الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ} (6)

قوله تعالى : { اهْدِنَا الصّرَاطَ } : إلى آخرها : اهْدِ : صيغةُ أمرٍ ومعناها الدعاءُ . وهذه الصيغةُ تَرِدُ لمعانٍ كثيرةٍ ذَكرها الأصوليون . وقال بعضهم : إنْ وَرَدَتْ صيغة افعَلْ من الأعلى للأَدنى قيل فيها أمرٌ ، وبالعكس دعاءٌ ، ومن المساوي التماسٌ . وفاعلُه مستترٌ وجوباً لما مَرَّ ، أي : اهدِ أنت ، ونا مفعول أول ، وهو ضميرٌ متصلٌ يكونُ للمتكلم مع غيرِه أو المعظِّم نفسَه ، ويستعملُ في موضع الرفع والنصب والجر بلفظٍ واحدٍ : نحو : قُمنَا وضرَبَنَا زيدٌ وَمَرَّ بنا ، ولا يشاركه في هذه الخصوصية غيرُه من الضمائر . وقد زعم بعض الناس أن الياء كذلك . تقول : أكرمَنَي وَمرِّ بي ، وأنت تقومين يا هند ، فالياء في المثال الأول منصوبةٌ المحلِّ ، وفي الثاني مجرورتُه ، وفي الثالث مرفوعتُه . وهذا ليس بشيء ، لأن الياءَ في حالة الرفع ليست تلك الياءَ التي في حالة النصب والجر ، لأن الأولى للمتكلمِ ، وهذه للمخاطبةِ المؤنثةِ . وقيل : بل يشاركه لفظُ " هُمْ " ، تقول : هم نائمون وضربَهم ومررت بهم ، ف " هم " مرفوعُ المحلِّ ومنصوبُه ومجرورهُ بلفظٍ واحدٍ ، وهو للغائِبِين في كل حال ، وهذا وإن كان أقربَ من الأول ، إلا أنه في حالة الرفع ضميرٌ منفصل ، وفي حالة النصب والجر ضميرٌ متصلٌ ، فافترقا ، بخلاف " نا " فإن معناها لا يختلف ، وهي ضمير متصلٌ في الأحوال الثلاثة .

والصراطَ : مفعول ثان ، والمستقيمَ : صفتُه ، وقد تَبِعه في الأربعة من العشرة المذكورة .

وأصل " هَدَى " أن يتعدى إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرفِ الجر وهو إمَّا : إلى أو اللام ، كقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] { يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] ، ثم يُتَّسَعُ فيه ، فيُحذَفُ الحرفُ الحرفُ فيتَعَدَّى بنفسِه ، فأصلُ اهدِنا الصراط : اهدنا للصراط أو إلى الصراطِ ، ثم حُذِف .

والأمرُ عند البصريين مبنيٌّ وعند الكوفيين معرب ، وَيدَّعون في نحو : " اضرب " أنَّ أصله : لِتَضْرِب بلام الأمر ، ثم حُذِف الجازم وَتِبِعه حرفُ المضارعة وأُتِيَ بهمزة الوصل لأجلِ الابتداء بالساكن ، وهذا ما لا حاجة إليه ، وللردِّ عليهم موضع أَلْيَقُ به .

ووزن اهْدِ : افْعِ ، حُذِفَت لامُه وهي الياء حَمْلاً للأمر على المجزوم والمجزوم تُحذف منه لامُه إذَا كَانَتْ حرفَ علةٍ .

والهدايةُ : الإِرشادُ أو الدلالةُ أو التقدمُ ، ومنه هَوادِي الخيل لتقدُّمِها قال امرؤ القيس :

فَأَلْحَقَه بالهاديات ودونَه *** جواحِرُها في صَرَّةٍ لم تَزَيًّلِ

أو التبيينُ نحو : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } [ فصلت : 17 ] . أي بَيَّنَّا لهم ، أو الإِلهامُ ، نحو : { أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] أي ألهمه لمصالِحه ، أو الدعاءُ كقوله تعالى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] أي داعٍ . وقيل هو المَيلُ ، ومنه { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 56 ] ، والمعنى : مِلْ بقلوبنا إليك ، وهذا غَلَطٌ ، فإنَّ تَيْكَ مادة أخرى من هادَ يَهُود . وقال الراغب : " الهدايةُ دَلالةٌ بلطفٍ ومنه الهَدِيَّةُ وهوادي/ الوحش أي المتقدِّماتُ الهاديةُ لغيرها ، وخُصَّ ما كان دلالةً بَهَدَيتُ ، وما كان إعطاءً بأَهْديت .

والصراطُ : الطريقُ المُسْتَسْهَل ، وبعضُهم لا يقيِّدُه بالمستسهلِ ، قال :

فَضَلَّ عن نَهْج الصراطِ الواضِحِ

ومثله :

أميرُ المؤمنين على صِراطٍ *** إذا اعْوَجَّ المَوارِدُ مستقيمِ

وقال آخر :

شَحَنَّا أرضَهم بالخيلِ حتى *** تَرَكْناهُمْ أَذَلَّ من الصِّراطِ

أي الطريق ، وهو مشتق من السِّرْطِ ، وهو الابتلاعُ : إمَّا لأن سالكه يَسْتَرِطه أو لأنه يَسْتَرِط سالكَه ، ألا ترى إلى قولهم : " قَتَلَ أرضاً عالِمُها وقتلت أرضٌ جاهلَهَا " ، وبهذين الاعتبارين قال أبو تمام :

رَعَتْه الفيافي بعدما كان حِقْبةً *** رعاها وماءُ المُزْنِ يَنْهَلُّ ساكِبُهْ

وعلى هذا سُمِّي الطريق لَقَماً ومُلْتَقِماً لأنه يلتقِمُ سالكه أو يلتقمُه سَالِكُه .

وأصلُه السينُ ، وقد قَرَأ به قنبل حيث وَرَدَ ، وإنما أُبدلَتْ صاداً لأجل حرف الاستعلاء وإبدالُها صاداً مطردٌ عنده نحو : صَقَر في سَقَر ، وصُلْح في سُلْح ، وإصْبَع في اسبَع ، ومُصَيْطِر في مُسَيْطر ، لما بينهما من التقارب .

وقد تُشَمُّ الصادُ في الصراطِ ونحوهِ زاياً ، وقرأ به خلف حيث وَرَد ، وخلاَّد الأول فقط ، وقد تُقْرَأ زاياً مَحْضَةً ، ولم تُرْسم في المصحف إلا بالصادِ مع اختلافِ قراءاتِهم فيها كما تقدم .

والصِّراطُ يُذَكَّر ويؤنَّث ، فالتذكيرُ لغة تميم ، وبالتأنيث لغة الحجاز ، فإنْ استُعْمل مذكَّراً جُمِعَ في القلة على أَفْعِلة ، وفي الكثرة على فُعُل ، نحو : حِمار وأَحْمِرة وحُمُر ، وإن استعمل مؤنثاً فقياسُه أَن يُجْمع على أَفْعُل نحو : ذِراع وأَذْرُع . والمستقيم : اسم فاعل من استقام بمعنى المجرد ، ومعناه السويُّ من غير اعوجاج وأصله : مُسْتَقْوِم ، ثم أُعِلَّ كإعلالِ نَسْتعين ، وسيأتي الكلامُ مستوفى على مادته عند قوله تعالى : { يُقِيمُونَ الصَّلاةَ } .