قوله تعالى :{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }
اهْدِ : صِيغَةُ أمْرٍ ، ومعناها : الدعاءُ ، فقِيلَ معناه : أَرْشِدْنَا .
وقال عَليٌّ ، وأُبَيّ بن كَعْب - رضي الله عنهما - ثبتنَا ؛ كما يُقالُ للقائِم : قم حتى أَعودَ إليك ، أَيْ : دُمْ على ما أنت عليه ، وهذا الدعاء من المؤمنين مع كونهم علَى الهدايَةِ بِمعنى التَّثْبِيتِ ، وبمعنى طلبِ مزيد الهدَاية ؛ لأنَّ الأَلْطافَ والهدايات من{[297]} الله - تعالى - لا تتناهى على مذهب أَهْلِ السُّنة .
قال ابنُ الخَطِيب - رحمه الله تعالى - : المرَادُ من قوله تعالى : { اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } هو : أنْ يكونَ الإنسانُ مُعْرِضاً عما سوى الله - تعالى - مُقْبِلاً بكليةِ قلبه وفِكْرِه وذِكْرِه على الله تعالى .
مثالُه : أنْ يصيرَ بحيثُ لو أُمِرَ بذبح ولده ، لأطاعَ ؛ كما فعل إِبْرَاهِيم عليه الصلاة والسلام ، ولو أُمِر بأَنْ ينقادَ ، لأن يذبحَهُ غيرُه ، لأطاعَ ؛ كما فعله إسْماعِيلُ عليه الصلاةُ والسَّلام ، ولو أُمِرَ باَنْ يُلْقي نفسَهُ في البحر ، لأطاعَ ؛ كما فعله يُونُسُ عليه الصلاة والسلام ، ولو أُمِرَ بأن يتلمذَ لمن هو أعلم منه بعد بلوغه في المَنْصب إلى أعلى الغايات ، لأطاع ؛ كما فعله موسى - عليه الصَّلاة والسلام - مع الخَضِر [ عليه الصَّلاةُ والسلامُ ]{[298]} ، ولو أُمِرَ بأنْ يصبرَ في الأمرِ بالمَعْرُوف ، والنهي عن المنكر على القتل ، والتفرِيقِ بنصفين ، لأطاع ؛ كما فعله يَحْيَى بنُ زَكَرِيَّا - عليهما الصَّلاة والسلام - فالمراد بقوله تعالى { اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } ، هو الاقتداءُ بأنبياء اللهِ في الصَّبر على الشدائدِ ، والثبات عند نزُولِ البلاءِ ، ولا شَكّ أن هذا مقامٌ شَدِيدٌ ؛ لأن أكثر الخَلْقِ لا طاقة لهم به .
واعلم أن صيغةَ " افْعَلْ " تَرِدُ لمعانٍ كثيرةٍ ذكرِها الأُصُوليُّونَ .
وقال بعضُهم : إن وردت صيغةُ " افعل " من الأَعلى للأدنى ، قيل فيها : أَمرٌ ، وبالعكس دُعاء ، ومن المُساوي التماسٌ ، وفاعله مستتر وُجُوباً ، لِمَا مَرَّ ، أي : اهْدِ أنت ، و " نا " مفعولٌ أَوَّلٌ ، وهو ضميرٌ متصل يكون للمتكلم مع غيره ، أو المعظّم نفسه ، ويستعملُ في موضع : الرّفع ، والنصب ، والجر ، بلفظ واحد ؛ نحو : " قُمْنَا " ، و " ضَرَبَنَا زَيْدٌ " ، و " مَرَّ بِنَا " ، ولا يشاركه في هذه الخصوصية غيرُه من الضَّمائر .
وقد زعم بعضُ النَّاس أن الياء كذلك ؛ تقولُ : " أكرمني " ، و " مرّ بي " ، و " أنت تقومين يا هند " ، و " الياء " في المثال الأوّل منصوبةُ المحلِّ ، وفي الثاني مجرورته ، وفي الثالث مرفوعتهُ ، وهذا ليس بشيءٍ ؛ لأن الياءَ في حالةِ الرفع ، ليستْ تلك الياء التي في حالة النَّصْب والجر ؛ لأن الأُولَى للمتكلم ، وهذه للمخاطبة المؤنثة .
وقيل : بل يشاركُه لفظُ هُم ؛ تقول : " هم نائمون " و " ضربتهم " و " مررت بهم " ، ف " هم " مرفوعُ المحلِّ ، ومنصوبُه ، ومجروره بلفظ واحد ، وهو للغائبين في كل حالٍ ، وهذا وإِنْ كان أقربَ مِنَ الأولِ ، إلاّ أَنَّهُ في حالة الرفع ضميرٌ منفصل ، وفي حالة النصب والجر ضميرٌ متّصلٌ .
فافترقا ، بخلاف " نَا " فإنَّ معناها لا يختلِفُ ، وهي ضمير متصل في الأحوال الثلاثة .
و " الصِّراطَ " مفعولٌ ثانٍ ، و " المستقيم " صِفَتُه ، وقد تبعه في الأربعةِ من العشرة المذكورة .
وأصلُ " هَدَى " أن يتعدّى إِلَى الأولِ بنفسه وإلى الثاني بحرفِ الجَرِّ ، وهو إما : " إلى " أو " اللام " ؛ كقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ، { يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] ثمّ يُتَّسَعُ فيه ، فيُحْذَف الجَرُّ ، فيتعدى بنفسه ، فأصل " اهْدِنَا الصَّرَاطَ " : إهدنا للصِّراط أو إلى الصّراط ، ثم حذف .
والأمرُ عند البصريين مَبْنِيٌّ وعند الكوفين مُعْرَبٌ ، ويَدَّعُونَ في نحو : " اضْرِبْ " ، أنّ أصله : " لِتَضْرِبْ " بلامِ الأَمْرِ ، ثم حذف الجازم ، وتبعه حرفُ المُضَارعة ، وأتي بهمزة الوصل ؛ لأجل الابتداء بالسَّاكن ، وهذا مما لا حاجة إليه ، وللرد عليهم موضعٌ يليق به .
ووزْنُ " اهْدِ " {[299]} " افْع " ؛ حُذِفَتْ لاَمُه ، وهي الياء حملاً [ للأمر على المجزوم ، والمجزوم تُحْذَفُ ] {[300]}منه لامه إذا كانت حرف علّة .
ومعنى الهِدَاية : الإرشادُ أو الدلاَلةُ ، أو التقدّم . ومنه هواد الخيل لتقدمها . قال امرؤُ القَيْسِ : [ الطويل ]
70 - فَأَلْحَقَنا بالهَادِيَاتِ وَدُونَهُ- *** -جَوَاحِرُهَا في صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ{[301]}
أي : المتقدّمات الهَادية لغيرها .
أو التَّبْيينُ ؛ نحو : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } [ فصلت : 17 ] أي : بيّنّا لهم ؛ ونحو : { أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] ، أَيْ : أَلْهَمَهُ لمصالحه .
أو الدعاءُ ؛ كقوله تعالى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }[ الرعد : 7 ] ، أيْ دَاعٍ .
وقيل : هو المَيْلُ ؛ ومنه قوله تعالى : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] والمعنى : بقلوبِنا إِلَّيْكَ ، وهذا غلط ؛ فإن تَيْك مادةٌ أُخْرَى من " هَادَ - يَهُودُ " .
وقال الرَّاغِبُ : الهِدَايَةُ : دَلاَلَةٌ بِلُطْفٍ ، ومنه الْهَدِيَّةُ ، وخصّ ما كان دلالةً ب " هديت " وما كان إعْطَاءً ب " أهديت " .
و " الصِّرَاط " : الطَّريقُ المستسهلُ ، وبعضُهم لا يقيده بالمستسهلِ ؛ قال [ الرجز ]
71 - فَضَلَّ عَنْ نَهْجِِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ{[302]}- *** -
72 - أَمِيرُ الْمُؤْمِنينَ عَلَى صِرَاطٍ- *** -إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ{[303]}
73 - شَحَنَّا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى- *** -تَرَكْنَاهُم أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ{[304]}
وهو مُشْتَقٌّ من " السَّرْطِ " وهو : الابتِلاَع ؛ إِمَّا لأنَّ سالكَهُ يَسْتَرِطُه ، أَوْ لأنه يَسْتَرِطُ سَالِكَه ؛ ألا ترى إلى قولهم : قَتَلَ أَرْضاً عَالِمُهَا ، وقَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلَهَا ؛ وبهذَيْن الاعتباريْن قال أبو تمام{[305]} : [ الطويل ]
74 - رَعَتْهُ الْفَيَافِي بَعْدَ مَا كَانَ حِقْبَةً- *** -رَعَاهَا وَمَاءُ المُزْنِ يَنْهَلُّ سَاكِبُهْ{[306]}
وعلى هذا سُمِّيَ الطريقُ لَقَماً ومُلْتَقِماً ؛ لأنه يلتقِمُ سالِكَه ، أو يلتقمُهُ سالِكُه .
وأصله : السّين : وقد قرأ به{[307]} قُنْبُل{[308]} رحمه الله تعالى حيث ورد ، وإنما أُبْدِلَتْ صَاداً ؛ لأجلِ حرفِ الاسْتِعْلاَءِ وإبدالها صاداً مُطَّرد عنده ؛ نحو : " صَقَر " في " سَقَر " ، و " صَلَخ " في " سَلَخ " ، و " أَصْبغ " في " أَسْبغ " ، و " مُصَيْطر " في " مُسَيْطر " لما بينهما من التَّقارب .
وقد تُشَمُّ الصادُ في " الصِّرَاطِ " ونحوه زَاياً ، وقرأ به خَلَفٌ{[309]} ، وحَمْزَةُ حيث ورد ، وخَلاَّد{[310]} : الأوَّلَ فقط ، وقد تُقْرأُ{[311]} زاياً مَحْضَة ، ولم تُرْسَمْ في المصحَفِ إلا بالصَّاد ، مع اختلافٍ في قراءتِهم فيها كما تقدم .
و " الصِّراطَ " يُذَكَّرُ ويُوَنَّثُ : فالتذكيرُ لُغَة تَمِيم ، والتَّأْنِيثُ لغةُ " الحِجَازِ " ، فإِنِ اسْتُعْمِلَ مُذكَّراً ، جمع على " أَفْعِلَة " في القلّةِ ، وعلى " فُعُل " في الكَثْرَةِ ، نحو : " حِمَارِ " ، و " أَحْمِرَة " و " حُمُر " ، وإِنِ اسْتُعْمِل مُؤَنثاً ، فقياسه أن يجمعَ على " أَفْعُل " : نحو : " ذِرَاع " و " أذْرُع " .
و " المُسْتَقِيمَ " اسمُ فَاعِلِ من استقامَ ، بمعنى المُجَرّد ، ومعناه : السَّوِيّ{[312]} مِنْ غَيْرِ اعْوِجَاج ، وأَصْلُه : " مُسْتَقْوم " ثُم أُعِلّ كإعلالِ " نَسْتَعِيْن " وسيأتي الكلامُ [ مُسْتَوْفًى ]{[313]} على مادتِه إن شاء الله - تعالى - عند قوله تعالى : { وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ } [ البقرة : 3 ] .
و " الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ " قال ابْنُ عَبَّاسٍ ، وجَابِرٌ{[314]}- رضي الله عنهما - : هو الإسْلاَم{[315]} ، وهو قولُ مُقَاتِلٍ ، وقال ابن مَسْعودٍ رضي الله تعالى عنهما : هو القرآن الكريم{[316]} ، وروي عن علي - رضي الله تعالى عنه - مرفوعاً : الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ : كتَابُ اللهِ تَعَالَى .
وقال سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ{[317]} رضي الله عنه " طَريقُ الجَنَّة " .
وقال سَهْلُ بن عَبْدِ الله رحمه الله تعالى : هو طريقُ السُّنَّةِ والجَمَاعة . وقال بَكْرُ بنُ عبد الله المُزْنِيّ{[318]} : هو طريقُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم .
وقال أَبُو العَالِيَةِ{[319]} ، والحَسَنُ : رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وصَاحِبَاه .
قال ابنُ الخَطِيب{[320]} : الحِكْمَةُ في قوله : " اهْدِنَا " ولم يَقُلْ " اهدني " ؛ إما : لأن الدعاءَ مهما كان أعم ، كان إلى الإجابة أَقْربَ .
وإِمَّا لقول النبي عليه الصلاة والسلام " " ادْعُوا الله تعالى بِأَلْسِنَةٍ مَا عَصَيْتُمُوه بها " قالُوا : يَا رَسُولِ الله ، فمنْ لنا بتلك الأَلْسِنَةِ ؟ قال : " يَدْعُو بَعْضَكُمْ لبعضٍ ؛ لأنك ما عصيت بِلِسَانه ، وَهُوَ ما عَصَى بِلِسَانِكَ " {[321]} .
الثالث : كأنّ العبدَ يقولُ : سمعتُ رَسُولَك يقولُ : " الجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ{[322]} " ، فلما أَرَدْتُ حمدك ، قلتُ : الحَمْدُ لله ، ولما ذكرت العبادة ، ذكرتُ عبادةَ الجَمِيع ، ولما ذكرتُ الاستعانةَ ، ذكرتُ استعَانَة الجَمِيع ، فلا جرم لَمَّا طلبتُ الهدايةَ ، طلبتُها للجميع ، ولما طلبتُ الاقتداءَ بالصالحين ، طلبتُ اقتداءَ الجميع ؛ فقلتُ : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة :7 ] ، ولما طلبتُ الفِرَارَ من المردودين ، ففررت من الكل ؛ فقلت : { غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّيْنَ } [ الفاتحة :7 ] ، فلما لَمْ أُفارقِ الأنبياءَ والصالحين في الدنيا ، فأرجو ألا أفارِقََهم في الآخرة ؛ كما قال تعالى : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم } [ النساء : 69 ] الآية الكريمةَ .