فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا} (26)

{ فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ( 26 ) فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا ( 27 ) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ( 28 ) فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ( 29 ) قال إني عبد الله آتني الكتاب وجعلني نبيا ( 30 ) وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ( 31 ) } .

{ فكلي } من ذلك الرطب { واشربي } من ذلك الماء أو من عصير الرطب وقدم الأكل مع أن ذكر النهر مقدم على الرطب لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء .

ثم قال : { وقري عينا } قرأ الجمهور ، بفتح القاف ، وقرئ بكسرها ، قال ابن جرير : هي لغة نجد ، والمعنى طيبي نفسا وارفضي عنك الحزن وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد ، والمسرور بارد القلب ساكن الجوارح ، وذلك أن العين إذا فرح صاحبها كان دمعها قارا أي باردا وإذا حزن كان دمعها حارا ، ولذلك قالوا في الدعاء عليه : أسخن الله عينه .

وقيل : المعنى وقري عينا برؤية الولد الموهوب لك ، وقال الشيباني : معناه نامي ، قال أبو عمرو : أقر الله عينه أي أنام عينه ، وأذهب سهره ، وقيل مأخوذ من الاستقرار أي أعطاها الله ما يسكن عينها ، فلا تطمح إلى غيره .

{ فإما ترين } أصله ترأيين مثل تسمعين { من البشر أحدا فقولي } أي إن طلب منك الكلام أحد من الناس فقولي ، وبهذا المقدر يتخلص من إشكال وهو أن قولها فلن أكلم اليوم إنسيا ، كلام فيكون ذلك تناقضا لأنها قد كلمت إنسيا بهذا الكلام ، وقيل قوله فقولي أي بالإشارة وليس بشيء ، بل المعنى فلن أكلم اليوم إنسيا بعد هذا الكلام قاله السمين .

{ إني نذرت للرحمان صوما } قيل المراد به الصوم الشرعي ، وهو الإمساك عن المفطرات{[1158]} والأول أولى ، وفي قراءة أبيّ صوما صمتا بالجمع بين اللفظين ، وكذا روي عن أنس وروي عنه الواو بينهما ، والذي عليه جمهور المفسرين أن الصوم هنا الصمت ، ويدل عليه فلن أكلم اليوم إنسيا كما سيأتي ومعنى الصوم في اللغة أوسع من المعنيين .

قال أبو عبيدة : كل ممسك من طعام أو كلام أو سير فهو صائم ، وقراءة أبي تدل على أن المراد بالصوم هنا الصمت ، لأنه تفسير للصوم ، وقراءة أنس تدل على أن الصوم هنا غير الصمت كما يفيده الواو ، ومعنى { فلن أكلم اليوم إنسيا } أنها لا تكلم أحدا من الإنس بعد إخبارهم بهذا الخبر ، بل إنما تكلم الملائكة وتناجي ربها .


[1158]:قوله(والأول أولى) لم يذكر الأول وأصل التركيب بعد قوله: {صوما} أي إمساكا وسكوتا، وقيل المراد إلخ فتأمل أ هـ مصححة.