إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ} (6)

{ إهدنا الصراط المستقيم } إفراد - لمعظم أفراد المعونة المسؤولة - بالذكر ، وتعيينٌ لما هو الأهمُ أو بيان لها ، كأنه قيل : كيف أُعينكم فقيل : اهدنا .

والهدايةُ دلالةٌ بلطفٍ على ما يوصِلُ إلى البُغية ، ولذلك اختصّتْ بالخير ، وقوله تعالى : { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الجحيم } [ الصافات ، الآية 23 ] وارد على نهج التهكّم ، والأصلُ تعديتُها بإلى واللام ، كما في قوله تعالى : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِي إِلَى الحق قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقّ } [ يونس ، الآية 35 ] فعومل معاملةَ اختارٍ في قوله تعالى : { واختار مُوسَى قَوْمَهُ } [ الأعراف ، الآية 155 ] وعليه قولُه تعالى : { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت ، الآية 69 ] وهدايةُ الله تعالى مع تنوعها إلى أنواع لا تكاد تُحصر منحصرةٌ في أجناس مترتبة ، ( منها ) أنفسيةٌ ، كإفاضة القُوى الطبيعيةِ والحيوانية التي بها يصدُر عن المرء فاعليته الطبيعية الحيوانية ، والقوى المدرِكة ، والمشاعرُ الظاهرةُ والباطنة التي بها يتمكن من إقامة مصالِحه المعاشيةِ والمعاديّة ، ( ومنها ) آفاقيةٌ ، فإما تكوينيةٌ مُعْرِبة عن الحق بلسان الحال ، وهي نصبُ الأدلةِ المُودَعةِ في كل فردٍ من أفراد العالم حسبما لُوِّحَ به فيما سلف ، وإما تنزيليةٌ مُفْصِحةٌ عن تفاصيل الأحكامِ النظريةِ والعمليةِ بلسان المقالِ ، بإرسال الرسل ، وإنزال الكتبِ المنطويةِ على فنون الهدايات التي من جملتها الإرشادُ إلى مسلك الاستدلالِ بتلك الأدلة التكوينيةِ الآفاقيةِ والأنفسية ، والتنبيهُ على مكانها ، كما أشير إليه مُجملاً في قوله تعالى :

{ وَفِى الأرض آيَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ . وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات ، الآية 20 و21 ] وفي قوله عز وعلا : { إِنَّ في اختلاف الليل والنهار وَمَا خَلَقَ الله فِي السموات والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } [ يونس ، الآية 6 ] ( ومنها ) الهدايةُ الخاصة وهي كشفُ الأسرارِ على قلب المُهْدَى بالوحي ، أو الإلهام .

ولكل مرتبةٍ من هذه المراتب صاحبٌ ينتحيها ، وطالبٌ يستدعيها ، والمطلوب إما زيادتُها كما في قوله تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد ، الآية 17 ] وإما الثباتُ عليها كما روي عن علي وأبي رضي الله عنهما : إهدنا ثبّتنا ، ولفظ الهداية على الوجه الأخير مَجازٌ قطعاً ، وأما على الأول فإن اعتُبر مفهومُ الزيادة داخلاً في المعنى المستعمل فيه كان مجازاً أيضاً ، وإن اعتُبر خارجاً عنه مدلولاً عليه بالقرائنِ كان حقيقة ، لأن الهداية الزائدةَ هداية ، كما أن العبادة الزائدةَ عبادة ، فلا يلزم الجمعُ بين الحقيقة والمجاز ، وقُرئ أرشِدْنا ، والصراطُ الجادةُ وأصلُه السين ، قُلبت صاداً لمكان الطاء كمصيطر في مسيطر ، من سَرَط الشيء إذا ابتلعه ، سُمّيت به لأنها تسترِطُ السابلةَ إذا سلكوها ، كما سميت لَقْماً لأنها تلتقمهم وقد تُشَمُّ الصاد صوت الزاي تحرياً للقرب من المبدَل منه . وقد قرئ بهن جميعاً ، وفُصحاهن إخلاصُ الصاد ، وهي لغة قريش ، وهي الثابتةُ في الإمام ، وجمعه صُرُط ككتاب وكُتب ، وهو كالطريق والسبيل في التذكير والتأنيث ، و( المستقيمُ ) المستوي ، والمراد به طريقُ الحق وهي الملة الحنيفية السمْحة المتوسطةُ بين الإفراط والتفريط .