المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (102)

102- وهناك ناس آخرون آذوكم ، ثم من بعد ذلك اعترفوا بما أذنبوا ، وسلكوا طريق الحق ، فهؤلاء قد أتوا عملا صالحا وعملا سيئا ، وإنهم لهذا يرجى لهم أن تقبل توبتهم ، وإن اللَّه رحيم بعباده ، يقبل توبتهم ويغفر لهم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (102)

{ وآخرون } ، أي : ومن أهل المدينة ، أو : من الأعراب آخرون ، ولا يرجع هذا إلى المنافقين ، { اعترفوا } ، أقروا ، { بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً } ، وهو إقرارهم بذنوبهم وتوبتهم { وآخر سيئا } ، أي : بعمل آخر سيء ، وضع الواو موضع الباء ، كما يقال : خلطت الماء واللبن ، أي : باللبن . والعمل السيئ : هو تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والعمل الصالح : هو ندامتهم وربطهم أنفسهم بالسواري وقيل : غزواتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم . { عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم } ، نزلت هذه الآية في قوم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، ثم ندموا على ذلك ، وقالوا : نكون في الظلال مع النساء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللأواء ! فلما قرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة قالوا والله لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا ، ويعذرنا ، فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بهم فرآهم فقال : من هؤلاء ؟ فقالوا هؤلاء الذين تخلفوا عنك فعاهدوا الله عز وجل أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت تطلقهم وترضى عنهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم ، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين ! فأنزل الله هذه الآية فأرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم ، فلما أطلقوا قالوا : يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا واستغفر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا ، فأنزل الله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } الآية . واختلفوا في أعداد هؤلاء التائبين ، فروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كانوا عشرة منهم أبو لبابة . وروى عطية عنه : أنهم كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة . وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم : كانوا ثمانية . وقال الضحاك و قتادة : كانوا سبعة . وقالوا جميعا : أحدهم أبو لبابة . وقال قوم : نزلت في أبي لبابة خاصة . واختلفوا في ذنبه ، قال مجاهد : نزلت في أبي لبابة حين قال لقريظة : إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى حلقه . وقال الزهري : نزلت في تخلفه عن غزوة تبوك فربط نفسه بسارية ، وقال والله لا أحل نفسي ولا أذوق طعاماً ولا شراباً ، حتى أموت أو يتوب الله علي ! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خر مغشيا عليه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقيل له : قد تيب عليك ! ، فقال : والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحله بيده ، ثم قال أبو لبابة : يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله ، قال : يجزيك يا أبا لبابة الثلث . قالوا جميعا : فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث أموالهم ، وترك الثلثين ، لأن الله تعالى قال : { خذ من أموالهم } ، ولم يقل : خذ أموالهم ، قال الحسن وقتادة : هؤلاء سوى الثلاثة الذين خلفوا .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (102)

{ 102 - 103 ْ } { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ْ }

يقول تعالى : { وَآخَرُونَ } ممن بالمدينة ومن حولها ، بل ومن سائر البلاد الإسلامية ، { اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } أي : أقروا بها ، وندموا عليها ، وسعوا في التوبة منها ، والتطهر من أدرانها .

{ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا } ولا يكون العمل صالحا إلا إذا كان مع العبد أصل التوحيد والإيمان ، المخرج عن الكفر والشرك ، الذي هو شرط لكل عمل صالح ، فهؤلاء خلطوا الأعمال الصالحة ، بالأعمال السيئة ، من التجرؤ على بعض المحرمات ، والتقصير في بعض الواجبات ، مع الاعتراف بذلك والرجاء بأن يغفر اللّه لهم ، فهؤلاء { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } وتوبته على عبده نوعان :

الأول : التوفيق للتوبة . والثاني : قبولها بعد وقوعها منهم .

{ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : وصفه المغفرة والرحمة اللتان لا يخلو مخلوق منهما ، بل لا بقاء للعالم العلوي والسفلي إلا بهما ، فلو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة .

{ إن اللّه يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا } .

ومن مغفرته أن المسرفين على أنفسهم الذين قطعوا أعمارهم بالأعمال السيئة ، إذا تابوا إليه وأنابوا ولو قبيل موتهم بأقل القليل ، فإنه يعفو عنهم ، ويتجاوز عن سيئاتهم ، فهذه الآية ، دلت{[383]}  على أن المخلط المعترف النادم ، الذي لم يتب توبة نصوحا ، أنه تحت الخوف والرجاء ، وهو إلى السلامة أقرب .

وأما المخلط الذي لم يعترف ويندم على ما مضى منه ، بل لا يزال مصرا على الذنوب ، فإنه يخاف عليه أشد الخوف .


[383]:- في ب: دالة.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (102)

لما بَيَّن تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغَزاة رغبة عنها وتكذيبًا وشكا ، شرع في بيان حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلا وميلا إلى الراحة ، مع إيمانهم وتصديقهم بالحق ، فقال : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } أي : أقروا بها واعترفوا فيما بينهم وبين رَبِّهم ، ولهم أعمال أخرَ صالحة ، خلطوا هذه بتلك ، فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه .

وهذه الآية - وإن كانت نزلت في أناس معينين - إلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلصين المتلوثين .

وقد قال مجاهد : إنها نزلت في أبي لُبَابة لما قال لبني قريظة : إنه الذبح ، وأشار بيده إلى حلقه .

وقال ابن عباس : { وَآخَرُونَ } نزلت في أبي لُبابة وجماعة من أصحابه ، تخلفوا عن غزوة تبوك ، فقال بعضهم : أبو لبابة وخمسة معه ، وقيل : وسبعة معه ، وقيل : وتسعة معه ، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوته{[13811]} ربطوا أنفسهم بسواري المسجد ، وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أنزل الله هذه الآية : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } أطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعفا عنهم .

وقال البخاري : حدثنا مُؤمَّل بن هشام ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا عوف ، حدثنا أبو رجاء ، حدثنا سَمُرَة بن جُنْدَب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا : " أتاني الليلة آتيان{[13812]} فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولَبِن فضة ، فتلقانا رجال شَطْر من خلقهم كأحسن ما أنت رَاء ، وشطر كأقبح ما أنت راء ، قالا لهم : اذهبوا فَقَعُوا في ذلك النهر . فوقعوا فيه ، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم ، فصاروا في أحسن صورة ، قالا لي : هذه جنة عدن ، وهذا منزلك . قالا أما القوم الذين كانوا شَطر منهم حَسَن وشطر منهم قبيح ، فإنهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا ، فتجاوز الله عنهم " .

هكذا رواه مختصرًا ، في تفسير هذه الآية{[13813]} .


[13811]:- في أ : "من غزوة".
[13812]:- في أ : "اثنان".
[13813]:- صحيح البخاري برقم (4674).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (102)

{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم } ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة ، وهم طائفة من المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد لما بلغهم ما نزل في المتخلفين ، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد على عادته فصلى ركعتين فرآهم فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى تحلهم فقال : وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم فنزلت فأطلقهم . { خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا } خلطوا الفعل الصالح الذي هو إظهار الندم والاعتراف بالذنب بآخر سيئ هو التخلف وموافقة أهل النفاق ، والواو إما بمعنى الباء كما في قولهم بعت الشاء شاة ودرهما . أو للدلالة على أن كل واحد منهما مخلوط بالآخر . { عسى الله أن يتوب عليهم } أن يقبل توبتهم وهي مدلول عليها بقوله { اعترفوا بذنوبهم } . { إن الله غفور رحيم } يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (102)

المعنى ومن هذه الطوائف { آخرون اعترفوا بذنوبهم } ، واختلف في تأويل هذه الآية فقال ابن عباس فيما روي عنه وأبو عثمان : هي في الأعراب وهي عامة في الأمة إلى يوم القيامة فيمن له أعمال صالحة وسيئة ، فهي آية ترج على هذا ، وأسند الطبري هذا عن حجاج بن أبي زينب قال سمعت أبا عثمان{[5867]} يقول : ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } ، وقال قتادة بل نزلت هذه الآية في أبي لبابة الأنصاري خاصة في شأنه مع بني قريظة ، وذلك أنه كلمهم في النزول على حكم الله ورسوله فأشار هو لهم إلى حلقه يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم يذبحهم إن نزلوا ، فلما افتضح تاب وندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد ، وأقسم أن لا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت ، فمكث كذلك حتى عفا الله عنه ونزلت هذه الآية وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحله{[5868]} ، وذكر هذا القول الطبري عن مجاهد ، وذكره ابن إسحاق في كتاب السير أوعب وأتقن ، وقالت فرقة عظيمة : بل نزلت هذه الآية في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك ، فكان عملهم السيىء التخلف بإجماع من أهل هذه المقالة ، واختلفوا في «الصالح » فقال الطبري وغيره الاعتراف والتوبة والندم ، وقالت فرقة بل «الصالح » غزوهم فيما سلف من غزو النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم اختلف أهل هذه المقالة في عدد القوم الذين عنوا بهذه الآية ، فقال ابن عباس : كانوا عشرة رهط ربط منهم أنفسهم سبعة ، وبقي الثلاثة الذين خلفوا دون ربط المذكورون بعد هذا ، وقال زيد بن أسلم{[5869]} كانوا ثمانية منهم كردم ومرداس وأبو قيس وأبو لبابة ، وقال قتادة : كانوا سبعة ، وقال ابن عباس أيضاً وفرقة : كانوا خمسة ، وكلهم قال كان فيهم أبو لبابة ، وذكر قتادة فيهم الجد بن قيس وهو فيما أعلم وهم لأن الجد لم يكن نزوله توبة ، وأما قوله { وآخر } فهو بمعنى بآخر وهما متقاربان ، و { عسى } من الله واجبة .

وروي في خبر الذين ربطوا أنفسهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد فرآهم قال ما بال هؤلاء ؟ فقيل له : إنهم تابوا وأقسموا أن لا ينحلوا حتى يحلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعذرهم{[5870]} ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وأنا والله لا أحلهم ولا أعذرهم إلا أن يأمرني الله بذلك ، فإنهم تخلفوا عني وتركوا جهاد الكفار مع المؤمنين »{[5871]}


[5867]:- هو أبو عثمان النهدي.
[5868]:- سبق الاستشهاد بهذا الحديث، وقد أخرج البيهقي عن سعيد بن المسيب أن بني قريظة كانوا حلفاء لأبي لبابة فاطلعوا إليه وهو يدعوهم إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا لبابة، أتأمرنا أن ننزل؟ فأشار بيده إلى حلقه، "إنه الذبح"، فأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسبت أن الله غفل عن يدك حين تشير إليهم بها إلى حلقك؟ فلبث حينا حتى غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، وهي غزوة العسرة، فتخلف عنها أبو لبابة فيمن تخلف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها جاء أبو لبابة يسلم عليه، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففزع أبو لبابة فارتبط بسارية التوبة التي عند باب أم سلمة سبعا من بين يوم وليلة في حر شديد لا يأكل فيهن ولا يشرب قطرة، وقال: لا يزال هذا مكاني حتى أفارق الدنيا أو يتوب الله علي، فلم يزل كذلك حتى ما يسمع الصوت من الجهر ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه بكرة وعشية، ثم تاب الله عليه، فنودي أن قد تاب الله عليك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطلق عنه رباطه، فأبى أن يطلقه أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقه عنه بيده، فقال أبو لبابة حين أفاق: يا رسول الله، إني أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأنتقل إليك فأساكنك، وإني أختلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: ُيجزي عنك الثلث، فهجر أبو لبابة دار قومه، وساكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصدق بثلث ماله، ثم تاب فلم ير منه في الإسلام بعد ذلك إلا خير حتى فارق الدنيا (الدر المنثور). ويلاحظ أن قتادة يرى أن الآية نزلت في أبي لبابة وحده لتخلفه عن غزوة تبوك لا لموقفه من بني قريظة وإشارته لهم. كذلك يلاحظ أن جميع الأقوال تجعل أبا لبابة واحدا من الذين نزلت فيهم هذه الآية، وقد اعترض أبو حيان على رأي قتادة وقال: "ويبعد ذلك من لفظ (وآخرون) لأنه جمع".
[5869]:- هو زيد بن أسلم العدوي العمري، مولاهم، فقيه مفسر، من أهل المدينة، كان مع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أيام خلافته، وكان ثقة، كثير الحديث، له حلقة في المسجد النبوي، وله كتاب في التفسير. (تهذيب التهذيب، تذكرة الحفاظ، الأعلام)
[5870]:- يقال: عذر فلانا فيما صنع: رفع عنه اللوم فيه. (المعجم الوسيط)، وفي (الصحاح): اعتذر رجل إلى إبراهيم النخعي فقال له: "قد عذرتك غير معتذر، إن المعاذير يشوبها الكذب".
[5871]:- هذا جزء من حديث طويل أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي بقية الحديث قصة تقدمهم بأموالهم للرسول ليتصدق منها ورفض رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك إلا إذا أمره الله، وهو ما أشار إليه ابن عطية بعد ذلك.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (102)

الأظهر أن جملة : { وءاخرون اعترفوا } عطف على جملة : { وممن حولكم } [ التوبة : 101 ] ، أي وممن حولكم من الأعراب منافقون ، ومن أهل المدينة آخرون أذْنبوا بالتخلف فاعترفوا { اعترفوا بذنوبهم } بذنوبهم بالتقصير . فقوله : إيجاز لأنه يدل على أنهم أذنبوا واعترفوا بذنوبهم ولم يكونوا منافقين لأن التعبير بالذنوب بصيغة الجمع يقتضي أنها أعمال سيئة في حالة الإيمان ، وكذلك التعبير عن ارتكاب الذنوب بخلط العمل الصالح بالسيّىء .

وكان من هؤلاء جماعة منهم الجِد بن قيس ، وكردم ، وأرس بن ثعلبة ، ووديعة بن حزام ، ومرداس ، وأبو قيس ، وأبو لُبابة في عشرة نفر اعترفوا بذنبهم في التخلف عن غزوة تبوك وتابوا إلى الله وربطوا أنفسهم في سواري المسجد النبوي أياماً حتى نزلت هذه الآية في توبة الله عليهم .

والاعتراف : افتعال من عَرف . وهو للمبالغة في المعرفة ، ولذلك صار بمعنى الإقرار بالشيء وترك إنكاره ، فالاعتراف بالذنب كناية عن التوبة منه ، لأن الإقرار بالذنب الفائت إنما يكون عند الندم والعزم على عدم العود إليه ، ولا يُتصور فيه الإقلاع الذي هو من أركان التوبة لأنه ذنب مضى ، ولكن يشترط فيه العزم على أن لا يعود .

وخلطهم العمل الصالح والسيئ هو خلطهم حسنات أعمالهم بسيئات التخلف عن الغزو وعدم الإنفاق على الجيش .

وقوله : { خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً } جاء ذكر الشيئين المختلطين بالعطف بالواو على اعتبار استوائهما في وقوع فعل الخلط عليهما . ويقال : خلط كذا بكذا على اعتبار أحد الشيئين المختلطين متلابسين بالخلط ، والتركيبان متساويان في المعنى ، ولكن العطف بالواو أوضح وأحسن فهو أفصح .

وعسى : فعل رجاء . وهي من كلام الله تعالى المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم فهي كناية عن وقوع المرجو ، وأن الله قد تاب عليهم ؛ ولكن ذكر فعل الرجاء يستتبع معنى اختيار المتكلم في وقوع الشيء وعدم وقوعه .

ومعنى : { أن يتوب عليهم } أي يقبل توبتهم ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } في سورة البقرة ( 37 ) .

وجملة : إن الله غفور رحيم } تذييل مناسب للمقام .