشُد » بضم الراء والشين ، و { الطاغوت } بناء مبالغة من طغى يطغى ، وحكى الطبري «يطغو » إذا جاوز الحد بزيادة عليه ، وزنه فعلوت ، ومذهب سيبويه أنه اسم مفرد كأنه اسم جنس يقع للكثير والقليل ، ومذهب أبي على أنه مصدر كرهبوت وجبروت وهو يوصف به الواحد والجمع( {[2461]} ) ، وقلبت لامه إلى موضع العين ، وعينه موضع اللام فقيل : طاغوت( {[2462]} ) ، وقال المبرد : هو جمع ، وذلك مردود .
واختلف المفسرون في معنى { الطاغوت } ، فقال عمر بن الخطاب ومجاهد والشعبي والضحاك وقتادة والسدي : { الطاغوت } : الشيطان . وقال ابن سيرين وأبو العالية : { الطاغوت } : الساحر : وقال سعيد بن جبير ورفيع( {[2463]} ) وجابر بن عبد الله وابن جريج : { الطاغوت } : الكاهن . قال أبو محمد : وبين أن هذه أملثة في الطاغوت لأن كل واحد منها له طغيان ، والشيطان أصل ذلك كله ، وقال قوم : { الطاغوت } : الأصنام ، وقال بعض العلماء : كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت .
قال القاضي أبو محمد : وهذه تسمية صحيحة في كل معبود يرضى ذلك كفرعون ونمرود ونحوه ، وأما من لا يرضى ذلك كعزير وعيسى عليهما السلام ومن لا يعقل كالأوثان فسميت طاغوتاً في حق العبدة ، وذلك مجاز . إذ هي بسبب الطاغوت( {[2464]} ) الذي يأمر بذلك ويحسنه وهو الشيطان ، وقدم تعالى ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت( {[2465]} ) . و { العروة } في الأجرام وهي موضع الإمساك وشد الأيدي ، و { استمسك } معناه قبض وشد يديه ، و { الوثقى } فعلى من الوثاقة ، وهذه الآية تشبيه ، واختلفت عبارة المفسرين في الشيء المشبه { بالعروة } ، فقال مجاهد : العروة الإيمان . وقال السدي : الإسلام . وقال سعيد بن جبير والضحّاك : العروة لا إله إلا الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد( {[2466]} ) ، والانفصام : الانكسار من غير بينونة ، وإذا نفي ذلك فلا بينونة بوجه ، والفصم كسر ببينونة ، وقد يجيء الفصم بالفاء في معنى البينونة( {[2467]} ) ، ومن ذلك قول ذي الرمة : [ البسيط ]
كأنه دملج من فضة نبه . . . في ملعب من عذارى الحي مفصوم( {[2468]} )
ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات { سميع } من أجل النطق و { عليم } من أجل المعتقد .
استئناف بياني ناشىء عن الأمر بالقتال في سبيل الله في قوله : { وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } [ البقرة : 244 ] إذ يبدو للسامع أن القتال لأجل دخول العدو في الإسلام فبيّن في هذه الآية أنه لا إكراه على الدخول في الإسلام وسيأتي الكلام على أنّها محكمة أو منسوخة .
وتعقيب آية الكرسي بهاته الآية بمناسبة أنّ ما اشتملت عليه الآية السابقة من دلائل الوحدانية وعظمة الخالق وتنزيهه عن شوائب ما كفرت به الأممُ ، من شأنه أن يسوق ذوي العقول إلى قبول هذا الدين الواضحِ العقيدة ، المستقيم الشريعةِ ، باختيارهم دون جبر ولا إكراه ، ومن شأنه أن يجعل دوامهم على الشرك بمحل السؤال : أيُتْرَكون عليه أم يُكْرَهُون على الإسلام ، فكانت الجملة استئنافاً بيانياً .
والإكراه الحمل على فعل مكروه ، فالهمزة فيه للجعل ، أي جعله ذا كراهية ، ولا يكون ذلك إلاّ بتخويف وقوع ما هو أشدّ كراهية من الفعل المدعو إليه .
والدين تقدم بيانه عند قوله : { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 3 ] ، وهو هنا مراد به الشرع .
والتعريف في الدين للعهد ، أي دين الإسلام .
ونفي الإكراه خير في معنى النهي ، والمراد نفي أسباب الإكراه في حُكم الإسلام ، أي لا تكرهوا أحداً على أتباع الإسلام قسراً ، وجيء بنفي الجنس لقصد العموم نصاً . وهي دليل واضح على إبطال الإكراه على الدِّين بسائر أنواعه ، لأنّ أمر الإيمان يجري على الاستدلال ، والتمكين من النظر ، وبالاختيار . وقد تقرر في صدر الإسلام قتال المشركين على الإسلام ، وفِي الحديث : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها » . ولا جائز أن تكون هذه الآية قد نزلت قبل ابتداء القتال كله ، فالظاهر أنّ هذه الآية نزلت بعد فتح مكة واستخلاص بلاد العرب ، إذ يمكن أن يدوم نزول السورة سنين كما قدمناه في صدر تفسير سورة الفاتحة لا سيما وقد قيل بأنّ آخر آية نزلت هي في سورة النساء ( 176 ) { يبين الله لكم أن تضلوا } الآية ، فنسخت حكم القتال على قبول الكافرين الإسلام ودلت على الاقتناع منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام وهو المعبّر عنه بالذمة ، ووضحُه عمل النبي وذلك حين خلصت بلاد العرب من الشرك بعد فتح مكة وبعد دخول الناس في الدين أفواجاً حين جاءت وفود العرب بعد الفتح ، فلما تم مراد الله من إنقاذ العرب من الشرك والرجوع بهم إلى ملَّة إبراهيم ، ومن تخليص الكعبة من أرجاس المشركين ، ومن تهيئة طائفة عظيمة لحمل هذا الدين وحماية بيضته ، وتبيّنَ هدى الإسلام وزال ما كان يحول دون اتِّباعه من المكابرة ، وحقّق الله سلامة بلاد العرب من الشرك كما وقع في خطبة حجة الوداع إنّ الشيطان قد يئس من أن يُعبد في بلدكم هذا لَمَّا تم ذلك كله أبطل الله القتال على الدين وأبقى القتال على توسيع سلطانه ، ولذلك قال ( سورة التوبة 29 ) { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وعلى هذا تكون الآية ناسخة لما تقدّم من آيات القتال مثل قوله قبلها { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلط عليهم } [ التوبة : 73 ] على أن الآيات النازلة قبلها أو بعدها أنواع ثلاثة :
أحدها : آيات أمرت بقتال الدفاع كقوله تعالى : { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } [ التوبة : 36 ] ، وقوله : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله } [ البقرة : 194 ] ، وهذا قتال ليس للإكراه على الإسلام بل هو لدفع غائلة المشركين .
النوع الثاني : آيات أمرت بقتال المشركين والكفّار ولم تغيّ بغاية ، فيجوز أن يكون إطلاقها مقيّداً بغاية آيةِ { حتى يعطوا الجزية } [ التوبة : 29 ] وحينئذ فلا تعارضه آيتنا هذه { لا إكراه في الدين } .
النوع الثالث : مَا غُيِّيَ بغاية كقوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } [ البقرة : 193 ] ، فيتعين أن يكون منسوخاً بهاته الآية وآيةِ { حتى يعطوا الجزية } [ التوبة : 29 ] كما نُسخ حديثُ " أمرتُ أن أقاتل الناس " هذا ما يظهر لنا في معنى الآية ، والله أعلم .
ولأهل العلم قبلنا فيها قولان : الأول قال ابن مسعود وسليمان بن موسى : هي منسوخة بقوله { يأيها النبي جاهد الكفّار والمنافقين } [ التوبة : 73 ] ، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم أكره العرب على الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلاّ به . ولعلهما يريدان من النسخ معنى التخصيص . والاستدلال على نسخها بقتال النبي صلى الله عليه وسلم العربَ على الإسلام ، يعارضه أنّه عليه السلام أخذ الجزية من جميع الكفّار ، فوجه الجمع هو التنصيص . القول الثاني أنها محكّمة ولكنّها خاصة ، فقال الشعبي وقتادة والحسن والضحاك هي خاصة بأهل الكتاب فإنّهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية وإنّما يجبر على الإسلام أهل الأوثان ، وإلى هذا مال الشافعي فقال : إنّ الجزية لا تؤخذ إلاّ من أهل الكتاب والمجوسِ . قال ابن العربي في الأحكام « وعلى هذا فكل من رأى قبول الجزية من جنسٍ يَحمل الآية عليه » ، يعني مع بقاء طائفة يتحقق فيها الإكراه . وقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد : نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا في الجاهلية إذا كانت المرأة منهم مِقلاتاً أي لا يعيش لها ولد تنذر إن عاش لها ولد أن تهوّده ، فلما جاء الإسلام وأسلموا كان كثير من أبناء الأنصار يهودا فقالوا : لا ندع أبناءنا بل نكرههم على الإسلام ، فأنزل الله تعالى : { لا إكراه في الدين } .
وقال السدي : نزلت في قصة رجل من الأنصار يقال له أبو حُصَين من بني سلِمة بن عَوف وله ابنان جاء تجّار من نصارى الشام إلى المدينة فدعَوْهما إلى النصرانية ، فتنصّرا وخرجا معهم ، فجاء أبوهما فشكا للنبيء صلى الله عليه وسلم وطلب أن يبعث من يردّهما مكرهين فنزلت { لا إكراه في الدين } ، ولم يؤمر يومئذ بالقتال ثم نسخ ذلك بآيات القتال . وقيل : إن المراد بنفي الإكراه نفي تأثيره في إسلام من أسلم كرهاً فراراً من السيف ، على معنى قوله تعالى : { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا } [ النساء : 94 ] . وهذا القول تأويل في معنى الإكراه وحمل للنفي على الإخبار دون الأمر .
وقيل : إنّ المراد بالدين التوحيد ودين له كتاب سماوي وإنّ نفي الإكراه نهي ، والمعنى لا تكرهوا السبايا من أهل الكتاب لأنّهنّ أهل دين وأكرهُوا المجوس منهم والمشركات .
وقوله : { قد تبين الرشد من الغيّ } واقع موقع العلة لقوله : { لا إكراه في الدين } ولذلك فصلت الجملة .
والرشد بضم فسكون ، وبفتح ففتح الهُدى وسداد الرأي ، ويقابله الغيّ والسفه ، والغيّ الضلال ، وأصله مصدرُ غَوَى المتعدي فأصله غَوْي قلبت الواو ياء ثم أدغمتا . وضُمّن تبيّن معنى تميز فلذلك عدي بمَن ، وإنّما تبيّن ذلك بدعوة الإسلام وظهوره في بلد مستقل بعد الهجرة .
وقوله : { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } تفريع على قوله : { قد تبيّن الرشد من الغي } إذ لم يبق بعد التبيين إلاّ الكفرُ بالطاغوت ، وفيه بيان لنفي الإكراه في الدين ؛ إذ قد تفرّع عن تميّز الرشد من الغي ظهور أنّ متّبع الإسلام مستمسك بالعروة الوثقى فهو ينساق إليه اختياراً .
والطاغوت الأوثان والأصنام ، والمسلمون يسمّون الصَّنم الطاغية ، وفي الحديث : " كانوا يهلون لمناة الطاغية " ويجمعون الطاغوت على طواغيت ، ولا أحسبه ألاّ من مصطلحات القرآن وهو مشتق من الطغيان وهو الارتفاع والغلو في الكبر وهو مذموم ومكروه . ووزن طاغوت على التحقيق طَغَيُوت فَعَلُوت من أوزان المصادر مثل مَلَكوت ورَهَبوت وَرَحَمُوت فوقع فيه قلب مكاني بين عينه ولامه فصيرُ إلى فَلَعوت طيَغوت ليتأتى قلب اللام ألفاً فصار طَاغوت ، ثم أزيل عنه معنى المصدر وصار اسماً لطائفة مما فيه هذا المصدر فصار مثل مَلَكوت في أنه اسم طائفة مما فيه معنى المصدر لا مثل رَحَموت ورهبوت في أنّهما مصدران فتاؤه زائدة ، وجعل علماً على الكفر وعلى الأصنام ، وأصله صفة بالمصدر ويطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كشأن المصادر .
وعطف { ويؤمن بالله } على الشرط لأنّ نبذ عبادة الأصنام لا مزيّة فيه إن لم يكن عَوّضها بعبادة الله تعالى .
ومعنى استمسك تمسك ، فالسينُ والتاء للتأكيد كقوله : { فاستمسكْ بالذي أُوحيَ إليك } [ الزخرف : 43 ] وقوله : { فاستجاب لهم ربهم } [ آل عمران : 195 ] وقول النابغة : « فاستنكحوا أمّ جابر » إذ لا معنى لطلب التمسك بالعروة الوثقى بعد الإيمان ، بل الإيمان التمسك نفسه .
والعروة بضم العين ما يُجعل كالحلْقة في طرف شيء ليقبض على الشيء منه ، فللدّلوْ عروة وللكُوز عُروة ، وقد تكون العروة في حبل بأن يشدّ طرفه إلى بعضه ويعقد فيصير مثل الحلقة فيه ، فلذلك قال في « الكشاف » : العروة الوثقى من الحبل الوثيق .
و { الوثقى } المحكمة الشدّ . { ولا انفصام لها } أي لا انقطاع ، والفصم القطع بتفريق الاتصال دون تجزئة بخلاف القصم بالقاف فهو قطع مع إبانة وتجزئة .
والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيلي ، شبهت هيأة المؤمن في ثباته على الإيمان بهيأة من أمسك بعروة وثقى من حَبل وهو راكب على صَعب أو في سفينة في هَول البحر ، وهي هيأة معقولة شبهت بهيأة محسوسة ، ولذلك قال في « الكشاف » « وهذا تمثيل للمعلوم بالنظَر ، بالمشاهَد » وقد أفصح عنه في تفسير سورة لقمان إذ قال « مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه » ، فالمعنى أنّ المؤمن ثابت اليقين سالم من اضطراب القلب في الدنيا وهو ناج من مَهاوي السقوط في الآخرة كحال من تمسك بعروة حبل متين لا ينفصم .
وقد أشارت الآية إلى أنّ هذه فائدة المؤمن تنفعه في دنياه بأن يكون على الحق والبصيرة وذلك ممّا تطلبه النفوس ، وأشارت إلى فائدة ذلك في الآخرة بقوله : { والله سميع عليم } الذي هو تعريض بالوعد والثواب .