روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ} (6)

{ اهدنا الصراط المستقيم } الهداية دلالة بلطف لدلالة اشتقاقه ومادته عليه ولذا أطلق على المشي برفق تهاد ، وسميت الهداية لطفاً وقوله تعالى : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } [ الصافت : 23 ] وارد على الصحيح مورد التهكم على حد { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الإنشقاق : 24 ] ويقال : هداه لكذا وإلى كذا فتعديه باللام وإلى إذا لم يكن فيه وهداه كذا بدونهما محتمل للحالين حتى لا يجوز في { والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] لسبلنا أو إلى سبلنا إلا بإرادة الإرادة في جاهدوا أو إرادة تحصيل المراتب العلية في سبلنا ، ومن ثم جمعها ، وقد ورد : من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم ، وقد يقال : المراد بيان الاستعمال الحقيقي ، وأما باب التجوز فواسع ، وهل يعتبر في الدلالة الإيصال أم لا فيه اختلاف المتأخرين من أهل اللسان ففريق خصها بالدلالة الموصلة وآخرون بالدلالة على ما يوصل ، وقليل قال : إن تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها كانت بمعنى الإيصال ، ولا تسند إلا إليه تعالى كما في الآية ، وإن تعدت باللام أو إلى كانت بمعنى إراءة الطريق ، فكما تسند إليه سبحانه تسند إلى القرآن كقوله تعالى : { إِنَّ هذا القرءان يِهْدِي للتي هِىَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] وإلى النبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] والكل من هذه الآراء غير خال عن خلل ، أما الأول فيرد عليه قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } والجواب بجواز وقوعهم في الضلال بالارتداد بعد الوصول إلى الحق لا يساعده ما في التفاسير والتواريخ فإنها ناطقة بأن الجم الغفير من قوم ثمود لم يتصفوا بالإيمان قطعاً ومن آمن من قومه إلا قليل وقد بقوا على إيمانهم ولم يرتدوا على أن صاحب الذوق يدرك من نفس الآية خلاف الفرض كما لا يخفى . وأما الثاني فيرد عليه قوله تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] وما يقال إنه على حد قوله تعالى : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] أو أن المعنى أنك لا تتمكن من إراءة الطريق لكل من أحببت بل إنما يمكنك إراءاته لمن أردنا لا يخلو عن تكلف ، وأما الثالث فإن كلام أهل اللغة لا يساعده بل ينادي بما ينافيه ، ومع ذلك فالقول بأن المتعدية لا تسند إلا إلى الله تعالى منتقض بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام : { ياأبت إِنّي قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } [ مريم : 43 ] وعن مؤمن آل فرعون { ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد } [ غافر : 38 ] ولهذا الخلل قال طائفة بالاشتراك والبحث لغوي لا دخل للاعتزال فيه وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمته { والصراط } الطريق وأصله بالسين من السرط ، وهو اللقم ولذلك يسمى لقماً كأن سالكه يبتلعه أو يبتلع سالكه ففي الأزهري أكلته المفازة إذا نهكته لسيره فيها وأكل المفازة إذا قطعها بسهولة قال أبو تمام :

رعته الفيافي بعد ما كان حقبة *** رعاها وماء المزن ينهل ساكبه

وبالسين على الأصل قرأ ابن كثير برواية قنبل ورويس اللؤلؤي عن يعقوب ، وقرأ الجمهور بالصاد ، وهي لغة قريش وقرأ حمزة بإشمام الصاد زاياً والزاي الخالصة لغة لعذرة وكعب والصاد عندي أفصح وأوسع وأهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق والسبيل والزقاق والسوق وبنو تميم يذكرون هذا كله ، وتذكيره هو الأكثر ويجمع في الكثرة على صرط ككتاب وكتب وفي القلة قياسه أصرطة ، هذا إذا كان الصراط مذكراً ، وأما إذا أنث فقياسه أفعل نحو ذراع وأذرع و { الصراط المستقيم } المستوى الذي لا اعوجاج فيه واختلف في المراد منه فقيل الطريق الحق . وقيل ملة الإسلام . وقيل القرآن وردهما الرازي قدس سره بأن قوله تعالى : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلِيهم } يدل على الصراط المستقيم ، وهم المتقدمون من الأمم وما كان لهم القرآن والإسلام وفيه ما لا يخفى ، والعجب كل العجب من هذا المولى أنه ذكر في أحد الوجوه المرضية عنده أن الصراط المستقيم هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال وأكد ذلك بقوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } [ البقرة : 143 ] ، فياليت شعري ماذا يقول لو قيل له لم يكن هذا للمتقدمين من الأمم وتلونا عليه الآية التي ذكرها ، وسبحان من لا يرد عليه وقيل المراد به معرفة ما في كل شيء من كيفية دلالته على الذات والصفات وقيل المراد منه صراط الأولين في تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى ، وقيل العبادة لقوله تعالى : { وَأَنِ اعبدوني هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } [ يس : 61 ] والقرآن يفسر بعضه بعضاً وفيه نظر ، وقيل هو الإعراض عن السوى والإقبال بالكلية على المولى ، وقال الشيخ الأكبر قدس سره : هو ثبوت التوحيد في الجمع والتفرقة ، ولهم أقوال غير ذلك قريبة وبعيدة ، وعندي بعد الاطلاع على ما للعلماء وكل حزب بما لديهم فرحون أن الصراط المستقيم بتنوع إلى عام للناس وخاص بخواصهم والكل منهما صراط المنعم عليهم على اختلاف درجاتهم ، فالأول : جسر بين العبد وبين الله سبحانه ممدود على متن جهنم الكفر والفسق والجهل والبدع والأهواء وهو الاستقامة على ما ورد به الشرع الشريف القوم علماً وعملاً وخلقاً وحالاً وهو الذي يظهر في الآخرة على متن جهنم الجزاء ممثلاً مصوراً بالتمثيل الرباني والتصوير الإلهي على حسب ما عليه العبد اليوم فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد دون ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، وللتذكير بذلك الصراط لم يقل السبيل ولا الطريق وإن كان الكل واحداً ، الثاني : طريق الوصول إلى الله تعالى ، ومن شهد الخلق لا فعل لهم فقد فاز ومن شهدهم لا حياة لهم فقد جاز ومن شهدهم عين العدم فقد وصل وتم سفره إلى الله تعالى ، ثم يتجدد له السفر فيه سبحانه وهو غير متناه لأن نعوت جماله وجلاله غير متناهية ولا يزال العبد يرقى من بعضها إلى بعض كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم : «إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة » وهناك يكون عز شأنه يده وسمعه وبصره فبه يبطش وبه يسمع وبه يبصر ووراء ذلك ما يحرم كشفه ، فمتى قال العامي اهدنا الصراط المستقيم أراد أرشدنا إلى الاستقامة على امتثال أوامرك واجتناب نواهيك ، ومتى قال ذلك أحد الخواص أراد ثبتنا على ما منحتنا به ، وهو المروي عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه وأبيّ رضي الله تعالى عنه ، وذلك لأن طالب هداية الطريق المستقيم ليسلكه له في سلوكه مقامات وأحوال ، ولكل منها بداية ونهاية ولا يصل إلى النهاية ما لم يصحح البداية ولا ينتقل إلى مقام أو حال إلا بعد الرسوخ فيما تحته والثبات عليه ، فما دام هو في أثناء المقام أو الحال ولم يصل إلى نهاية يطلب الثبات على ما منح به ليرسخ له ذلك المقام ويصير ملكه فيرقى منه إلى ما فوقه وذلك هو الفضل الكبير والفوز العظيم ، وللمحققين في معنى اهدنا وجوه دفعوا بها ما يوشك أن يسأل عنه من أن المؤمن مهتد فالدعاء طلب لتحصيل الحاصل .

أحدها : أن معناه ثبتنا على الدين كيلا تزلزلنا الشبه وفي القرآن { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } [ آل عمران : 8 ] وفي الحديث : «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك » وثانيها : أعطنا زيادة الهدى كما قال تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] وثالثها : أن الهداية الثواب كقوله تعالى : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } [ يونس : 9 ] فالمعنى اهدنا طريق الجنة ثواباً لنا وأيد بقوله تعالى : { الحمد لِلَّهِ الذي هَدَانَا لهذا } [ الأعراف : 43 ] ورابعها : أن المراد دلنا على الحق في مستقبل عمرنا كما دللتنا عليه في ماضيه ، ولهم بعد أيضاً كلمات متقاربة غير هذا ولعله يغنيك عن الكامل ما ذكره الفقير فتدبره ولا تغفل .

بقي الكلام في ربط هذه الجملة بما قبلها ، وقد قيل : إن عندنا احتمالات أربعة ؛ لأن طلب المعونة إما في المهمات كلها أو في أداء العبادة ؛ والصراط المستقيم إما أن يؤخذ بمعنى خاص كملة الإسلام ، أو بمعنى عام كطريق الحق خلاف الباطل ، فعلى تقديري عموم الاستعانة والصراط وخصوصهما يكون اهدنا بياناً للمعونة المطلوبة كأنه قال : كيف أعينكم في المهمات أو في العبادة ؟ فقالوا اهدنا طريق الحق في كل شيء أو ملة الإسلام فيكون الفصل لشبه كمال الاتصال وعلى تقدير عموم الاستعانة وخصوص الصراط يكون اهدنا إفراداً للمقصود الأعظم من جميع المهمات فيكون الفصل حينئذٍ لكمال الاتصال ، وأما على تقدير خصوص الاستعانة وعموم الصراط فلا ارتباط ، وما عندي غير خفي عليك إن أحطت خبراً بما قدمناه لديك . وقد قرأ الحسن والضحاك وزيد بن علي صراطاً مستقيماً دون تعريف ، وقرأ جعفر الصادق صراط المستقيم بالإضافة والمتواتر ما تلوناه