الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ} (6)

{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( 6 ) }[ الفاتحة :6 ] .

وقوله تعالى : { اهدنا }[ الفاتحة :6 ] .

رغبة لأنها من المربوب إلى الرب ، وهكذا صيغ الأمر كلها ، فإِذا كانت من الأعلى ، فهي أَمْرٌ .

والهِدَايَةُ في اللغة الإرشادُ ، لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسِّرون بغير لفظ الإِرشاد . وكلها إِذا تأملت راجِعةٌ إلى الإرشاد ، فالهدى يجيء بمعنى خَلْقِ الإيمان في القلب ، ومنه قوله تعالى : { أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 5 ] و{ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } [ البقرة : 213 ] ، و { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ القصص : 56 ] { فَمَن يُرِدِ الله أَنْ يَهْدِيَهُ } [ الأنعام : 125 ] الآية . قال أبو المعالي : فهذه الآيات لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان في القلب ، وهو محض الإرشاد ، وقد جاء الهدى بمعنى الدعاء ؛ كقوله تعالى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] أي : داع ، { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] .

وقد جاء الهدى بمعنى الإِلهام ، من ذلك قوله تعالى : { أعطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] .

قال المفسِّرون : ألهم الحيواناتِ كلَّها إِلى منافعها .

وقد جاء الهدى بمعنى البيان ، من ذلك ، قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم } [ فصلت : 17 ] قال المفسِّرون : معناه : بيَّنَّا لهم .

قال أبو المعالي : معناه : دعوناهُمْ ، وقوله تعالى : { إِنَّ عَلَيْنَا للهدى } [ الليل : 12 ] ، أي : علينا أنْ نبيِّن ،

وفي هذا كله معنى الإِرشاد .

قال أبو المعالي : وقد ترد الهدايةُ ، والمراد بها إِرشاد المؤمنين إِلى مسالك الجِنَانِ ، والطرقِ المفضيةِ إِلَيْهَا كقوله تعالى في صفة المجاهدين { فَلَنْ يُضِلَّ أعمالهم } { سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } [ محمد : 4-5 ] ومنه قوله تعالى : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } [ الصافات : 23 ] ، معناه : فاسلكوهم إِليها .

قال : ( ع ) : وهذه الهدايةُ بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا ، وهي ضدُّ الضلالِ ، وهي الواقعة في قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم }[ الفاتحة :6 ] ؛ على صحيح التأويلات ، وذلك بيِّن من لفظ «الصِّرَاط » والصراط ؛ في اللغة : الطريقُ الواضِحُ ، ومن ذلك قول جَرِيرٍ : ( الوافر )

أَمِيرُ المُؤْمِنيِنَ على صِرَاطٍ *** إِذَا اعوج المَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ

واختلف المفسِّرون في المعنى الذي استعير له «الصِّراط » في هذا الموضع : فقال علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه : { الصراط المستقيم } [ الفاتحة :6 ] . هنا القرآنُ ، وقال جابرٌ : هو الإِسلام ، يعني الحنيفيَّة .

وقال محمَّد بن الحنفيَّة : هو دينُ اللَّه الذي لا يَقْبَلُ مِن العِبَادِ غيره .

وقال أبو العالية : هو رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وصاحباه أبو بَكْر وعمر ، أي : الصراط المستقيم طريقُ محمد صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر ، وهذا قويٌّ في المعنى إلاَّ أنَّ تسمية أشخاصهم طريقاً فيه تجوُّز ، ويجتمع من هذه الأقوال كلِّها أنَّ الدعوة هي أنْ يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين في معتقداته ، وفي التزامه لأحكام شرعه ، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام ، وهو حالُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحبيه .