فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ} (6)

{ اهدنا الصراط المستقيم } قرأه الجمهور بالصاد ، وقرأ السراط بالسين ، والزراط بالزاي ؛ والهداية قد يتعدى فعلها بنفسه كما هنا ، وكقوله : { وهديناه النجدين } [ البلد : 10 ] وقد يتعدى بإلى كقوله : { اجتباه وَهَدَاهُ إلى صراط مسْتَقِيمٍ } [ النحل : 121 ] ، { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } [ الصافات : 23 ] ، { وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إلى صراط مسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] وقد يتعدّى باللام كقوله { الحمد لِلَّهِ الذي هَدَانَا لهذا } [ الأعراف : 43 ] { إِنَّ هذا القرءان يهْدِى للتي هي أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] قال الزمخشري : أصله أن يتعدّى باللام أو بإلى . انتهى .

وهي الإرشاد ، أو التوفيق ، أو الإلهام ، أو الدلالة . وفرَّقَ كثيرٌ من المتأخرين بين معنى المتعدى بنفسه ، وغير المتعدى ، فقالوا : معنى الأوّل الدلالة ، والثاني الإيصال .

وطلب الهداية من المهتدي معناه طلب الزيادة كقوله تعالى { والذين اهتدوا زادهم هدى } [ محمد : 17 ] { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } [ العنكبوت : 69 ] والصراط : الطريق ، قال ابن جرير : أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم : هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ، وهو كذلك في لغة جميع العرب . قال : ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله فتصف المستقيم باستقامته ، والمُعوجَّ باعوجاجه .

وقد أخرج الحاكم وصححه وتعقبه الذهبي عن أبي هريرة : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ { اهدنا الصراط المستقيم } بالصاد » .

وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه عن ابن عباس : «أنه قرأ الصراط بالسين » . وأخرج ابن الأنباري عن ابن كثير أنه كان يقرأ " السراط " بالسين . وأخرج أيضاً عن حمزة أنه كان يقرأ الزراط بالزاي قال الفراء : وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال : { اهدنا الصراط المستقيم } يقول : ألهمنا دينك الحق . وأخرج ابن جرير عنه ، وابن المنذر نحوه . وأخرج وكيع ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه عن جابر بن عبد الله أنه قال : «هو دين الإسلام ، وهو أوسع مما بين السماء ، والأرض » . وأخرج نحوه ابن جرير عن ابن عباس . وأخرج نحوه أيضاً عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة .

وأخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن النوّاس بن سمعان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ضرب اللهُ مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مُفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاةٌ ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ، ولا تفرّقوا ، وداع يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تَلجه " فالصراط : الإسلام ، والسوران : حدود الله ، والأبواب المفتحة : محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط : كتاب الله ، والداعي من فوق : واعظ الله تعالى في قلب كل مسلم " .

قال ابن كثير بعد إخراجه : وهو إسناد حسن صحيح . وأخرج وكيع ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وأبو بكر بن الأنباري ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود ؛ أنه قال : «هو كتاب الله » .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عدي ، وابن عساكر ، عن أبي العالية ؛ قال : هو : رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده . وأخرج الحاكم وصححه عن أبي العالية ، عن ابن عباس مثله . وروي القرطبي ، عن الفضيل بن عياض ، أنه قال : الصراط المستقيم طريق الحج ، قال : وهذا خاص ، والعموم أولى . انتهى .

وجميع ما روي في تفسير هذه الآية ما عدا هذا المروي ، عن الفضيل يصدق بعضه على بعض ، فإن من اتبع الإسلام أو القرآن أو النبي ، فقد اتبع الحق . وقد ذكر ابن جرير نحو هذا ، فقال : والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي معنياً به ، وفِّقنا للثبات على ما ارتضيته ، ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول ، وعمل ، وذلك هو الصراط المستقيم ، لأن من وفَق إليه ممن أنعم اللهُ عليه من النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ، فقد وفق للإسلام وتصديق الرسل ، والتمسك بالكتاب ، والعمل بما أمره الله به ، والانزجار عما زجره عنه ، واتباع منهاج النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهاج الخلفاء الأربعة ، وكل عبد صالح ، وكل ذلك من الصراط المستقيم انتهى .