في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (102)

97

وبين المستويين المتقابلين ، مستويان بين بين . . أولهما :

( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحا وآخر سيئاً ، عسى اللّه أن يتوب عليهم ، إن اللّه غفور رحيم . خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ، واللّه سميع عليم . ألم يعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ? وأن اللّه هو التواب الرحيم ? وقل : اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون ، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون . . ) .

وأمر اللّه لرسوله بإجراء معين مع هذه الطائفة دليل على أنها كانت معينة بأشخاصها لرسول اللّه [ ص ] كما هو ظاهر .

وقد روي أن الآيات نزلت في جماعة خاصة معينة فعلاً ، ممن تخلفوا عن رسول اللّه في غزوة تبوك ، ثم أحسوا وطأة الذنب ، فاعترفوا بذنوبهم ، ورجوا التوبة . فكان منهم التخلف وهو العمل السيء . وكان منهم الندم والتوبة وهو العمل الصالح .

قال أبو جعفر بن جرير الطبري : حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سلمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ) . نزلت في أبي لبابة وأصحابه ، تخلفوا عن نبي اللّه - [ ص ] - في غزوة تبوك . فلما قفل رسول اللّه - [ ص ] - من غزوته ، وكان قريباً من المدينة ، ندموا على تخلفهم عن رسول اللّه ، وقالوا : نكون في الظلال والأطعمة والنساء ، ونبي اللّه في الجهاد واللأواء ! واللّه لنوثقن أنفسنا بالسواري ، ثم لا نطلقها حتى يكون نبي اللّه - [ ص ] - يطلقنا ويعذرنا ! وأوثقوا أنفسهم ، وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم بالسواري . فقدم رسول اللّه - [ ص ] - من غزوته ، فمر في المسجد ، وكان طريقه ، فأبصرهم ! فسأل عنهم ، فقيل له : أبو لبابة وأصحابه ، تخلفوا عنك ، يا نبي اللّه ، فصنعوا بأنفسهم ما ترى ، وعاهدوا اللّه ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم ! فقال نبي اللّه - [ ص ] - لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم ، ولا أعذرهم حتى يعذرهم اللّه ، قد رغبوا بأنفسهم عن غزوة المسلمين ! فأنزل اللّه : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم )إلى ( عسى اللّه أن يتوب عليهم )و( عسى ) من اللّه واجب . . فأطلقهم نبي اللّه وعذرهم .

ووردت روايات متعددة أخرى منها : أنها في أبي لبابة وحده لما وقع في غزوة بني قريظة من تنبيههم لما يراد بهم ، وأنه الذبح ، بالإشارة إلى عنقه ! ولكن هذا مستبعد فأين هذه الآيات مما وقع في بني قريظة ! كذلك ورد أنها في الأعراب . . وقد عقب ابن جرير على هذه الروايات كلها بقوله :

" وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك ، قول من قال : نزلت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخلفهم عن رسول اللّه - [ ص ] - وتركهم الجهاد معه ، والخروج لغزو الروم ، حين شخص إلى تبوك ، وأن الذين نزل ذلك فيهم جماعة ، أحدهم أبو لبابة .

" وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب في ذلك ، لأن اللّه جل ثناؤه قال : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) . . فأخبر عن اعتراف جماعة بذنوبهم ، ولم يكن المعترف بذنبه ، الموثق نفسه بالسارية في حصار قريظة ، غير أبي لبابة وحده . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان اللّه تبارك وتعالى قد وصف في قوله : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم )بالاعتراف بذنوبهم جماعة ، علم أن الجماعة الذين وصفهم بذلك ليست بالواحد ، فقد تبين بذلك أن هذه الصفة إذ لم تكن إلا لجماعة ، وكان لا جماعة فعلت ذلك - فيما نقله أهل السير والأخبار وأجمع عليه أهل التأويل - إلا جماعة من المتخلفين عن غزوة تبوك ، صح ما قلنا في ذلك ، وقلنا : " كان منهم أبو لبابة " لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك " . .

ولما ذكر اللّه - سبحانه - صفة هذه الجماعة من الناس المتخلفين المعتذرين التائبين عقب عليها بقوله :

( عسى اللّه أن يتوب عليهم ، إن اللّه غفور رحيم ) . .

وكما قال ابن جرير : [ وعسى من اللّه واجب ] . . فهو رجاء من يملك إجابة الرجاء سبحانه ! والاعتراف بالذنب على هذا النحو ، والشعور بوطأته ، دليل حياة القلب وحساسيته ، ومن ثم فالتوبة مرجوة القبول ، والمغفرة مرتقبة من الغفور الرحيم . . وقد قبل اللّه توبتهم وغفر لهم .