غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ} (6)

3

هدى يتعدى باللام أو بإلى { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [ الإسراء : 9 ] { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } [ الشورى : 52 ] فعومل معاملة اختار في قوله تعالى { واختار موسى قومه } [ الأعراف : 155 ] والأصل فيه الإمالة ومنه { إنا هدنا إليك } [ الأعراف : 156 ] أي ملنا والهدية لأنها تمال من ملك إلى ملك والهدي للذي يساق إلى الحرم أي أمل قلوبنا إلى الحق . والصراط الجادة ، وأصله السين من سرط الشيء ابتلعه لأنه يسرط السابلة إذا سلكوه كما سمي لقماً لأنه يلتقمهم ، ومثله مسيطر ومصيطر . والصراط يذكر ويؤنث كالطريق والسبيل .

في فوائد قوله { اهدنا الصراط المستقيم } :

الأولى : سئل أن طلب الهداية من المؤمن وهو مهدي تحصيل للحاصل . وأجيب بأن المراد منه صراط الأولين في تحمل ما يشق ، وكان تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى . يحكى أن نوحاً عليه السلام كان يضرب في كل يوم مرات بحيث يغشى عليه وكان يقول : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون . أيضاً إن في كل خلق من الأخلاق طرفي إفراط وتفريط هما مذمومان ، والحق هو الوسط والصواب . فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مهتدياً ، لكنه لابد مع ذلك من حصول الملكات والأخلاق الفاضلة التي هي وسط بين الطرفين ومستقيم بين المنحرفين . ففي القوة الشهوية طرف الإفراط فجور وطرف التفريط خمود وهما مذمومان ، والوسط وهو استعمالها في مواضعها على قضية العدالة والشريعة محمود وهو العفة ، وكذا في القوة الغضبية طرفا التهور والجبن مذمومان والوسط وهو الشجاعة محمود ، وفي القوة النفسانية الجربزة والبله مذمومان والوسط وهو الحكمة محمود . وبالجملة فإنه يحصل من توسيط استعمال القوة الشهوية الحياء والرفق والصبر والقناعة والورع والحرية والسخاء ، ومن توابع السخاء الكرم والإيثاء والعفو والمروءة والمسامحة ، ويلزم من توسط استعمال القوة الغضبية كبر النفس وعلو الهمة والثبات والحلم والسكون والتحمل والتواضع والحمية والرقة ، ومن توسط استعمال القوة النطقية الذكاء وسرعة الفهم وصفاء الذهن وسهولة التعلم وحسن التعقل والتحفظ والتذكر ، ويحصل من كمال التوسط في القوى الثلاث كمال العدالة ويتبعها الصداقة والألفة والوفاء والشفقة وصلة الرحم والمكافأة وحسن الشركة والتسليم والتوكل وتعظيم المعبود الحق وملائكته وأنبيائه وأولي الأمر والانقياد لأوامرهم ونواهيهم . والتقوى تكمل هذه المعاني وتتممها ، ولأن القوة النطقية ذاتية للإنسان ، والشهوية والغضبية حصلتا له بواسطة التعلقِ البدني ، فكمال التوسط في النطقية أن يستعملها بحيث لا يمكن أزيد منها . وكمال التوسط في الأخريين أن يستعملهما بحيث لا يمكن أقل من ذلك ليفضي غلى تحصيل سعادة الدارين . وأيضاً العلم النظري يقبل الزيادة بمعنى تواصل أوقاته وقلة الفترات ، وبمعنى زيادة الأدلة فليس من علم بدليل كمن علم بأدلة ، فلا موجود من أقسام الممكنات إلا وفيه دلالة على وجود الله وعلمه وقدرته ، وجوده ورحمته وحكمته . وربما صح دين الإنسان بالدليل الواحد وبقي غافلاً عن سائر الدلائل فكأنه يقول : عرفنا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وعلمك وقدرتك . وأيضاً قد يراد بالصراط المستقيم الاقتداء بالأنبياء ، وهو أن يكون الإنسان معرضاً عما سوى الله مقبلاً بكلية قلبه وفكره وذكره على الله ، حتى لو أمر بذبح ولده لأطاع كالخليل ، ولو أمر أن يذبح لانقاد كإسماعيل ، ولو أمر بإلقاء نفسه في البحر امتثل كيونس ، ولو أمر بتلمذة من هو أعلم منه بعد بلوغه أعلى منصب ائتمر كموسى مع الخضر . وعن خباب قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا ؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه ويجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصدّه ذلك عن دينه . وأيضاً كأن العبد يقول : الأحباب يدعونني إلى طريق ، والأعداء إلى طريق ثانٍ ، والشيطان إلى ثالث . وكذا القول في الشهوة والغضب والاعتقادات والآراء ، والعقل ضعيف ، والعمر قصير ، والقضاء عسير ، فاهدني هذا الطريق السوي الذي لا أزيغ به . حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت الله ، فإذا أعرابي على ناقة له . فقال : يا شيخ إلى أين ؟ فقال : إلى بيت الله . قال : كأنك مجنون ، لا أرى لك مركباً ولا زاداً والسفر طويل ! فقال إبراهيم : إن لي مراكب كثيرة ولكنك لا تراها . قال : وما هي ؟ قال : إذا نزلت عليّ بلية ركبت مركب الصبر ، وإذا أسديت إليّ نعمة ركبت مركب الشكر ، وإذا ألم بي القضاء ركبت مركب الرضا ، وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى . فقال الأعرابي : سر بإذن الله فأنت الراكب وأنا الراجل . وقيل : الصراط القرآن أو الإسلام وليس بشيء ، إذ يصير المعنى اهدنا صراط المتقدمين ، مع أنه لم يكن لهم قرآن ولا إسلام ، اللهم إلا أن يراد أصول هذه الشريعة وقوانينها كما قال

{ فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] . وعن علي كرم الله وجهه : ثبتنا على الهداية كقوله

{ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } [ آل عمران : 8 ] فكم من عالم يزل ومهتد يضل . وفي اختيار لفظ الصراط دون الطريق أو السبيل ، تذكير للصراط الذي هو الجسر الممدود بين طرفي جهنم ، سهل الله تعالى علينا عبوره ووروده .

الثانية : إنما قبل { اهدنا } بلفظ الجمع لأن الدعاء متى كان أعم كان إلى الإجابة أقرب ، ولهذا قال بعض العلماء لتلميذه : إذا قلت قبل القراءة " رضي الله عنك ، وعن جماعة المسلمين " فإياك وأن تنساني في قولك " وعن جماعة المسلمين " فإن ذلك أوقع عندي من قولك " رضي الله عنك " ، لأن هذا تخصيص بالدعاء ويجوز أن لا يقبل ، وأما قولك " وعن المسلمين " فإنه أرجى لأنه لابد أن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة ، وإذا أجاب الله دعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي . ومن هنا ورد في السنة أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم قبل كل دعاء وبعده ، لأن الدعاء في الطرفين مستجاب ألبتة لأنه في حق النبي صلى الله عليه وسلم فيستجاب الوسط بتبعية ذلك لا محالة . وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم : " ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها " . قالوا : يا رسول الله ، ومن لنا بتلك الألسنة ؟ قال : " يدعو بعضكم لبعض لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك " وأيضاً { الحمد لله } شامل لحمد جميع الحامدين ، و{ إياك نعبد } لعبادة الجميع ، { وإياك نستعين } لاستعانة الكل ، فلا جرم لما طلب الهداية طلبها للكل كما طلب الاقتداء بالصالحين جميعاً في قوله : { صراط الذين أنعمت عليهم } والفرار من الطالحين جميعاً في قوله : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } . وإذا كان كذلك في الدنيا يرجى أن يكون كذلك في الآخرة

{ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً } [ النساء : 69 ] .

الثالثة : الخط المستقيم أقرب خط يصل بين النقطتين ، والعبد عاجز فلا يليق بضعفه إلا الطريق المستقيم . وأيضاً المستقيم واحد وما سواه معوجة يشبه بعضها بعضاً في الاعوجاج ، فكان أبعد من الخوف وأقرب إلى الخلاص . وأيضاً ميل الطباع إلى الاستقامة أكثري فلهذه الأسباب سئل الصراط المستقيم .