قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } . اهدنا أرشدنا . وقال علي ، وأبي بن كعب : " ثبتنا " كما يقال للقائم قم حتى أعود إليك ، أي دم على ما أنت عليه . وهذا الدعاء من المؤمنين مع كونهم على الهداية بمعنى التثبيت وبمعنى طلب مزيد الهداية ، لأن الألطاف والهدايات من الله تعالى لا تتناهى على مذهب أهل السنة . ( الصراط ، وصراط ) ، قرئ بالسين رواه رويس عن يعقوب وهو الأصل ، سمي سراطاً لأنه يسرط السابلة ، ويقرأ بالزاي ، وقرأ حمزة بإشمام الزاي ، وكلها لغات صحيحة ، واختيار الصاد ، عند أكثر القراء لموافقة المصحف . والصراط المستقيم ، قال ابن عباس وجابر : هو الإسلام وهو قول مقاتل ، وقال ابن مسعود : هو القرآن وروي عن علي مرفوعاً " الصراط المستقيم " كتاب الله ، وقال سعيد بن جبير : طريق الجنة ، وقال سهل بن عبد الله : طريق السنة والجماعة ، وقال بكر بن عبد الله المزني : طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال أبو العالية و الحسن : رسول الله وآله وصاحباه ، وأصله في اللغة الطريق الواضح .
ثم قال تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } أي : دلنا وأرشدنا ، ووفقنا للصراط المستقيم ، وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله ، وإلى جنته ، وهو معرفة الحق والعمل به ، فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط . فالهداية إلى الصراط : لزوم دين الإسلام ، وترك ما سواه من الأديان ، والهداية في الصراط ، تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا . فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته ، لضرورته إلى ذلك .
{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }
قراءة الجمهور بالصاد . وقرئ : " السراط " وقرئ بالزاي ، قال الفراء : وهي لغة بني عذرة وبلقين{[937]} وبني كلب .
لما تقدم الثناء على المسؤول ، تبارك وتعالى ، ناسب أن يعقب بالسؤال ؛ كما قال : " فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل " وهذا أكمل أحوال السائل ، أن يمدح مسؤوله ، ثم يسأل حاجته [ وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله : { اهدنا } ]{[938]} ، لأنه أنجح للحاجة وأنجع للإجابة ، ولهذا أرشد الله تعالى إليه لأنه الأكمل ، وقد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل واحتياجه ، كما قال موسى عليه السلام : { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] وقد يتقدمه مع ذلك وصف المسؤول ، كقول ذي النون : { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] وقد يكون بمجرد الثناء على المسؤول ، كقول الشاعر :
أأذكر حاجتي أم قد كفاني *** حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما *** كفاه من تعرضه الثناء
والهداية هاهنا : الإرشاد والتوفيق ، وقد تعدى الهداية بنفسها كما هنا{[939]} { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } فتضمن معنى ألهمنا ، أو وفقنا ، أو ارزقنا ، أو اعطنا ؛ { وهديناه النجدين } [ البلد : 10 ] أي : بينا له الخير والشر ، وقد تعدى بإلى ، كقوله تعالى : { اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ النحل : 121 ] { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [ الصافات : 23 ] وذلك بمعنى الإرشاد والدلالة ، وكذلك قوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] وقد تعدى باللام ، كقول أهل الجنة : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا } [ الأعراف : 43 ] أي وفقنا لهذا وجعلنا له أهلا{[940]} . وأما الصراط المستقيم ، فقال الإمام أبو جعفر بن جرير : أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعًا على أن " الصراط المستقيم " هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه .
وكذلك ذلك في لغة جميع العرب ، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخَطَفي :
أميرُ المؤمنين على صِراطٍ *** إذا اعوج الموارِدُ مُسْتَقيمِ
قال : والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر ، قال : ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول وعمل ، وصف باستقامة أو اعوجاج ، فتصف المستقيم باستقامته ، والمعوج باعوجاجه .
ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط ، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد ، وهو المتابعة لله وللرسول ؛ فروي أنه كتاب الله ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثني يحيى بن يمان ، عن حمزة الزيات ، عن سعد ، وهو أبو{[941]} المختار الطائي ، عن ابن أخي الحارث الأعور ، عن الحارث الأعور ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الصراط المستقيم كتاب الله »{[942]} . وكذلك رواه ابن جرير ، من حديث حمزة بن حبيب الزيات ، وقد [ تقدم في فضائل القرآن فيما ]{[943]} رواه أحمد والترمذي من رواية الحارث الأعور ، عن علي مرفوعا : " وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم " {[944]} .
وقد روي هذا موقوفا عن علي ، وهو أشبه{[945]} ، والله أعلم .
وقال الثوري ، عن منصور ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، قال : الصراط المستقيم . كتاب الله ، وقيل : هو الإسلام . وقال الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : قال جبريل لمحمد ، عليهما السلام : قل : يا محمد ، اهدنا الصراط المستقيم . يقول : اهدنا{[946]} الطريق الهادي ، وهو دين الله الذي لا عوج فيه .
وقال ميمون بن مِهْرَان ، عن ابن عباس ، في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } قال : ذاك الإسلام . وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } قالوا : هو الإسلام . وقال عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } قال : الإسلام ، قال : هو أوسع مما بين السماء والأرض . وقال ابن الحنفية في قوله تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } قال هو دين الله ، الذي لا يقبل من العباد غيره . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : اهدنا الصراط المستقيم ، قال : هو الإسلام .
وفي [ معنى ]{[947]} هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده ، حيث قال : حدثنا الحسن بن سوار أبو العلاء ، حدثنا ليث يعني ابن سعد ، عن معاوية بن صالح : أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، حدثه عن أبيه ، عن النواس بن سمعان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ضرب الله مثلا صراطًا مستقيما ، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ، ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا ، وداع يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب ، قال : ويحك ، لا تفتحه ؛ فإنك إن تفتحه تلجه . فالصراط الإسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم » .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير من حديث الليث بن سعد به{[948]} . ورواه الترمذي والنسائي جميعا ، عن علي بن حجر عن بقية ، عن بُجَيْر{[949]} بن سعد ، عن خالد بن مَعْدَان ، عن جبير بن نفير ، عن النواس بن سمعان ، به{[950]} .
وقال مجاهد : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } ، قال : الحق . وهذا أشمل ، ولا منافاة بينه وبين ما تقدم .
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير ، من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم ؛ حدثنا حمزة بن المغيرة ، عن عاصم الأحول ، عن أبي العالية : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } قال : هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وصاحباه من بعده ، قال عاصم : فذكرنا ذلك للحسن ، فقال : صدق أبو العالية ونصح .
وكل هذه الأقوال صحيحة ، وهي متلازمة ، فإن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم ، واقتدى باللذين من بعده أبي بكر وعمر ، فقد اتبع الحق ، ومن اتبع الحق فقد اتبع الإسلام ، ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن ، وهو كتاب الله وحبله المتين ، وصراطه المستقيم ، فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضا ، ولله الحمد .
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن الفضل السقطي ، حدثنا إبراهيم بن مهدي المِصِّيصي ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، قال : الصراط المستقيم الذي تركنا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم{[951]} . ولهذا قال الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي - أعني { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } - أن يكون معنيًا به : وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له مَنْ أنعمت عليه مِنْ عبادك ، من قول وعمل ، وذلك هو الصراط المستقيم ؛ لأن مَن وفق لما وُفق له من أنعم الله عليهم{[952]} مِن النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، فقد وُفق للإسلام ، وتصديق الرسل ، والتمسك بالكتاب ، والعمل بما أمره الله به ، والانزجار عما زجره عنه ، واتباع منهاج النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهاج الخلفاء الأربعة ، وكل عبد صالح ، وكل ذلك من الصراط المستقيم .
فإن قيل : كيف{[953]} يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وغيرها ، وهو متصف بذلك ؟ فهل{[954]} هذا من باب تحصيل الحاصل أم لا ؟
فالجواب : أن لا ولولا احتياجه ليلا ونهارًا إلى سؤال الهداية لما أرشده الله إلى ذلك ؛ فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية ، ورسوخه فيها ، وتبصره ، وازدياده منها ، واستمراره عليها ، فإن العبد لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق ، فالسعيد من وفقه الله تعالى لسؤاله ؛ فإنه تعالى قد تكفل بإجابة الداعي إذا دعاه ، ولا سيما المضطر المحتاج المفتقر إليه آناء الليل وأطراف النهار ، وقد قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ } الآية [ النساء : 136 ] ، فقد أمر الذين آمنوا بالإيمان ، وليس في ذلك تحصيل الحاصل ؛ لأن المراد الثبات والاستمرار والمداومة على الأعمال المعينة على ذلك ، والله أعلم .
وقال تعالى آمرا لعباده المؤمنين أن يقولوا : { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } وقد كان الصدِّيق رضي الله عنه يقرأ بهذه الآية في الركعة الثالثة من صلاة المغرب بعد الفاتحة سرًا . فمعنى قوله تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } استمر بنا عليه ولا تعدل بنا إلى غيره .
{ اهدنا الصراط المستقيم } بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال : كيف أعينكم فقالوا { اهدنا } أو إفراد لما هو المقصود الأعظم . والهداية دلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير وقوله تعالى : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } وارد على التهكم . ومنه الهداية وهوادي الوحش لمقدماتها ، والفعل منه هدى ، وأصله أن يعدى باللام ، أو إلى ، فعومل معاملة اختار في قوله تعالى : { واختار موسى قومه } وهداية الله تعالى تتنوع أنواعا لا يحصيها عد كما قال تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } ولكنها تنحصر في أجناس مترتبة :
الأول : إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة .
الثاني نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد وإليه أشار حيث قال { وهديناه النجدين } وقال : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } .
الثالث : الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وإياها عنى بقوله : { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } وقوله { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } .
الرابع أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي ، أو الإلهام والمنامات الصادقة ، وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى بقوله { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } وقوله : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } . فالمطلوب إما زيادة ما منحوه من الهدى ، أو الثبات عليه ، أو حصول المراتب المرتبة عليه فإذا قاله العارف بالله الواصل عنى به أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا ، وتميط غواشي أبداننا ، لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك . والأمر والدعاء يتشاركان لفظا ومعنى ويتفاوتان بالاستعلاء والتسفل ، وقيل بالرتبة .
والسراط : من سرط الطعام إذا ابتلعه فكأنه يسرط السابلة ، ولذلك سمي لقما لأنه يلتقمهم . و{ الصراط } من قلب السين صادا ليطابق الطاء في الإطباق ، وقد يشم الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه . وقرأ ابن كثير برواية قنبل عنه ، ورويس عن يعقوب بالأصل ، وحمزة بالإشمام ، والباقون بالصاد وهو لغة قريش ، والثابت في الإمام وجمعه سرط ككتب وهو كالطريق في التذكير والتأنيث .
و{ المستقيم } المستوي والمراد به طريق الحق ، وقيل هو ملة الإسلام .
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( 6 )
وقوله تعالى : { اهدنا } رغبة لأنها من المربوب إلى الرب ، وهكذا صيغة الأمر كلها ، فإذا كانت من الأعلى فهي أمر ، والهداية في اللغة الإرشاد( {[74]} ) ، لكنها تتصرف على وجوه يعبرعنها المفسرون بغير لفظ الإرشاد ، وكلها إذا تؤملت رجعت إلى الإرشاد ، فالهدى يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب ، ومنه قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم }( {[75]} ) [ البقرة : 5 ] وقوله تعالى : { والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }( {[76]} ) [ يونس : 25 ] وقوله تعالى : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء }( {[77]} ) [ القصص : 56 ] وقوله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام }( {[78]} ) [ الأنعام : 125 ] .
قال أبو المعالي : فهذه آية لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان في القلب ، وهو محض الإرشاد .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقد جاء الهدى بمعنى الدعاء ، من ذلك قوله تعالى : { ولكل قوم هاد }( {[79]} ) [ الرعد : 7 ] أي داع وقوله تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }( {[80]} ) [ الشورى : 52 ] وهذا أيضاً يبين فيه الإرشاد ، لأنه ابتداء إرشاد ، أجاب المدعو أو لم يجب ، وقد جاء بمعنى الإلهام ، من ذلك قوله تعالى : { أعطى كل شيء خلقه ثم هدى }( {[81]} ) [ طه : 5 ] .
قال المفسرون : معناه «ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها » .
وهذا أيضاً بين فيه معنى الإرشاد ، وقد جاء الهدى بمعنى البيان ، من ذلك قوله تعالى : { وأما ثمود فهديناهم }( {[82]} ) [ فصلت : 17 ] .
قال المفسرون : «معناه بينا لهم » . قال أبو المعالي : معناه دعوناهم ومن ذلك قوله تعالى : { إن علينا للهدى }( {[83]} ) [ الليل : 12 ] أي علينا أن نبين ، وفي هذا كله معنى الإرشاد .
قال أبو المعالي : وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها ، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين : { فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم }( {[84]} ) [ محمد :5 ] ومنه قوله تعالى : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم }( {[85]} ) [ الصافات : 23 ] معناه فاسلكوهم إليها .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذه الهداية بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا ، وهي ضد الضلال وهي الواقعة في قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } على صحيح التأويل ، وذلك بين من لفظ { الصراط } ، والهدى لفظ مؤنث ، وقال اللحياني : «هو مذكر » قال ابن سيده( {[86]} ) : «والهدى اسم من أسماء النهار »( {[87]} ) قال ابن مقبل : [ البسيط ] .
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة . . . يخشعن في الآل غلفاً أو يصلينا( {[88]} )
و { الصراط } في اللغة الطريق الواضح فمن ذلك قول جرير : [ الوافر ] .
أمير المؤمنين على صراط . . . إذ اعوج الموارد مستقيم( {[89]} )
ومنه قول الآخر : فصد عن نهج الصراط الواضح( {[90]} ) .
وحكى النقاش : «الصراط الطريق بلغة الروم » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف جداً . واختلف القراء في { الصراط } فقرأ ابن كثير وجماعة من العلماء : «السراط » بالسين ، وهذا هو أصل اللفظة .
قال الفارسي : «ورويت عن ابن كثير بالصاد » . وقرأ باقي السبعة غير حمزة بصاد خالصة وهذا بدل السين بالصاد لتناسبها مع الطاء في الإطباق فيحسنان في السمع( {[91]} ) ، وحكاها سيبويه لغة .
قال أبو علي : روي عن أبي عمرو السين والصاد ، والمضارعة بين الصاد والزاي ، رواه عنه العريان بن أبي سفيان . وروى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأها بزاي خالصة .
قال بعض اللغويين : «ما حكاه الأصمعي من هذه القراءة خطأ منه ، إنما سمع أبا عمرو يقرأ بالمضارعة فتوهمها زاياً ، ولم يكن الأصمعي نحوياً فيؤمن على هذا » .
قال القاضي أبو محمد : وحكى هذا الكلام أبو علي عن أبي بكر بن مجاهد . وقرأ حمزة بين الصاد والزاي . وروي أيضاً عنه أنه إنما يلتزم ذلك في المعرفة دون النكرة .
قال ابن مجاهد : «وهذه القراءة تكلف حرف بين حرفين ، وذلك أصعب على اللسان ، وليس بحرف يبنى عليه الكلام ولا هو من حروف المعجم ، ولست أدفع أنه من كلام فصحاء العرب ، إلا أن الصاد أفصح وأوسع » .
وقرأ الحسن والضحاك : «اهدنا صراطاً مستقيماً »( {[92]} ) دون تعريف وقرأ جعفر بن محمد الصادق : «اهدنا صراطَ المستقيم » بالإضافة وقرأ ثابت البناني : «بصرنا الصراط » .
واختلف المفسرون في المعنى الذي استعير له { الصراط } في هذا الموضع وما المراد به ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «{ الصراط المستقيم } هنا القرآن » وقال جابر : «هو الإسلام يعني الحنيفية( {[93]} ) . وقال : سعته ما بين السماء والأرض . وقال محمد بن الحنفية : «هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره » وقال أبو العالية( {[94]} ) : «هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر »( {[95]} ) . وذكر ذلك للحسن بن أبي الحسن ، فقال : صدق أبو العالية ونصح .
قال القاضي أبو محمد : ويجتمع من هذه الأقوال كلها أن الدعوة إنما هي في أن يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين في معتقداته ، وفي التزامه لأحكام شرعه ، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام ، وهو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه( {[96]} ) ، وهذا الدعاء إنما أمر به المؤمنون وعندهم المعتقدات وعند كل واحد بعض الأعمال ، فمعنى قولهم { اهدنا } فيما هو حاصل عندهم طلب التثبيت والدوام ، وفيما ليس بحاصل إما من جهة الجهل به أو التقصير في المحافظة عليه طلب الإرشاد إليه . وأقول إن كل داع فإنما يريد { الصراط } بكماله في أقواله وأفعاله ومعتقداته ، فيحسن على هذا أن يدعو في الصراط على الكمال من عنده بعضه ولا يتجه أن يراد ب { اهدنا } في هذه الآية اخلق الإيمان في قلوبنا ، لأنها هداية مقيدة إلى صراط ولا أن يراد بها ادعنا ، وسائر وجوه الهداية يتجه ، و { الصراط } نصب على المفعول الثاني ، و { المستقيم } الذي لا عوج فيه ولا انحراف ، والمراد أنه استقام على الحق وإلى غاية الفلاح ، ودخول الجنة ، وإعلال { مستقيم } أن أصله مستقوم نقلت الحركة إلى القاف وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها .