أي ألهمنا الطريق الهادي ، وأرشدنا إليه ، ووفقنا له .
قال الإمام الراغب في ( تفسيره ) : ( الهداية دلالة بلطف . ومنه الهداية ، وهوادي الوحش وهي متقدماتها لكونها هادية لسائرها . وخص ما كان دلالة بفعلت نحو : هديته الطريق ، وما كان من الإعطاء بأفعلت نحو أهديت الهدية ، ولما يصور العروس على وجهين : قيل فيه : هديت وأهديت . فإن قيل : كيف جعلت الهدى دلالة بلطف وقد قال تعالى : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } {[388]} وقال تعالى : { كتب عليه أنه من تولاّه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير } {[389]} قيل : إن ذلك حسب استعمالهم اللفظ على التهكم كما قال :
وخيل قد دلفت لها بخيْل ** *تحية بينهم ضرب وجيع !{[390]}
والهداية هي الإرشاد إلى الخيرات قولا وفعلا ، وهي من الله تعالى على منازل بعضها يترتب على بعض ، لا يصح حصول الثاني إلا بعد الأول ، ولا الثالث إلا بعد الثاني .
فأول المنازل : إعطاؤه العبد القوى التي بها يهتدي إلى مصالحه إما تسخيرا وإما طوعا كالمشاعر الخمسة والقوة الفكرية ، وبعض ذلك قد أعطاه الحيوانات ، وبعض خصّ به الإنسان ، وعلى ذلك دل قوله تعالى : { أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } {[391]} وقوله تعالى : { الذي قدّر/ فهدى } {[392]} وهذه الهداية إما تسخير وإما تعليم ، وإلى نحوه أشار بقوله تعالى : { وأوحى ربك إلى النحل } {[393]} وقوله تعالى : { بأن ربك أوحى لها } {[394]} وقال في الإنسان ، بما أعطاه من العقل ، وعرفه من الرشد : { إنا هديناه السبيل }{[395]} وقال : { وهديناه النجدين } {[396]} وقال في ثمود : { فهديناهم فاستحبّوا العمى على الهدى } {[397]} .
وثانيهما : الهداية بالدعاء وبعثة الأنبياء عليهم السلام . وإياها عنى بقوله تعالى : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا } {[398]} . وبقوله : { ولكل قوم هاد } {[399]} وهذه الهداية تنسب تارة إلى الله عز وجل ، وتارة إلى النبي عليه السلام ، وتارة إلى القرآن . قال الله تعالى : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم }{[400]} .
/ وثالثها : هداية يوليها صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات ، وهي الهداية المذكورة في قوله عز وجل : { وهدوا إلى الطيب من القول* وهدوا إلى صراط الحميد } {[401]} . وقوله : { أولئك الذين هدى الله * فبهداهم اقتده } {[402]} وقوله : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } {[403]} . وهذه الهداية هي المعنية بقوله : { ويجعل لكم نورا تمشون به } {[404]} . ويصح أن ننسب هذه الهداية إلى الله عز وجل فيقال : هو آثرهم بها من حيث أنه هو السبب في وصولهم إليها . ويصح أن يقال : اكتسبوها من حيث أنهم توصلوا إليها باجتهادهم . فمن قصد سلطانا مسترفدا فأعطاه ، يصح أن يقال : إن السلطان خوّله . ويصح أن يقال : فلان اكتسب بسعيه ، ولانطواء ذلك على الأمرين ، قال تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } {[405]} وقال : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم } {[406]} . فنبه أن ذلك بجهدهم وبفضله جميعا .
وهذه الهداية يصح أن يقال : هي مباحة للعقلاء كلهم ، ويصح أن يقال : هي محظورة/ إلا على أوليائه ، لما كان في إمكان جميع العقلاء أن يترشحوا لتناولها . ومن ذلك قيل : إنها لا يسهل تناولها قبل أن يتشكل الإنسان بشكل مخصوص ، بتقديم عبادات . وقد قال بعض المحققين : الهدى من الله كثير ، ولا يبصره إلا البصير ، ولا يعمل به إلا اليسير . ألا ترى إلى نجوم السماء ما أكثرها ولا يهتدي بها إلا العلماء . وقال بعض الأولياء : إن مثل هداية الله مع الناس كمثل سيل مر على قِلاَت{[407]} وغدران{[408]} ، فيتناول كل قَلْتٍ منها بقدر سعته ثم تلا قوله : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } {[409]} وقال بعضهم : هي كمطر أتى على أرَضين فينتفع كل أرض بقدر ترشيحها للانتفاع به .
( والمنزلة الرابعة ) : من الهداية التمكين من مجاورته في دار الخلد ، وإياها عنى الله بقوله : { ونزعنا ما في صدورهم من غلّ تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } {[410]} . فإذا ثبت ذلك فمن الهداية ما لا ينفى عن أحد بوجه . ومنها ما ينفى/ عن بعض ويثبت لبعض ، ومن هذا الوجه قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { إنك لا تهدي من أحببت } {[411]} . وقال : { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء }{[412]} . وقال : { وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم } {[413]} . فإنه عنى الهداية التي هي التوفيق وإدخال الجنة دون التي هي الدعاء لقوله تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } {[414]} . وقال في الأنبياء : { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } {[415]} . فقوله : { اهدنا الصراط المستقيم } فسر على وجوه بحسب أنظار مختلفة إلى الوجوه المذكورة :
( الأول ) : أنه عنى الهداية العامة ، وأمر أن ندعو بذلك وإن كان هو قد فعله لا محالة ليزيدنا ثوابا بالدعاء ، كما أمرنا أن نقول : اللهم صلّ على محمد .
( الثاني ) : قيل : وفقنا لطريقة الشرع .
( الثالث ) : احرسنا عن استغواء الغواة واستهواء الشهوات ، واعصمنا من الشبهات .
/ ( الرابع ) : زدنا هدى استنجاحا لما وعدت بقولك : { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } {[416]} . وقولك : { والذين اهتدوا زادهم هدى } {[417]} .
( الخامس ) : قيل : علمنا العلم الحقيقي فذلك سبب الخلاص ، وهو المعبر عنه بالنور في قوله : { يهدي الله لنوره من يشاء } {[418]} .
( السادس ) : قيل : هو سؤال الجنة ، لقوله تعالى : { والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضلّ أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم } {[419]} . وقال : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم } {[420]} الآية . فهذه الأقاويل اختلفت باختلاف أنظارهم إلى أبعاض الهداية وجزئياتها ، والجميع يصح أن يكون مرادا بالآية إذ لا تنافي بينها / وبالله التوفيق ) اه كلام الراغب .
وبه يعلم تحقيق معنى الهداية في سائر مواقعها في التنزيل الكريم ، وأن الوجوه المأثورة في آية ما إذا لم تتناف صح إرادتها كلها ؛ ومثل هذا يسمى : اختلاف تنوّع لا اختلاف تضادّ .
كما أشار لذلك شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مبحث له مهم ، نأثره عنه هنا ، لما فيه من الفوائد الجليلة . قال رحمه الله :
ينبغي أن يعلم أن الاختلاف الواقع من المفسرين وغيرهم على وجهين : أحدهما ليس فيه تضاد وتناقض ، بل يمكن أن يكون كل منهما حقا ، وإنما هو اختلاف تنوع أو اختلاف في الصفات أو العبارات . وعامة الاختلاف الثابت عن مفسري السلف من الصحابة والتابعين هو من هذا الباب . فإن الله سبحانه إذا ذكر في القرآن اسما مثل قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } فكل من المفسرين يعبّر عن الصراط المستقيم بعبارة تدل على بعض صفاته ، وكل ذلك حق بمنزلة ما يسمى الله ورسوله وكتابه بأسماء ، كل اسم منها يدل على صفة من صفاته . فيقول بعضهم : الصراط المستقيم كتاب الله أو إتباع كتاب الله . ويقول الآخر : الصراط المستقيم هو الإسلام أو دين الإسلام . ويقول الآخر : الصراط المستقيم هو السنة والجماعة . ويقول الآخر : الصراط المستقيم طريق العبودية ، أو طريق الخوف والرضا والحب ، وامتثال المأمور ، واجتناب المحظور ؛ أو متابعة الكتاب والسنة ، أو العمل بطاعة الله ، أو نحو هذه الأسماء والعبارات . ومعلوم أن المسمى هو واحد ، وإن تنوعت صفاته وتعددت أسماؤه وعباراته ؛ وكثير من التفسير والترجمة تكون من هذا الوجه . ومنه قسم آخر وهو أن يذكر المفسر والمترجم معنى اللفظ على سبيل التمثيل لا على سبيل الحد والحصر مثل أن يقول قائل من العجم : ما معنى الخبز ؟ فيشار به إلى رغيف وليس المقصود مجرد عينه ، وإنما الإشارة إلى تعيين هذا الشخص تمثيلا . وهذا كما إذا سئلوا عن قوله : { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد/ ومنهم سابق بالخيرات } {[421]} . أو عن قوله : { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } {[422]} . أو عن الصالحين أو الظالمين ، ونحو ذلك من الأسماء العامة الجامعة التي قد يتعسّر أو يتعذّر على المستمع أو المتكلم ضبط مجموع معناه ، إذ لا يكون محتاجا إلى ذلك فيذكر له من أنواعه وأشخاصه ما يحصل به غرضه ، وقد يستدل به على نظائره : فإن الظالم لنفسه هو تارك المأمور فاعل المحظور . والمقتصد هو فاعل الواجب وتارك المحرم . والسابق هو فاعل الواجب والمستحب وتارك المحرم والمكروه . فيقول المجيب بحسب حاجة السائل : الظالم الذي يفوّت الصلاة ، أو الذي لا يسبغ الوضوء ، أو الذي لا يتم الأركان ونحو ذلك . والمقتصد الذي يصلي في الوقت كما أمر والسابق بالخيرات الذي يصلي الصلاة بواجباتها ومستحباتها ويأتي بالنوافل المستحبة معها . وكذلك يقول مثل هذا في الزكاة والصوم والحج وسائر الواجبات . وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : التفسير على أربعة أوجه : تفسير تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله ، فمن ادعى علمه فهو كاذب . والصحابة أخذوا عن الرسول لفظ القرآن ومعناه كما أخذوا عنه السنة . وإن كان من الناس من غيّر السنة ، فمن الناس من غير بعض معاني القرآن إذ لم يتمكن من تغيير لفظه . وأيضا فقد يخفى على بعض العلماء بعض معاني القرآن ، كما خفي عليه بعض السنة ، فيقع خطأ المجتهدين من هذا الباب والله أعلم .
وتقدم في مقدمة الكتاب بسط لهذا البحث فارجع إليه . ( انظر : ج 1 ص 19 ) .
/ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضا في تحقيق هذه الآية :
( كل عبد مضطر دائما إلى مقصود هذا الدعاء وهو هداية الصراط المستقيم . فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية ، ولا وصول إلى السعادة إلا به ، فمن فاته هذا الهدى فهو : إما من المغضوب عليهم ، وإما من الضالين ؛ وهذا الاهتداء لا يحصل إلا بهدي الله { من يهد الله فهو المهتد * ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } {[423]} . فإن الصراط المستقيم : أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل ، ولا تفعل ما نهيت عنه . وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن تعلم : ما أمر به في ذلك الوقت ، وما نهى عنه ، وإلى أن يحصل لك إرادة جازمة لفعل المأمور ؛ وكراهة لترك المحظور . والصراط المستقيم قد فسر بالقرآن والإسلام وطريق العبودية ، وكل هذا حق ، فهو موصوف بهذا وبغيره ، فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته ؛ بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر ، فإن الله يرزقه ، وإن انقطع رزقه مات والموت لابد منه فإن كان من أهل الهداية ، كان سعيدا بعد الموت ، وكان الموت موصلا له إلى السعادة الدائمة الأبدية ، فيكون رحمة في حقه . وكذلك النصر إذا قدّر أنه قُهر وغُلب حتى قتل فإذا كان من أهل الهداية إلى الاستقامة مات شهيدا ، وكان القتل من تمام نعمة الله عليه . فتبين أن حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر ، بل لا نسبة بينهما ، فلهذا كان هذا الدعاء مفروضا عليهم في الصلوات فرضِها ونفلِها وأيضا فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق والنصر : لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين { ومن يتّق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب } {[424]} وكان من المتوكلين { ومن يتوكل على الله فهو حسبه * إن الله بالغ أمره } {[425]} ، وكان ممن ينصره الله ورسوله ومن ينصر الله ينصره{[426]} وكان من جند الله ، وجند الله هم الغالبون{[427]} . فالهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر . فتبين أن هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب تحصل به كل منفعة ، وتندفع به كل مضرة .
( فائدة ) الصراط المستقيم أصله الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ، ويستعار لكل قول أو عمل يبلغ به صاحبه الغاية الحميدة . فالطريق الواضح للحس ، كالحق للعقل ، في أنه : إذا سير بهما أبلغا السالك النهاية الحسنى .