المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا} (26)

26- فكلي منه واشربي ، وطيبي نفساً . فإن رأيت أحداً من البشر ينكر عليك أمرك ، فأشيري إليه أنك صائمة عن الكلام ، ولن تتحدثي اليوم إلى أحد .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا} (26)

قوله تعالى : { فكلي واشربي } ، أي : فكلي يا مريم من الرطب ، واشربي من ماء النهر ، { وقري عيناً } ، أي : طيبي نفساً . وقيل : قري عينك بولدك عيسى . يقال : أقر الله عينك أي : صادف فؤادك ما يرضيك ، فتقر عينك من النظر إلى غيره . وقيل : أقر الله عينه : يعني أنامها ، يقال : قر يقر إذا سكن . وقيل : إن العين إذا بكت من السرور فالدمع بارد ، وإذا بكت من الحزن فالدمع يكون حراً ، فمن هذا قيل : أقر الله عينه وأسخن الله عينه . { فإما ترين من البشر أحداً } ، أي : تري ، فدخل عليه نون التأكيد من الحزن فالدمع يكون حاراً ، فمن هذا قيل : أقر الله عينه وأسخن الله عينه . { فإما ترين من البشر أحداً } ، أي : تري ، فدخل عليه نون التأكيد فكسرت الياء لالتقاء الساكنين . معناه : فإما ترين من البشر أحداً فيسألك عن ولدك { فقولي إني نذرت للرحمن صوماً } ، أي : صمتاً ، وكذلك كان يقرأ ابن مسعود رضي الله عنه . والصوم في اللغة الإمساك عن الطعام والشراب والكلام . قال السدي : كان في بني إسرائيل من أراد أن يجتهد صام عن الكلام ، كما يصوم عن الطعام ، فلا يتكلم حتى يمسي . وقيل : إن الله تعالى أمرها أن تقول هذا إشارةً . وقيل : أمرها أن تقول هذا القدر نطقاً ، ثم تمسك عن الكلام بعده . { فلن أكلم اليوم إنسياً } ، يقال : كانت تكلم الملائكة ، ولا تكلم الإنس .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا} (26)

وأما من جهة قالة الناس ، فأمرها أنها إذا رأت أحدا من البشر ، أن تقول على وجه الإشارة : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ْ } أي : سكوتا { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ْ } أي : لا تخاطبيهم بكلام ، لتستريحي من قولهم وكلامهم . وكان معروفا عندهم أن السكوت من العبادات المشروعة ، وإنما لم تؤمر بخطابهم في نفي ذلك عن نفسها لأن الناس لا يصدقونها ، ولا فيه فائدة ، وليكون تبرئتها بكلام عيسى في المهد ، أعظم شاهد على براءتها ، . فإن إتيان المرأة بولد من دون زوج ، ودعواها أنه من غير أحد ، من أكبر الدعاوى ، التي لو أقيم عدة من الشهود ، لم تصدق بذلك ، فجعلت بينة هذا الخارق للعادة ، أمرا من جنسه ، وهو كلام عيسى في حال صغره جدا ، ولهذا قال تعالى : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا} (26)

قرأ بعضهم { مَنْ تَحْتَهَا } بمعنى{[18763]} الذي تحتها . وقرأ آخرون : { مِنْ تَحْتِهَا } على أنه حرف جر .

واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو ؟ فقال العوفي وغيره ، عن ابن عباس : { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا } جبريل ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها ، وكذا قال سعيد بن جبير ، والضحاك ، وعمرو بن ميمون ، والسدي ، وقتادة : إنه الملك جبريل عليه الصلاة والسلام ، أي : ناداها من أسفل الوادي .

وقال مجاهد : { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا } قال : عيسى ابن مريم ، وكذا قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة قال : قال الحسن : هو ابنها . وهو إحدى{[18764]} الروايتين عن سعيد بن جبير : أنه ابنها ، قال : أولم{[18765]} تسمع الله يقول : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } [ مريم : 29 ] ؟ واختاره ابن زيد ، وابن جرير في تفسيره{[18766]}

وقوله : { أَلا تَحْزَنِي } أي : ناداها قائلا لا تحزني ، { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } قال سفيان الثوري وشعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } قال : الجدول . وكذا قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : السريّ : النهر . وبه قال عمرو بن ميمون : نهر تشرب منه .

وقال مجاهد : هو النهر بالسريانية .

وقال سعيد بن جُبَيْر : السري : النهر الصغير بالنبطية .

وقال الضحاك : هو النهر الصغير بالسريانية .

وقال إبراهيم النَّخَعِي : هو النهر الصغير .

وقال قتادة : هو الجدول بلغة أهل الحجاز .

وقال وهب بن مُنَبِّه : السري : هو ربيع الماء .

وقال السدي : هو النهر ، واختار هذا القول ابن جرير . وقد ورد في ذلك حديث مرفوع ، فقال الطبراني :

حدثنا أبو شعيب الحَرَّاني : حدثنا يحيى بن عبد الله البَابلُتِّي{[18767]} حدثنا أيوب بن نَهِيك ، سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول : سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن السري الذي قال الله لمريم : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } نهر أخرجه الله لتشرب منه " {[18768]} وهذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه . وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلي{[18769]} قال فيه أبو حاتم الرازي : ضعيف . وقال أبو زُرْعَة : منكر الحديث . وقال أبو الفتح الأزدي : متروك الحديث .

وقال آخرون : المراد بالسري : عيسى ، عليه السلام ، وبه قال الحسن ، والربيع بن أنس ، ومحمد بن عَبَّاد بن جعفر . وهو إحدى الروايتين عن قتادة ، وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، والقول الأول أظهر ؛ ولهذا قال بعده : { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ } أي : وخذي إليك بجذع النخلة . قيل : كانت يابسة ، قاله ابن عباس . وقيل : مثمرة . قال مجاهد : كانت عجوة . وقال الثوري ، عن أبي داود{[18770]} نُفَيْع الأعمى : كانت صَرَفَانة{[18771]}

والظاهر أنها كانت شجرة ، ولكن لم تكن في إبان ثمرها ، قاله وهب بن منبه ؛ ولهذا امتن عليها بذلك ، أن جعل عندها طعامًا وشرابًا ، فقال : { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا } أي : طيبي نفسًا ؛ ولهذا قال عمرو بن ميمون : ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب ، ثم تلا هذه الآية الكريمة .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا شَيْبَان ، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي{[18772]} حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، عن عُروة بن رُوَيْم ، عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكرموا عمتكم النخلة ، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام ، وليس من الشجر شيء{[18773]} يُلَقَّح غيرها " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أطعموا نساءكم الولدَ الرطَبَ ، فإن لم يكن رطب فتمر ، وليس من الشجرة شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران " .

هذا حديث منكر جدًّا ، ورواه أبو يعلى ، عن شيبان ، به{[18774]}

وقرأ بعضهم قوله : " تساقط " بتشديد السين ، وآخرون بتخفيفها ، وقرأ أبو نَهِيك : { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا } وروى أبو إسحاق عن البراء : أنه قرأها : " تساقط " {[18775]} أي : الجذع . والكل متقارب .

وقوله : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا } أي : مهما رأيت من أحد ، { فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } المراد بهذا القول : الإشارة إليه بذلك . لا أن{[18776]} المراد به القول اللفظي ؛ لئلا ينافي : { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا }

قال أنس بن مالك في قوله : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا } أي : صمتًا{[18777]} وكذا قال ابن عباس ، والضحاك . وفي رواية عن أنس : " صومًا وصمتًا " ، وكذا قال قتادة وغيرهما .

والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام ، نص على ذلك السدي ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد .

وقال أبو إسحاق ، عن حارثة قال : كنت عند ابن مسعود ، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ، فقال : ما شأنك ؟ قال أصحابه : حلف ألا يكلم الناس اليوم . فقال عبد الله بن مسعود : كلِّم الناس وسلم عليهم ، فإنما تلك امرأة علمت أن أحدًا لا يصدقها أنها حملت من غير زوج . يعني بذلك مريم ، عليها السلام ؛ ليكون عذرًا لها إذا سئلت . ورواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، رحمهما الله .

وقال عبد الرحمن بن زيد : لما قال عيسى لمريم : { أَلا تَحْزَنِي } قالت : وكيف لا أحزن وأنت معي ؟ ! لا ذاتُ زوج ولا مملوكة ، أي شيء عذري عند الناس ؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا ، قال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } قال : هذا كله من كلام عيسى لأمه . وكذا قال وهب .


[18763]:في أ: "أي".
[18764]:في ت: "أحد".
[18765]:في ت، أ: "ولم".
[18766]:تفسير الطبري (16/52).
[18767]:في أ: "يحيى بن عبد النابلتي".
[18768]:المعجم الكبير (12/346).
[18769]:في أ: "الحلبي".
[18770]:في ت: "عن أبي الأسود".
[18771]:في ف، أ: "صوفانة".
[18772]:في ت: "التيمي".
[18773]:في ف: "وليس شيء من الشجر".
[18774]:مسند أبي يعلى (1/353) ورواه أبو نعيم ف الحلية (6/123) وابن عدي في الكامل (6/431) من طريق مسرور بن سعد التميمي به، وقد ذكر له ابن عدي ثلاث علل: 1 - تفرد به مسرور عن الأوزاعي فهو منكر.2 - أنه منقطع بين عروة بن رويم وعلي بن أبي طالب.3 - أن مسور بن سعيد غير معروف. قلت: وضعفه ابن حبان والعقيلي.
[18775]:في أ: "يساقط".
[18776]:في ت: "لأن".
[18777]:في أ: "صوتا".

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا} (26)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِيَ إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمََنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً } .

يقول تعالى ذكره : فكلي من الرطب الذي يتساقط عليك ، واشربي من ماء السريّ الذي جعله ربك تحتك ، لا تخشي جوعا ولا عطشا وَقَرّي عَيْنا يقول : وطيبي نفسا وَافرحي بولادتك إياي ولا تحزني . ونصبت العين لأنها هي الموصوفة بالقرار . وإنما معنى الكلام : ولتقرِر عينك بولدك ، ثم حوّل الفعل عن العين إلى المرأة صاحبة العين ، فنصبت العين إذ كان الفعل لها في الأصل على التفسير ، نظير ما فعل بقوله : فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا وإنما هو : فإن طابت أنفسهن لكم . وقوله : وَضَاقَ بِهِم ذَرْعا ومنه قوله : «يُساقِطْ عَلَيْكِ رُطُبا جَنِيّا » إنما هو يساقط عليك رطب الجذع ، فحوّل الفعل إلى الجِذع ، في قراءة من قرأه بالياء . وفي قراءة من قرأه : تُساقِطْ بالتاء ، معناه : يساقط عليك رطب النخلة ، ثم حوّل الفعل إلى النخلة .

وقد اختلفت القراء في قراءة قوله : وقَرّي فأما أهل المدينة فقرأوه : وَقَرّي بفتح القاف على لغة من قال : قَرِرت بالمكان أَقَرّ به ، وقَرِرت عينا ، أَقَرّ به قُرورا ، وهي لغة قريش فيما ذكر لي وعليها القراءة . وأما أهل نجد فإنها تقول قررت به عينا أقربه قرارا وقررت بالمكان أقر به ، فالقراءة على لغتهم : «وَقرِي عَيْنا » بكسر القاف ، والقراءة عندنا على لغة قريش بفتح القاف .

وقوله : فإمّا تَرِيَنّ مِنَ البَشَرِ أحَدا يقول : فإن رأيت من بني آدم أحدا يكلمك أو يسائلك عن شيء من أمرك وأمر ولدك وسبب ولادتكه فَقُولي إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما يقول : فقولي : إني أوجبت على نفسي لله صمتا ألاّ أكلم أحدا من بني آدم اليوم فَلَنْ أُكَلّمَ اليَوْمَ إنْسِيّا .

وبنحو الذي قلنا في معنى الصوم ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول في هذه الاَية إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما صمتا .

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا حجاج ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني المغيرة بن عثمان ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما قال : صمتا .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما قال : يعني بالصوم : الصمت .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيميّ ، قال : سمعت أنسا قرأ : «إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما وَصَمْتا » .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما أما قوله : صَوْما فإنها صامت من الطعام والشراب والكلام .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما قال : كان من بني إسرائيل من إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم من الطعام ، إلا مِن ذكر الله ، فقال لها ذلك ، فقالت : إني أصوم من الكلام كما أصوم من الطعام ، إلا من ذكر الله فلما كلموها أشارت إليه ، فقالوا : كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ كانَ فِي المَهْدِ صَبِيّا فأجابهم فقال : إنّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الكِتابَ حتى بلغ ذلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمْ قَوْلَ الحَقّ الّذِي فِيهِ يَمترُونَ .

واختلفوا في السبب الذي من أجله أمرها بالصوم عن كلام البشر ، فقال بعضهم : أمرها بذلك لأنه لم يكن لها حجة عند الناس ظاهرة ، وذلك أنها جاءت وهي أيّم بولد بالكفّ عن الكلام ليكفيها فأمرت الكلام ولدها . . ذكر من قال ذلك :

حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن حارثة ، قال : كنت عند ابن مسعود ، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الاَخر ، فقال : ما شأنك ؟ فقال أصحابه : حلف أن لا يكلم الناس اليوم ، فقال عبد الله : كلم الناس وسلم عليهم ، فإن تلك امرأة علمت أن أحدا لا يصدّقها أنها حملت من غير زوج ، يعني بذلك مريم عليها السلام .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد لما قال عيسى لمريم لا تَحْزَنِي قالت : وكيف لا أحزن وأنت معي ، لا ذات زوج ولا مملوكة ، أيّ شيء عذري عند الناس يا لَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام فإمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أحَدا فقُولي إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما فَلَنْ أُكَلّمَ اليَوْمَ إنْسِيّا قال : هذا كله كلام عيسى لأمه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه فإمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أحَدا فَقُولي إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما فَلَنْ أُكَلّمَ اليَوْمَ إنْسِيّا فإني سأكفيك الكلام .

وقال آخرون : إنما كان ذلك آية لمريم وابنها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما قال في بعض الحروف : صمتا ، وذلك أنك لا تلقي امرأة جاهلة تقول : نذرت كما نذرت مريم ، ألا تكلم يوما إلى الليل ، وإنما جعل الله تلك آية لمريم ولابنها ، ولا يحلّ لأحد أن ينذر صمت يوم إلى الليل .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، فقرأ : إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما وكانت تقرأ في الحرف الأوّل : صمتا ، وإنما كانت آية بعثها الله لمريم وابنها .

وقال آخرون : بل كانت صائمة في ذلك اليوم ، والصائم في ذلك الزمان كان يصوم عن الطعام والشراب وكلام الناس ، فأذن لمريم في قدر هذا الكلام ذلك اليوم وهي صائمة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فإمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أحَدا يكلمك فَقُولي إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما فَلَنْ أُكَلمَ اليَوْمَ إنْسِيّا فكان من صام في ذلك الزمان لم يتكلم حتى يمسي ، فقيل لها : لا تزيدي على هذا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا} (26)

{ فكلي واشربي وقري عينا }

جملة { فَكُلِي } وما بعدها فذلكة للجمل التي قبلها من قوله { قد جعل ربك تحتك سرياً } أي فأنت في بحبوحة عيش .

وقرّة العين : كناية عن السرور بطريق المضادة ، لقولهم : سَخِنت عينه إذا كثر بكاؤه ، فالكناية بضد ذلك عن السرور كناية بأربع مراتب . وتقدم في قوله تعالى : { وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك } [ القصص : 9 ] . وقرّة العين تشمل هناء العيش وتشمل الأنس بالطفل المولود . وفي كونه قرّة عين كناية عن ضمان سلامته ونباهة شأنه .

وفتح القاف في { وقَرّي عيناً } لأنه مضارع قررت عينه من باب رضي ، أدغم فنقلت حركة عين الكلمة إلى فائها في المضارع لأن الفاء ساكنة .

{ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً فقولى إِنِّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } .

هذا من بقية ما ناداها به عيسى ، وهو وحي من الله إلى مريم أجراه على لسان الطفل ، تلقيناً من الله لمريم وإرشاداً لقطع المراجعة مع من يريدُ مجادلتها ، فعلّمها أن تنذر صوماً يقارنه انقطاع عن الكلام ، فتكون في عبادة وتستريح من سؤال السائلين ومجادلة الجهلة .

وكان الانقطاع عن الكلام من ضروب العبادة في بعض الشرائع السالفة ، وقد اقتبسه العرب في الجاهلية كما دلّ عليه حديث المرأة من أحمس التي حجّت مُصمتة . ونسخ في شريعة الإسلام بالسنة ، ففي « الموطأ » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس فقال : ما بال هذا ؟ فقالوا : نذر أن لا يتكلم ولا يستظل من الشمس ولا يجلسَ ويصوم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مروه فليتكلم وليستظل وليجلس وليُتم صيامه " وكان هذا الرجل يدعَى أبا إسرائيل .

وروي عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم ، فقال لها : « إن الإسلام قد هدم هذا فتكلمي » . وفي الحديث أن امرأة من أحْمَسَ حجّت مُصمتة ، أي لا تتكلّم . فالصمت كان عبادة في شرع من قبلنا وليس هو بشرع لنا لأنه نسخه الإسلام بقول النبي صلى الله عليه وسلم « مروه فليتكلّم » ، وعملِ أصحابه .

وقد دلّت الآثار الواردة في هذه على أشياء :

الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الوفاء بالنذر في مثل هذا ، فدلّ على أنه غير قربة .

الثاني : أنه لم يأمر فيه بكفارة شأن النذر الذي يتعذر الوفاء به أو الذي لم يسم له عمل معيّن كقوله : عليّ نذر . وفي « الموطأ » عقب ذكر الحديث المذكور قال مالك : ولم يأمره بكفارة ولو كانت فيه كفارة لأمره بها فدلّ ذلك على أنه عمل لا اعتداد به بوجه .

الثالث : أنه أومأ إلى علّة عدم انعقاد النذر به بقوله : « إن الله عن تعذيب هذا نفسَه لغنيّ » .

فعلمنا من ذلك أنّ معنى العبادة أن تكون قولاً أو فعلاً يشتمل على معنى يكسب النفس تزكية ويبلغ بها إلى غاية محمودة مثل الصوم والحج ، فيُحتمل ما فيها من المشقة لأجل الغاية السامية ، وليست العبادة بانتقام من الله لعبده ولا تعذيب له كما كان أهل الضلال يتقربون بتعذيب نفوسهم ، وكما شرع في بعض الأديان التعذيب القليل لخضد جلافتهم .

وفي هذا المعنى قوله تعالى : { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } [ الحج : 36 37 ] ، لأنهم كانوا يحسبون أن القربة إلى الله في الهدايا أن يريقوا دماءها ويتركوا لحومها ملقاة للعوافي .

وفي « البخاري » : عن أنس « أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخاً يُهادَى بين ابنيه فقال : ما بال هذا ؟ قالوا : نذر أن يمشي . قال : إن الله عن تعذيب هذا نفسَه لغنيّ . وأمره أن يركب » ، فلم ير له في المشي في الطواف قربة .

وفيه عن ابن عباس : « أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ وهو يطوف بالكعبة بإنسان رَبط يده إلى إنسان بِسِيَرٍ أو بخيط أو بشيء غير ذلك ، فقطعه النبي بيده ثم قال : قده بيده » .

وفي « مسند أحمد » عن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاصي : " أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك رجلين وهما مقترنان . فقال : ما بالهما ؟ قالا : إنّا نذرنا لنقترنن حتى نأتي الكعبة ، فقال : أطلقا أنفُسكما ليس هذا نذراً إنما النذر ما يبتغى به وجه الله " وقال : إسناده حسن .

الرابع : أنّ الراوي لبعض هذه الآثار رواها بلفظ : نهى رسول الله عن ذلك ، ولذلك قال مالك في « الموطأ » عقب حديث الرجل الذي نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس : « قال مالك : قد أمره رسول الله أن يتمّ ما كان لله طاعة ويترك ما كان لله معصية » .

ووجه كونه معصية أنه جراءة على الله بأن يعبده بما لم يشرع له ولو لم يكن فيه حَرج على النفس كنذر صمت ساعة ، وأنه تعذيب للنفس التي كرّمها الله تعالى من التعذيب بوجوه التعذيب إلا لعمل اعتبره الإسلام مصلحة للمرء في خاصته أو للأمة أو لدرْء مفسدة مثل القصاص والجَلد . ولذلك قال : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً } [ النساء : 29 ] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنّ دماءكم وأموالكم وأنفسكم وأبْشاركم عليكم حرام " لأن شريعة الإسلام لا تُناط شرائعها إلاّ بجلب المصالح ودَرء المفاسد .

والمأخوذ من قول مالك في هذا أنه معصية كما قاله في « الموطأ » . ولذلك قال الشيخ أبو محمد في « الرسالة » : « ومَن نذر معصية من قتل نفس أو شرب خمر أو نحوه أو ما ليس بطاعة ولا معصية فلا شيء عليه ، وليستغفر الله » ، فقوله : « وليستغفر الله » بناء على أنه أتى بنذره مخالفاً لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه . ولو فعل أحد صمتاً بدون نذر ولا قصد عبادة لم يكن حراماً إلا إذا بلغ إلى حد المشقة المضنية .

وقد بقي عند النصارى اعتبار الصمت عبادة وهم يجعلونه ترحماً على الميت أن يقفوا صامتين هنيهة .

ومعنى { فقولي إني نَذَرْت للرحمن صَوْماً } فانذري صوماً وإن لقيت من البشر أحداً فقولي : إنّي نذرت صوماً فحذفت جملة للقرينة . وقد جعل القول المتضمن إخباراً بالنذر عبارة عن إيقاع النذر وعن الإخبار به كناية عن إيقاع النذر لتلازمهما لأن الأصل في الخبر الصدق والمطابقة للواقع مثل قوله تعالى : { قولوا آمنا بالله } [ البقرة : 136 ] . وليس المراد أنها تقول ذلك ولا تفعله لأن الله تعالى لا يأذن في الكذب إلاّ في حال الضرورة مع عدم تأتّي الصدق معها ، ولذلك جاء في الحديث : " إن في المعاريض مندوحة عن الكذب " .

وأطلق القول على ما يدلّ على ما في النفس ، وهو الإيماء إلى أنها نذرت صوماً مجازاً بقرينة قوله { فلن أُكلِمَ اليَوْمَ إنْسِيّاً } . فالمراد أن تؤدي ذلك بإشارة إلى أنها نذرت صوماً بأن تشير إشارة تدلّ على الانقطاع عن الأكل ، وإشارةً تدل على أنها لا تتكلّم لأجل ذلك ، فإن كان الصوم في شرعهم مشروطاً بترك الكلام كما قيل فالإشارة الواحدة كافية ، وإن كان الصوم عبادة مستقلة قد يأتي بها الصائم مع ترك الكلام تشير إشارتين للدلالة على أنها نذرت الأمرين ، وقد علمت مريم أنّ الطفل الذي كلّمها هو الذي يتولى الجواب عنها حِين تُسأل بقرينة قوله تعالى : { فأشارت إليه } [ مريم : 29 ] .

والنون في قوله { تَرَيِنَّ } نون التوكيد الشديدة اتصلت بالفعل الذي صار آخره ياء بسبب حذف نون الرفع لأجل حرف الشرط فحركت الياء بحركة مجانسة لها كما هو الشأن مع نون التوكيد الشديدة .

والإنْسِي : الإنسان ، والياء فيه للنسب إلى الإنس ، وهو اسم جمع إنسان ، فياء النسب لإفادة فرد من الجنس مثل : ياء حَرْسي لواحد من الحرس . وهذا نكرة في سياق النفي يُفيد العموم ، أي لن أكلم أحداً .

وعدل عن أحد إلى { إنسياً } للرّعي على فاصلة الياء ، وليس ذلك احترازاً عن تكليمها الملائكة إذ لا يخطر ذلك بالبال عندالمخاطبين بمن هيئت لهم هذه المقالة فالحمل عليه سماجة .