فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا} (26)

{ فَكُلِي واشربي } أي من ذلك الرطب وذلك الماء ، أو من الرطب وعصيره ، وقدّم الأكل مع أن ذكر النهر مقدّم على الرطب ، لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشدّ من احتياجها إلى شرب الماء ، ثم قال : { وَقَرّي عَيْناً } قرأ الجمهور بفتح القاف . وحكى ابن جرير أنه قرئ بكسرها ، قال : وهي لغة نجد . والمعنى : طيبي نفساً وارفضي عنك الحزن ، وهو مأخوذ من القرّ والقرّة وهما البرد ، والمسرور بارد القلب ساكن الجوارح . وقيل : المعنى : وقرّي عيناً برؤية الولد الموهوب لك . وقال الشيباني : معناه : نامي . قال أبو عمرو : أقرّ الله عينه ، أي : أنام عينه وأذهب سهره { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً } أصله : ترأيين : مثل تسمعين خففت الهمزة وسقطت النون للجزم وياء الضمير للساكنين بعد لحوق نون التوكيد ، ومثل هذا مع عدم لحوق نون التوكيد قول ابن دريد :

أما ترى رأسي حاكى لونه *** طرة صبح تحت أذيال الدجى

وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة " ترين " بسكون الياء وفتح النون مخففة . قال أبو الفتح : وهي شاذة ، وجواب الشرط { فَقُولِي إِنّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً } أي قولي إن طلب منك الكلام أحد من الناس إني نذرت للرحمن صوماً أي صمتاً وقيل : المراد به : الصوم الشرعي ، وهو الإمساك عن المفطرات ، والأوّل أولى . وفي قراءة أبيّ : ( إني نذرت للرحمن صوماً صمتاً ) بالجمع بين اللفظين ، وكذا روي عن أنس . وروي عنه أنه قرأ : «صوماً وصمتاً » بالواو ، والذي عليه جمهور المفسرين أن الصوم هنا : الصمت ، ويدل عليه { فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً } ومعنى الصوم في اللغة : أوسع من المعنيين . قال أبو عبيدة : كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم . وقراءة أبيّ تدل على أن المراد بالصوم هنا الصمت ، لأنه تفسير للصوم . وقراءة أنس تدل على أن الصوم هنا غير الصمت كما تفيده الواو . ومعنى { فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً } أنها لا تكلم أحداً من الإنس بعد إخبارهم بهذا الخبر ، بل إنما تكلم الملائكة وتناجي ربها وقيل : إنها لم تخبرهم هنا باللفظ ، بل بالإشارة المفيدة للنذر .

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } قال : مكاناً أظلها الشمس أن يراها أحد منهم .

/خ26