السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ} (6)

{ اهدنا الصراط المستقيم } بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال : كيف أعينكم فقالوا : اهدنا والهداية الدلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير .

فإن قيل : قال الله تعالى : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } ( الصافات ، 23 ) أجيب : بأنه وارد على التهكم .

تنبيه : هدى أصله أن يتعدّى باللام أو بإلى كقوله تعالى : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } ( الإسراء ، 9 ) { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } ( الأعراف ، 175 ) فعومل معاملة اختار في قوله تعالى : { واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا } ( الأعراف ، 155 ) وقد يتعدى بنفسه كما هنا وهو حينئذٍ محتمل لإضمار الحرف ولعدم إضماره وهداية الله تعالى تتنوّع أنواعاً لا يحصيها عدد كما قال تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } ( إبراهيم ، 34 ) ( النحل ، 18 ) ولكنها تنحصر في أجناس مرتبة ، الأوّل : إفاضة القوى التي يتمكن بها المؤمن من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة والثاني : نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد ، وإليه أشار تعالى حيث قال : { وهديناه النجدين } ( البلد ، 10 ) أي طريق الخير والشر وقال : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } ( فصلت ، 17 ) والثالث : الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإياها عنى بقوله تعالى : { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } ( الأنبياء ، 73 ) وقوله : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } ( الإسراء ، 9 ) والرابع : أن يكشف لقلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي والإلهام والمنامات الصادقة وهذا القسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى تعالى بقوله : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } ( الأنعام ، 90 ) وقوله : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } ( العنكبوت ، 69 ) .

فإن قيل : ما معنى طلب الهداية وهم مهتدون ؟ أجيب : بأنهم طلبوا زيادة ما منحوه من الهدى والثبات عليه كقوله تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى } ( محمد ، 17 ) والصراط من قلب السين صاداً ليطابق الطاء في الإطباق وقد تشمّ الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه ، قرأ حمزة الصراط المعرف في هذه السورة بالإشمام وهو أن ينطق القارئ بحرف متولد بين الصاد والزاي ، وأشمّ خلف صراط الثاني كالأوّل وكذا جميع ما في القرآن من معرف ومنكر ، وقرأ قنبل جميع ما في القرآن بالسين ، وقرأ الباقون بالصاد الخالصة في الجميع ، وهذه لغة قريش وهي الثابتة في الإمام وهو مصحف سيدنا عثمان رضي الله عنه تعالى والمستقيم المستوي ، والمراد به طريق الحق ، وقيل : ملة الإسلام ، وهذان القولان مرويان عن ابن عباس وهما متحدان صدقاً وإن اختلفا مفهوماً .